بدويات سيناء.. من الأودية الخضراء إلى الأبنية الخرسانية

“يا بنت ياللي هالعة باللثام.. ياللي تحطين على الحنك حبر ووشام/ ياللي تقولون وصفنا مطر شاني.. حب البرد بيض الثنايا ولو قام / مسهي برمش العين رقد الحمام.. وتقول موجوعةً على نعاس لو نام / وشعور مكفيات عرجون زام.. على الصدر مرخيات والصلب بحزام”.. ضيف الله سالم، شيخ أحد مشايخ قبيلة اللحيوات.

على الأغلب لا يعِ البعض أن للمرأة البدوية رأيها الخاص في شؤون حياتها، ولعل القصيدة السابقة تَلِفت الانتباه إلى حرية النساء في البادية وحبهن للتزين والوشم.

“بلادنا دافية، تبصين على الرملة تحسّين بالدفا. تبصين لبيتك تحسّين بالدفا، ولما تشوفين الناس تلاقي الدفا. كان عندنا حرية، رغم أننا بنات وبدويات، لكن كنا براحتنا ونخرج لأرضنا من دون نقاب. بس هناك أراضينا كانت كبيرة، فكان عندنا حرية أكثر من أي مكان آخر عشنا فيه.” كما عبرت “فاطمة” عن الحياة في شمال سيناء.

انتقلت فاطمة من صحراء شمال سيناء إلى المدينة، فتغيرت ملامح الحياة الواسعة التي نشأت عليها، بل أصبحت تسكن في شقة سكنية في أحد العمارات، بعدما عاشت في براح البادية ونعمت بدفئها.

فاطمة خلف، إحدى بدويات قبيلة السواركة من شمال سيناء، تقول لـ “فكّر تاني” إن المرأة البدوية أكثر حرية من النساء في مجتمعات الحضر. فالنساء ما زلن يحتفظن ببدويتهن ولا تُثقلهن الأعباء، كما أن بدو شمال سيناء ما زالوا يمارسون العديد من التقاليد القديمة كما كان الحال قبل قرن أو قرنين.

ترى خلف أن الأعباء المنزلية والمهنية لا تشغل حيزًا من تفكير البدوية، فهي: “حُرة طليقة بين الأودية والجبال ولا يشغلها سوى أغنامها وزرعها -إن امتلكت أرضًا زراعية- وتهتم بتحضير وجبات نباتية بسيطة للزوج والأطفال، فبدو سيناء لا يعنيهم الكثير من المأكولات الدسمة أو وجبات اللحم”.

اقرأ أيضًا:عن التهميش والانتماء.. بدو سيناء في عيون زوارها

البدوية قديمًا

يقول المؤرخ اللبناني نعوم بك شُقير في كتابه “تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها”: “فتيات البدو كُن يرفضن الزواج من الحضر خوفًا من أن يسلبهن الحضري حريتهن، فنساء سيناء مولعات بالسفر والترحال في البادية”.

غلاف كتاب تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها
غلاف كتاب تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها

في النهاية، البدوية هي إنسانة تخضع للعادات والتقاليد، ولكن لها اختيارها الذي يؤثر بدوره في ثقافتها، والتي تتأثر بها. فتهتم البدوية بشؤونها في الملابس، والاهتمام بأدوات التجميل والعناية الشخصية.

تطورت ملابس البدوية على مر السنوات حتى وصلت إلى العباءات والنقاب اليوم، ولكنها بدأت بألوان زاهية. حتى وسائل الترفيه، سواء كانت رحلات الجبال أو البحر، فقد أصابتها التغيرات العديدة على مدار عقود من الزمن.

كما يذكر شقير في كتابه، على لسان أحد المشايخ، أنهم ينتقلون في الصيف أثناء موجات القيظ إلى منطقة يكثر فيها الكلأ (الأعشاب الرطبة) ليقوموا بالتخييم فيها. وهناك يتشارك كل الأفراد في واجبات مقسمة؛ فيرعى الشباب الإبل، وترعى الفتيات الأغنام، وتقوم النساء بتحضير الطعام، بينما يظل الرجال في خيمة يشربون القهوة ويعزفون على الربابة.

كان وقتها للنساء حرية الحركة على الإبل والحمير، كما يصف شُقير ركوب المرأة للإبل بأنه كالرجل. في ذلك الوقت، لم يكن البدو يخيمون قرب البحر كما هو الحال اليوم، فالبدو آنذاك كانوا يهابون البحر، ولم يكن لهم ارتباط به سوى القليل ممن اصطادوا المرجان في خليج العقبة.

تميزت نساء البدو، كما جاء في “تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها”، بالرشاقة وخفة الحركة وذكاء العيون وسُمرة اللون. كن يلبسن ثوبًا مُطرزًا يُطلق عليه “أبو ردن” لونه أزرق، لكنهن يُغيرن لونه بصبغات من جذور النباتات، وكن يتحزمن بحزام من شعر أسود أو أبيض يحيكونه في البادية. وقد يلبسن فوقه حزامًا أحمر تتدلى منه شراريب قد تصل إلى الركبة، وكانت نعالهُن حمراء.

الزي البدوي للنساء
الزي البدوي للنساء

كانت نساء شمال ووسط سيناء يُضفرن شعورهن ضفائر يرخينها على أكتافهن، بينما ضفرت نساء الجنوب شعرهن ضفيرة واحدة بارزة فوق رؤوسهن، وقد يعلّقن في رأس الضفيرة خرزة زرقاء لرد العين الشريرة، وأحيانًا كُن يرخين ضفيرتين على الصدر.

أما اللثام، فهو جزء أصيل من ملابس البدو، ولعله أكثر قطعة أخذت في التطور عبر الزمن. يقول شُقير إن البدويات كن يلبسن البرقع الذي لا يُظهر سوى العينين، وكان يتم تطريز البرقع بخيوط حريرية مختلفة الألوان.

ويقول شُقير عن الحُلي التي تزينت بها البدويات وقتها إنهن كن يُعلّقن في أعناقهن عقودًا من الخرز والسوميت والفضة، ويرتدين خواتم ضخمة من الفضة أو القصدير، بينما يلبسن أساور الفضة والزجاج وخلاخيل الفضة.

نعوم بك شقير
نعوم بك شقير

في ذلك الوقت، لم تكن البدويات يثقبن آذانهن، بل كن يثقبن أنوفهن ويلبسن الأشناف، وهو القرط المعلق أعلى الأذن أو أسفلها، وكان من الذهب أو الفضة. وفي مدن البادية كالطور، كانت البدويات يلبسن أقراط الأذن كنساء الحضر.

وبحسب شُقير، فإن البدويات في سيناء كن مغرمات بالوشم، فكن يرسمنه على الشفة السفلى وظاهر اليدين من ظهر الكف إلى المعصم والكوع، وقد يضعن الوشوم أحيانًا على الخدود بدقة.

اقرأ أيضًا:البدو كفئة مهمشة

البدوية الآن

“تطور نقاب البدوية على مر السنين، فبدأ بالبُرقع، ثم مر بمرحلة “الوقاه”، وهو وشاح مثل الشال يُغطي رأس المرأة، ثم “القُنعة”، وهو وشاح من القطيفة الأصلي يُجلب من السعودية خصيصًا لتتغمغم به المرأة البدوية.”

والتغمغم، كما وصفته فاطمة خلف، هو تغطية الوجه بحيث يظهر منه عين واحدة. وتقول: “المرأة البدوية تستحي من كشف فمها، فهي كانت محجبة لسنوات عديدة حتى أصبحت تستحي من إظهار كامل وجهها، فارتدت النقاب.”

وبحسب حديث خلف، لم تكن القنعة عملية كفاية، فعند حمل المرأة لطفلها قد تطير القنعة عن رأسها، وهذا ما جعل البدويات يتجهن للنقاب حديثًا، فهو ثابت على الوجه وأكثر عملية من المراحل السابقة.

وتستكمل حديثها حول ملابس البدوية، قائلة إن الثوب البدوي المطرز كان مقتصرًا على الثوب الذي كان لكل قبيلة لون يميزها: “كنا نرتدي الأحمر، والأصفر كان لقبيلة قريبة منا، بينما كان الثوب البنفسجي للفلسطينيات.”

بينما تقول الصديقة منال رشدان إن والدتها حتى يومنا هذا لم ترتدِ النقاب، فهي تكتفي باللثام، وهو رفع جزء من حجابها على فمها.

اقرأ أيضًا: نصف مصرية نصف بدوية: مستقلات من دهب

تعيش منال في دهب بجنوب سيناء، وهي فتاة مرحة تحب الحياة والتنقل. تستمتع منال بقضاء يومها في الأودية، ففي الصيف تخطط مع صديقاتها لرحلة خلوية إلى أحد أودية دهب، حيث يتشاركن في شراء العصائر والدقيق، ثم يُشعلن النار للقهوة والشاي، ويحضّرن خبز الطبانة المدفون في الرمل، بالإضافة إلى شوي الباذنجان والخضار.

تذهب منال وصديقاتها إلى الأودية معتدلة الأجواء في الصيف أو إلى الشواطئ النائية لتكون على حريتها أثناء السباحة. أما في الشتاء، فيخترن الأودية الدافئة لقضاء يوم مليء بالمرح والنشاط والضحك.

تقول منال إن ملابس المرأة البدوية اليوم هي الجلابيب، وفوقها عباءة سعودية أو قفطان، وعلى كل ذلك النقاب، فهو بديل عن اللثام الذي يمثل عنصرًا أساسيًا في الثقافة البدوية.

دوام الحال من المُحال

المرأة في البادية
المرأة في البادية

تؤمن فاطمة خلف أن المجتمعات تمر بتغيرات ملحوظة، وأن هذا من طبيعة الحال، ولكن البدو يسعون للتطور دون التخلي عن ثقافتهم. فمثلًا، كانت البدويات شغوفات بالأوشام، ولكن اليوم أصبحن على دراية بحرمانيتها، فلا يشمن وجوههن، وبدلاً من اللثام الذي حل محله النقاب لأنه أكثر عملية.

وتُضيف أن المجتمع البدوي له عاداته وتقاليده التي يجب احترامها، وأن البدو لا يفرضون هذه التقاليد على بعضهم، ولكنهم يسعون معًا كعائلة واحدة، مع احترام الخيارات الشخصية. فهناك بدويات تخلين عن اللثام والنقاب، وهذا أمر مقبول، وهناك بدويات نجحن في التعليم وحصلن على فرص عمل كطبيبات ومعلمات، وهؤلاء أيضًا لم يتخلين عن تقاليدهن البدوية.

وتشتاق خلف للحياة في شمال سيناء، فهي تقول إنهم عاشوا في أراض واسعة، كما ذكر شقير في كتابه: “وهؤلاء في الشمال لم يكونوا على دراية بالأسفار والانتقال، فحياتهم داخل أراضيهم الواسعة كانت رائعة، ففي الشتاء يظلون في العرائش البوص بجوار النار، ويشتركون في الأعمال التي تخص الأغنام، بينما يهربون من حرارة الصيف إلى جزء مرتفع في أرضهم، كتلال الرمال، وخاصة في الليالي المقمرة لمراقبة النجوم.”

وتُشير خلف إلى أن الصحوة الإسلامية في المجتمع البدوي غيرت الكثير من مظاهر الحياة، ولكن إلى الأفضل. كما تضيف أن الحروب الطاحنة التي حدثت في شمال سيناء أضافت العديد من التغيرات على حياة المرأة البدوية.

وقبل ذلك، لم يكن يشغل بالها أسواق الخضار، فلم تكن تتسوق، بل كان التسوق أمرًا يقوم به الرجال. وعند وفاة معظم الرجال في بعض العائلات، أصبحت المرأة مضطرة لتحمل مشقة التسوق والخروج للعمل والاعتناء بالمنزل والأطفال.

اقرأ أيضًا:تعليم المرأة أولًا

 ما جعلها تُغير من ملابسها وتبحث عما هو أكثر عملية كما أن معظم النازحات نزحن من أراضيهن الواسعة إلى شقق في عمارات ليس بها مساحة كافية لحياة كحياتهن في البادية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة