قبل أي استحقاق انتخابي يعقب ثورة أو مرحلة صراع سياسي، يطرأ سؤال “ما هو النظام الانتخابي الأفضل؟”، تطرح القوى السياسية هذا السؤال وكأنه الأول وشبه الأخير، في حين أن تحقيق الديمقراطية والمشاركة السياسية السليمة لا تتوقف فقط على النظام الانتخابي، وإنما على منظومة متكاملة من التشريعات والممارسات المبنية على لحظة سياسية لها ملامح واضحة ومقاصد سياسية معلنة.
واللحظة السياسية هي أحد أهم الاعتبارات التي يتم الأخذ بها في عملية اختيار النظام الانتخابي، فعادة ما تتأثر خيارات تصميم النظام الانتخابي، إما بمحدودية وعي القوى السياسية بكافة جوانب العملية الانتخابية ومن بينها النظم الانتخابية، أو على العكس باستغلال القوى السياسية لدرايتها بكافة أطر العملية لتحقيق مصالح سياسية من وراء النتائج المتوقعة من استعمال نظم بعينها.
حول جدال “ما هو النظام الانتخابي الأفضل؟”، كانت ولازالت تدور جلسات ومباحثات ومفاوضات بين الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية المختلفة، والتي كنت شاهدة على الكثير منها في أخر 15 سنة، واشتركت ببعضها بصفتي المهنية سواء في في ليبيا عام 2013 أو تونس عام 2014 أو لبنان عام 2016.
لا شك أن اختيار النظام الانتخابي من أهم القرارات في مسيرة أي نظام يسعى لإقامة حياة ديمقراطية سليمة، لكن ديمقراطية الانتخابات لا تتحقق في يوم الاقتراع وحده ولا عبر تطبيق نظام انتخابي “نموذجي”، فمن المعلوم بالضرورة أن العملية الانتخابية ليست ركنًا واحدًا يتمثل في اختيار نظام انتخابي متعارف عليه دوليًا ومنصوح به من الخبراء الدوليين، وإنما هي منظومة متكاملة لا تنتج آثارها المرغوبة إذا انتقص منها أيًا من أركانها أو استعمل في غير موضعه.
إلى جانب أنها عملية متكاملة ومستمرة وليست موسمية، فهي أيضًا تدور في إطار تشريعي يتضمن “النظام الانتخابي، تقسيم الدوائر، وإدارة الانتخابات”، وكلها تشريعات يجب أن تراعي بالأساس تركيبة “الناخب”، حيث أن العملية الانتخابية بالأساس عبارة عن ترجمة أصوات الناخبين إلى عدد من المقاعد في الهيئات التمثيلية، من هنا تصبح أهم قاعدة جوهرية يتعلمها ممارسو ومراقبو الانتخابات هي أن أهم مؤشر نجاح للانتخابات هو “رضاء الناخبين”، فشعور الناخب بعدالة نتائج الانتخابات وبأن صوته ممثل في الهيئة التمثيلية هو ما يدفعه للمشاركة في كل الاستحقاقات.
اقرأ أيضًا:النظام الانتخابي..الفريضة الغائبة ( 1 )
فهل يجب أن يكون النظام الانتخابي “الأفضل أم الأنسب؟”
للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعلم أن النظم الانتخابية المعروفة في العالم هي 12 نظامًا تقع تحت 3 عائلات كبرى؛ الأولى: عائلة نظم الأغلبية وهي تقوم على مبدأ أساسه فوز المرشح أو الحزب الحاصل على أعلى عدد من أصوات الناخبين، وهناك 5 أنواع مختلفة لتحقيق هذه النتيجة “الفائز الأول- نظام الكتلة – نظام الكتلة الحزبية – نظام الصوت البديل- ونظام الجولتين”.
أما العائلة الثانية: فهي نظم التمثيل النسبي وهي تقوم على مبدأ ترجمة حصة أي حزب مشارك في الانتخابات من أصوات الناخبين إلى حصة مماثلة من المقاعد في الهيئة التمثيلية المنتخبة، وتنقسم إلى نوعين من النظم “القائمة النسبية- الصوت الواحد المتحول”.
وتقوم العائلة الثالثة، والتي تستند على النظم المختلطة على فكرة الاستفادة من مميزات النظم النسبية ونظم الأغلبية، فيكون النظام مكون من نظامين انتخابيين مختلفين ويتم الاقتراع عبر النظامين بطريقتين “النسبية المختلطة- النظم المتوازية”، وتعمل إما بالتوازي وبشكل مستقل دون أن تؤثر نتائج نظام على الآخر، وإما يتم تعويض ما قد يحدث من خلل في المقاعد من نتائج النظام الآخر.
أخيرا هناك مجموعة من النظم الأخرى النادرة الاستعمال “الصوت الواحد غير المتحول- الصوت المحدود- نظام بوردا” وتؤدي إلى نتائج تتراوح بين “النسبية” ونتائج “نظم الأغلبية” لكن بطرق اقتراع مختلفة. وتوصي المؤسسات الدولية والخبراء المختصون ببعض الأنظمة دون الأخرى نظرًا لتواتر مميزاتها بالمقارنة بعيوبها.
النظام وحده لا يضمن تحقيق نفس النتائج إذا ما طبق في بلدان مختلفة، ولن يعمل بنفس الطريقة المرجوة، إذا لم يراع السياق الاجتماعي والسياسي ووعي الناخب، وهل هي ديمقراطية راسخة أم ناشئة؟ إلى جانب باقي التشريعات التي تجعل من المشاركة السياسية عملية بسيطة وناجحة ونتائجها تعبر عن رغبات الناخبين الواقعية.
من ذلك، فإن خيار النظام الانتخابي الأفضل؛ هو منظور يغفل الملائمة والسياق ولا يعترف بأننا لم نبذل جهدًا يذكر في تنمية وعي الناخب بخصوص العملية الانتخابية، وهو دور الإدارة الانتخابية وحدها، والتي سنتحدث عنها لاحقًا.
هناك تفاصيل أخرى في باقي العملية الانتخابية لم تحظ بنفس مساحة الجدل بالرغم من أنها تساعد في إنعاش علاقة الناخب بالعملية الانتخابية وشعوره بعدالتها وبأن لصوته تأثير على النتائج.. جوانب عديدة ومترابطة ومحسوبة بدقة لكن سنتناول نقطتين.
نسبة الحسم:
بعض الدول تضع في قوانين الانتخابات نسبة حسم والتي هي؛ النسبة المئوية من مجموع الأصوات التي يجب على الحزب تخطيها من أجل الفوز بتمثيل ما له في الهيئة المنتخبة، وهي نسبة من أصوات الناخبين على المستوى الوطنى وتتراوح في المعتاد بين 5% و 10% وكلما زادت نسبة الحسم قلت فرص الأحزاب الصغيرة في الوصول للهيئة المنتخبة، مع الوضع في الاعتبار أنه في حالة عدم إحراز الحزب الصغير على نسبة الحسم فإن كل الأصوات التي اختارته لن تُمثل في الهيئة المنتخبة ولو بمقعد واحد. وهو ما تصبو إليه الهيئة التشريعية بوضعها هذه العتبة التي تتحول بفعل التنفيذ إلى حائط صد يعرقل وصول المجموعات الصغيرة إلى من يعبر عن صوتها.
المشاركة السياسية:
كمؤشر لشرعية العملية الانتخابية ومدى تفاعل الناخبين معها، تضع بعض البلدان حد أدنى لنسب المشاركة حتى تعتبر الانتخابات صحيحة وقانونية، فلو لم تتحقق هذه النسبة تعاد الانتخابات في هذه الدوائر حيث يصبح لمقاطعة الناخب للعملية الانتخابية معنى واعتبار، وحيث تكون نسب المشاركة في الانتخابات واحدة من أربع مؤشرات على الأداء الديمقراطي في الانتخابات وهي؛ “نسب التمثيل، والحقوق، وسيادة القانون، والمشاركة”.
على العكس تمامًا ومن منطق إضفاء ملمح الشرعية حتى وإن كان بالغصب تأتي فكرة إلزامية التصويت، فالتصويت في الأساس حق وليس إلزام وللناخب كامل الحرية أن يمارس هذا الحق أو يمتنع عنه دون أن يعاقب، وتأخذ بعض الدول بنظام العقوبة ولا تنفذها فيما ينفذها البعض الأخر، ومن بين 203 دولة في العالم فإن نسبة الدول التي لا تنص على إلزامية التصويت 85%، والدول التي تنص على إلزامية التصويت تقريباً 13% وحوالي 2% ليس لديها انتخابات بالأساس.
فإن كانت هناك فرصة حقيقية لتصميم نظام انتخابي يعبر عن أصوات الناخبين، فلتكن زاوية الرؤية وحجر الأساس هو الناخب، بتركيبته الاجتماعية والسياسية ووعيه، على أن يتم ذلك ويتطور بكامل رغبته وليس بفرض القانون.