“التعليم”..من طه حسين إلى وزير الـ”أون لاين”

حتى الآن، لا نعرف ما إذا كان وزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف، قد حصل بالفعل على درجة الدكتوراة “أون لاين”، كما ادَّعى، أم إن سيرته الذاتية التي بثتها وسائل الإعلام، فور إعلان تكليفه بالحقيبة الوزارية، كانت زيفًا وبهتانًا، أو على أقل تقديرٍ، شهادته غير معترف بها.

أغلب الظن، وليس كلُّ الظن إثمًا، أن الوزير لم يحُز الدرجة العلمية، والدليل أن الدكتور مدبولي رئيس الحكومة، ردَّ على سؤال لصحفي حول ذلك، بأن الدرجة العلمية ليست معيار الاختيار، وإنما هي الخبرة والكفاءة، ثم ما لوحظ بعدئذٍ، من أن الصحف والمواقع حذفت حرف الدال، الذي كان يسبق اسم الوزير، فإذا به عبد اللطيف “حاف”.

حسنًا.. إن الوزير ليس إذن من حملة الدكتوراه، ما لم يثبت العكس.. فما الخبرات التي يُفترض أن تكون استثنائية لتسويغ اختياره لحقيبة التعليم المفخخة بالأزمات؟

إنْ كانت إدارته مدرسة السيدة الفاضلة والدته، كريمة المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع إبَّان حرب أكتوبر، من تلك المسوغات، فلا بأس، لكن الكارثة المستعجلة، والطامة الكبرى، وخيبة الأمل التي تركب الجمل، أن تكون هذه هي كل المسوغات.

تكليف مدير مدرسة بإدارة ملف التعليم المصري، على ما يعتريه من أمراض مستوطنة، أشبه ما يكون بتكليف مقاول لا يفكُّ الخط، ولا يعرف الألف من كوز الذرة، بالتخطيط العمراني لمعالجة اختناق المرور في القاهرة الكبرى.

إدارة مدرسة خاصة، تندرِّج تحت إطار المشروعات الاستثمارية، الرامية إلى تحقيق أعلى الأرباح بأقل كلفة، وفي أقل مدى زمني، في حين لا تستعجل الدول الأرباح من الاستثمار في التعليم.

مكاسب الدول من الاستثمار في التعليم تراكمية، فالأمر ليس “سبوبة”، أو “هبرة” على حد التعبير السوقي المبتذل والقبيح.

التعليم الحكومي لا يُدار على طريقة محلات البقالة أو “الكانتين”، فكل جنيه يُنفق اليوم، سيعود أضعافًا مضاعفة، لكن على المدى البعيد.

هل سيتكرَّم أحدٌ بالإجابة على السؤال بشأن خبرات الوزير “منزوع الدال”؟

اقرأ أيضاً :  إلى الحكومة الجديدة.. كفاية “سداح مداح”

زمن الأسئلة الممنوعة

ظني أن أحدًا لن يجيب، فنحن في زمن الأسئلة ممنوعة محرمة، وعلينا أن نسكت، إذ نرى وزيرًا يتولى أهم وزارة في مصر -وهذه ليست مبالغة- من دون أن نعرف ما إذا كان مؤهلًا لإدارتها، أم أنه كأسلافه الذين خربوها وقعدوا على تلِّها، ثم ذهبوا إلى بيوتهم آمنين.

سيُجرِّب ويقرر ويتراجع في القرار، لست أملك كرة بلورية لاستشراف المستقبل، ولا أفتح المندل، لكن كذلك تجري الأمور، وبعد أن تقع الفأس في رأس المواطن فتفلقها فلقَتينِ، سيأتي وزيرٌ آخر ليجرِّب ويقرر ويتراجع، و”دوّخيني يا ليمونة”.

ما دامت معايير الاختيار غامضة، والأسئلة بغير إجابات، فمن حقنا أن نقول إنه منهج أهل الثقة، لا أهل الخبرة، فالمسؤول الأكبر يريد مسؤولًا من تحته يهز رأسه موافقةً، ويردُّ: “عُلِم ويُنفَّذ”.

إنْ تجاوزنا الغموضَ حول خبرات الوزير، وارتكنا إلى إحسان الظن، فلا بد من سؤال آخر، بشأن واقعة الدكتوراة، فهل تعمَّد الوزير تقديم معلومات مغلوطة؟ وهل الحكومة التي ترصد “دبة النملة” لم تعلم بالأمر، وتلك مصيبةٌ، أم كانت تعلم وغضت الطرف، وتلك مصيبة أكبر؟

ليس متوقعًا أن يجيب أحدٌ أيضًا، فلا حياة لمن ننادي، ومن ثم فالمفترض أن نطلب إعمالًا واحترامًا للقانون، بالتحقيق في الواقعة، التي تنتمي إلى جرائم الجنايات أو الجُنح -بحسب نوعية المستند القانوني “المضروب” ذلك أنه لا ينبغي أن يكون هناك فرق، بين وزير أو غفير، فالناس سواسية كأسنان المشط أمام القانون.

سينط القارئ في وجهي مستنكرًا: باللهِ عليكَ هل تصدق هذا الهراء؟

نعم.. أصدِّقه وأؤمن به، لكن من حيث المبدأ، وليس من حيث الممارسة، التي نعلم جميعًا ما يشوبها من اعتلالات، وهي اعتلالاتٌ يمكن اختزالها في جملة عفوية سائبة، لأحد أعضاء اتحاد المصارعة، بعد حبس لاعب مصري لاتهامه بالتحرش في باريس: “في فرنسا لا نستطيع إخراجه من السجن بالواسطة والعلاقات”، وكذلك في صرخة المطرب محمد فؤاد في وجه طبيب: “أنت ما تعرفش أنا مين”.

هو الواقع وهو قبيح، لكن الكاتب ينشد أن يكون المُفترضُ مفروضًا، ويأبى تطفيف الميزان من حيث المبدأ، ومهما يكن الواقع خانقًا مكفهرًا، لن يستسيغ التماهي فيه.

وبعيدًا عن مسوغات الاختيار، ومسألة الدكتوراة المزعومة، فإن الوزير الذي لم يُمضِ شهرًا في منصبه، أصدر قرارات فجائية، أضفت شكوكًا متزايدة على كفاءته.

تمثلت تلك القرارات في إلغاء دراسة اللغة الأجنبية الثانية، وقصر دراسة الجغرافيا والفلسفة وعلم النفس، على طلاب القسم الأدبي، ثم ألغى بعدئذٍ بأيامٍ علم النفس والفلسفة، من مقررات الأدبي، والجيولوجيا وعلوم البيئة من القسم العلمي.

وزير جاء بذرائع غامضة، هرع إلى قرارات غامضة، سيكون من شأنها أن “تُشقلّب” النظام التعليمي المصري، أكثر مما هو عليه من “شقلَّبة”، وهو حين فعل لم يُخضِع الأمر لنقاش مجتمعي مع الخبراء والمختصين، ولم يعرضه على البرلمان، ولم تطرحه وسائل الإعلام، اللهم إلَّا ما استبقه من تمهيد، من قِبل مذيعٍ نطق جهلًا أو بالأحرى “نهق جهلاً”، حين استصغر مردود تدريس الجغرافيا والتاريخ.

إن أردنا التطرق إلى سلبيات إلغاء الفلسفة، فبوسعنا أن نعود إلى الأبجديات المعرفية، ومنها أن الحضارات البشرية، لم تنطلق إلا حين وعى الإنسان ذاته، ومن بعد ذلك وعى الكون بأسره، وبمعنى أكثر تحديدًا، فإن ذلك حدث مع صيحة أبي الفلاسفة سقراط: “اعرف نفسك”.

اقرأ أيضاً : “يفيد بإيه التعليم في بلد ضايع أو بيضيع”.. المأساة والمهزلة

ما بين الفلسفة والتاريخ

التعريف اللغوي للفلسفة، يذهب إلى أنها محبة الحكمة، ومن ثم فإن الأحمق فقط، هو الذي يتساءل عن جدواها.

كما تتصل الفلسفة اتصالًا وثيقًا بالتاريخ، فكلاهما يرفد الآخر ويمده بالأفكار.

صحيحٌ أن التاريخَ لمْ يُلغَ من المناهج، “حتى الآن”، لكن الهمهمات الإعلامية بأنه “ليس مهمًا”، تشي بما وراء الأكمة.

والمؤكد أن الذي يلغي الجغرافيا والجيولوجيا، وهما علمان يتصلان بواقع الوطن، أرضًا وحدودًا ومقدراتٍ اقتصادية واعتباراتٍ استراتيجيةً وهويةً حضارية، لن يتوَّرع عن إلغاء التاريخ.

إلغاء الجغرافيا من مناهج البلد، التي تُعدُّ أول دولة ذات حدود متمايزة على كوكب الأرض، يشي بأن القائمين على أمور التعليم، منفصلون كل الانفصال عن واقعنا الحضاري، وبعيدون عن مفاهيم الهوية، باستثناء ما يتصل منها، بالأناشيد الحماسية الزاعقة في طوابير الصباح.

إنْ اتسعت زاوية الرؤية، سيتضح أن شطب الجغرافيا والتاريخ معًا، ليس مقتصرًا، ولن يكون مقتصرًا، على مناهج الدراسة فحسب، لكنه إزاءنا في كل مكان، فأينما نُوَّلي وجوهنا، نرى معالم أثرية، غدت أطلالًا تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، من أجل بناء كوبري أو شق طريق.

ليست جملة سائبة أو هتافًا أجوف، أن التاريخ هو مخزن الدروس البشرية، وما من مبالغةٍ في أن الإنسان وفق أحد التعريفات، “حيوان له تاريخ”، ذلك أنه المخلوق الوحيد الذي يتعلَّم من خبرات أسلافه، ويراكم عليها وينقلها للأجيال اللاحقة.

في ذلك يقول الراحل أحمد بهاء الدين: كل الكائنات تفكر بالدرجة التي تكفل الحفاظ على البقاء، فالإنسان ليس حيوانًا مفكرًا، وبعضها تتكلم كالببغاوات، فليس إذن ناطقًا، وبعضها اجتماعي كالذئاب، فليس اجتماعيًا كذلك، غير أن الإنسان وحده، ينفرد بالقدرة على تدبِّر ما أصابه أسلافه وما أخطأوه، فيبدأ من حيث انتهوا.

من دون عودة متأنية للتاريخ، لا خطوة إلى الأمام، بل إن القرآن الكريم في كثيرٍ منه، يُعدُّ كتابًا تاريخيًا، إذ يروي سير الأولين وأخبارهم، لاستكناه العبرة والعظة، وليتدَّبر أولو الألباب: “نحن نقصُّ عليكَ أحسنَ القصص”.

من نكد الدنيا أن نكتب في البلد الذي يوصف دائمًا، بأن فجر التاريخ انبثق من على ضفتي نهره العظيم، عن أهمية التاريخ، بعد إلغاء تدريس الجغرافيا.

الواضح أن آلية اختيار الوزير، أفضت إلى آلية اتخاذه قراراته، فالأمور في سياق المنهج الفردي الفوقي؛ المقدمات تؤدي إلى النتائج، فالسلطة المطلقة مفسدةٌ مطلقة.

المسؤول وحده يعرف، هو الفيلسوف الذي يلغي الفلسفة، وهو الحكيم الذي يستصغر أهمية التاريخ، والترجمان الذي لا يرى جدوى في تدريس اللغة الثانية، وهو الكل في الكل، وإليه الأمر من قبل ومن بعد.

وزير التربية والتعليم “منزوع الدال”، يشبه زمانه من حيث عدم تقدير معاني الأشياء، أو بالأحرى معنوياتها، والاقتصار في حساب الأمور على منطق البنكنوت، وفق ثقافة “أهم حاجة الفلوس”.

مؤسف حقًا أن يؤول الحال إلى هذا الحضيض، ومحزن للغاية أن يتولى ملف أخطر وزارات مصر، رجلٌ مشكوك في شهادته العلمية، وأن يجلس هذا الذي لا نعرف من خبراته العملية، إلا إدارته مدرسة السيدة والدته، إلى الكرسي الذي جلس إليه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ذات يوم.

طه حسين الذي يقول إن التعليم كالماء والهواء، الضرير الذي أبصر، حتى إن شاعرنا نزار قباني رثاه: “ارمِ نظارتيكِ ما أنتَ أعمى/ بل نحنُ جوقةُ العميانْ/ سقطَ الفكرُ في النفاقِ السياسي/ وصار الأديبُ كالبهلوان”.

في الحقيقة أن الأديب لم يعد وحده بهلوان، فالبهلوانات حولنا في كل مكان، والظاهر أن الواقع، أو ربما “سوق العمل” يتطلب بهلوانات وحواة ودجالين، لا علماء ومفكرين ومؤرخين وفلاسفة وكتابًا مستقلين.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة