قد يفرض الواقع في – بعض الأحيان – تخليًا عن أبسط الحقوق، تستحيل معه الأحلام إلى أماني بعيدة المنال، تُدخِلنا في دائرة مُفرغة تستنزفنا. يضاعف الفرد الواحد مجهوده في أكثر من وظيفة، تأكل الوقت، محاولًا إنجاز كثير من المهام في وقت قصير.
“كنت سعيدة باستقلالي، وعملي في القاهرة رغم كل ما تعرضت له بسبب التضخم والضغوط المادية. كانت لي مساحتي من الحرية والاختيارات والفرص”.. هكذا بدأت “إيمان” حديثها لـ فكّر تاني.
تحكي “إيمان” ذات السبعة والعشرين عامًا قصتها، تقول بعينيها اللامعتين ونبرة صوت يملؤها الحنين: “كنت أتحرك بحرية، إذا شعرت بالضيق مشيت قليلًا في الشوارع أو على كورنيش النيل، أو دخلت مطبخي واخترعت طبقًا لذيذًا”.
اقرأ أيضًا: زلزال أسعار الوقود ينذر بـ”تسونامي تضخم”
عن يوميات مطبخها الصغير في شقتها الإيجار، تعود من عملها، تدخل إليه، لتصنع طبقًا مختلفًا كل يوم، تتعلم وصفات جديدة. تحب التجربة، لكنها بعد كل جديد تعود إلى طبقها المفضل “النجرسكو”. تفعل ذلك بعد كل يوم شاق. تذهب إلى السوق المجاور لبيتها، تشتري الدجاج، واللبن والجُبن، في زمان كان يمكن شراء كل هذه الأشياء معًا، أما البهارات، فتجدها دائمًا على رف صغير، فوق “البوتوجاز”، تضع مكوناتها في إناء فخاري يكفي لفرد واحد، ثم تشعل الفرن، وتترك لأكلتها المفضلة قرار رسم لوحة متقنة من مزيج الروائح الشهية تملأ البيت، تُدير تلفازها على فيلم قديم، وتستهد لوجبتها اللذيذة.
تقول “إيمان”: “هذه الفترة انتهت من حياتي – مع الأسف – فمنذ سنوات، أحاول تقليل نفقاتي حتى لا أضطر إلى العودة إلى مدينتي الأم. زادت الأسعار، فأصبح الطعام رفاهية مقارنة بالبقاء على ما حققته بالفعل. كنت أخاف الرجوع إلى سيطرة أهلي، حاولت التمسك قد الإمكان بما وصلت إليه بعد مشقة وصراع، فتوقفت عن تجربة الوصفات، ولم أعد أطهو أكلتي المفضلة إلا مرة واحدة كل شهر، ومع الوقت تخليت حتى عن هذه المرة”.
في بداية استقلالها عن أسرتها، سكنت “إيمان” في شقة مشتركة، كان لها “سرير” في غرفة، دفعت لها إيجارًا 1100 جنيه بالإضافة إلى الخدمات والمرافق التي ترواحت بين 250 و350 جنيهًا، في الفترة من بداية عام 2019، حتى نهاية 2023، بينما كانت تتقاضى أجرًا 3500 جنيه شهريًا.
“اشتريت زجاجة زيت صغيرة بخمسة وسبعين جنيهًا، ونصف كيلو بطاطس – فرز ثان – بعشرة جنيهات، وكيس صلصة بخمسة جنيه”. في محل العطارة، صدمها البائع وهي في حالة صدمة: “مفيش بخمسة جنيه كمون وفلفل أسود، أقل كمية عشرة جنيه”.
مؤخرًا، كان الشهر يمر ببطء شديد، لا فائض بعد الاحتياجات الأساسية للحركة والتنقل ومقابلة الأصدقاء. “كنت أُكمل الشهر بصعوبة، ومع كل تعويم جديد كنت أقلل من مشترياتي، وأبحث عن أرخص السلع في السوق حاليًا، حتى أستطيع تغطية تكاليفي الشهرية، بلا ديون”.
لم يعد يُغطي دخلها تكلفة المواصلات والسكن، فاضطرت إلى اللجوء للسلف. “كنت أقترض لأُكمل الشهر، وأُسدد من الشهر التالي، ثم اقترض مرة أخرى.. وهكذا”.
خطوات إجبارية
رغم كل تلك الظروف، كانت “إيمان” تحظى بحياتها الخاصة، المخططة بشكل جيد. كان هذا طبيعيًا رغم المصاعب لكنه يزداد سوءًا مرة بعد مرة. فكلما ضغطت ورفعت من ساعات عملها ووفرت أكثر في مصاريفها، كلما فاجأتها الحكومة بتعويم جديد. “التضخم سرق أحلامي، مساحتي، حريتي وصحتي”
“نظرتُ لكل هذا بعيون الحسرة، ثم عدت إلى بيتي في محافظة الشرقية مرة أخرى”.
هذه الرحلة المرهقة وقتًا وجهدًا من وإلى الزقازيق على قسوتها كانت أيسر ما عانته “إيمان” في قرار العودة. هي الآن رهينة البيت مجددًا، فقدت قرارات التحرك بحرية، أسيرة محاولات إقناع الأهل بكل مشوار هام في حياتها. القرار الآن بيد الأقوى لا المنطق.
حاولت “إيمان” التمسك باستقلالها قدر المستطاع، لكن راتبها لم يكن يُغطي ما تسبب فيه الغلاء، فانهار إصرارها. “للأسف، اضطررت أن أودّع استقلالي تحت سوط الغلاء”.
ندور في عجلة لا تتوقف حتى لا نخسر خطواتنا، ونضطر إلى العودة من منتصف الطريق، متقهقرين منهزمين، نهرول حتى نتمكن من سداد إيجار السكن، ونحارب من أجل استقلالنا، فندفع ثلاثة أرباع اليوم عملًا، والربع نومًا.. لا نحيا.. لا نعيش.
“عُدت إلى حجرتي الصغيرة مرة أخرى بحقائب كثيرة كدستُ فيها ملابسي وكل ما هو خاص. أعدت أحلامي إلى خزانة الأشياء القديمة.. هيه يا أيها البيت الذي أورثني القلق والخوف من عودة أخي الكبير في أي لحظة”.
“نور” من العائدات إلى منزل العائلة بعد استقلال ظنت أنه سيدوم مع شقيقتيها الاثنتين في منطقة “صقر قريش” بالبساتين، في شقة إيجارها 3500 دون الفواتير.
“كنا نعمل ثلاثتنا، إسراء -أصغرنا- كانت تعمل سكرتيرة إلى جانب دراستها الثانوية. عمل جزئي في عيادة طبية تتقاضى عليه 2000 جنيه، أما تهاني -طالبة كلية الآداب- فكانت تتقاضى 3000 من عملها كموظفة استقبال، بينما كنت أعمل أنا في مصنع ملابس وراتبي 4500 جنيه”.
استغنت “نور” وشقيقتاها اضطرارًا عن البروتين في طعامهن؛ يفطرن الفول والطعمية بتكلفة تصل إلى السبعين جنيهًا، والغداء “نودلز”، أما العشاء فكان باذنجانًا مقليًا، ليوفرن مصاريف السكن والتعليم، ومع ازدياد الضغوط قررن العودة إلى بيت الأهل.
اقرأ أيضًا:التضخم يدخل “الدائرة الجهنمية”.. خبراء يحذرون من “السقوط الحر”
“نور” الآن في مهب العاصفة المُدمرة للأمل الذي سارت كل دروب الشقاء في سبيله بناءً لحياتها الخاصة. الآن، تقف في منتصف حجرتها، تخشى عودة الأخ الغليظ المُعنِف الذي يُمارس كل أشكال القسوة ضد الفتيات الثلاثة.
لا تمكين في ظل الغلاء
وفق مرصد العمران، أصبح متوسط الإيجار أعلى ست مرات في الفترة من 2008 وحتى 2017، ولم يزد الدخل بمثل هذا المعدل، ما أدى إلى انخفاض القدرة على تحمل التكاليف بثلاثة أضعاف تقريبًا، حيث قفز متوسط نسبة الإيجار إلى الدخل على المستوى القومي من 14% في عام 2008 إلى 39% في عام 2017.
يضطر المصريون إلى إنفاق 39% من دخلهم على الإيجار وذلك دون حساب تكاليف السكن الأخرى، مثل المرافق والصيانة.. وذلك في في عام 2017، وفق مرصد العمران.
منى عزت، مستشارة التمكين الاقتصادي والاجتماعي رئيسة مجلس أمناء مؤسسة النون لرعاية الأسرة، تقول إن الارتفاع في أسعار الإيجارات أصبح جنونيًا، وأدى إلى عودة نسبة كبيرة من المستقلات إلى بيوت الأهل، وعودتهن مرة أخرى إلى السلطة الأبوية.
تقول “منى عزت” لـ فكّر تاني: “يُشكل التضخم عبءً مزدوجًا على تمكين المرأة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام والجميع متضرر، وقد يكون مؤشرًا لازدياد العنف الأسري وتراجع في التعليم، بسبب غلاء مصاريف المدارس والكتب”.
وتوضح عزت، أن الوضع مؤسف جدًا، فمتوسط دخل الأسرة مقارنة بسعر ثلاث وجبات يومية لا يكفي، هذا إلى جانب الفواتير والإيجار والمواصلات ومصاريف المدارس، فبالتأكيد هذا العبء الاقتصادي سيؤثر سلبًا على التعليم والثقافة والمجتمع بشكل عام.
اقرأ أيضًا:وإذا شكت عُنِفت.. “تمارا” ورحلتها اليومية في المواصلات العامة
“نيما” ذات الشعر الكستنائي والجسد الضئيل نسبيًا، تحكي عن انتقالها من المنطقة الراقية التي سكنتها في بداية استقلالها، واضطرارها إلى العيش في منطقة شعبية، الأمر الذي أصابها بالقلق والتوتر والخوف أحيانًا.
“أخاف العودة متأخرة إلى بيتي، أستقل الآن سيارة أوبر وأدفع فيها ما أجنيه من ساعات العمل الإضافية لأصل إلي مدخل بيتي في أمان”.
“نيما” غيرت “ستايل” ملابسها لأنها لا تشعر بالأمان في المنطقة الجديدة، أصبح هذا عبئًا إضافيًا عليها، لأنها تحاول أن تُحافظ على استقلالها مثل -الغريق المتعلق بالقشة- في ظل استغلال أصحاب الشقق السكنية.
لم يكن ذلك كافيًا، اضطرت “نيما” أيضًا إلى تقليل عدد وجباتها اليومية، ولم تعد تهتم بالقيمة الغذائية. استغنت في البداية عن البروتين في أكلاتها.
“كلما ارتفعت الأسعار، استغنيت عن شيء ما، وبعد البروتين، جاء الدور على الخضار، وأصبح مشواري إلى السوق يحتاج إلى خطط، حتى تخليت تدريجيًا عن معظم الخضروات وتأثرت صحتي بالتأكيد”.
في سوق عبد الحميد مكي، بحدائق المعادي، “أم ليلى” بائعة خضار، تحكي عن تأثرها بالغلاء، فـ بعدما كانت تشتري بضاعتها من تُجار الجملة بكميات كبيرة من الخضروات، تبيعها حاليًا في أربع ساعات على أقل تقدير. أصبحت الآن لا تستطيع شراء سوى نصف الكمية وأحيانًا أقل.
“أم ليلى” سيدة نحيلة في منتصف الأربعينيات، ترتدي إيشاربًا أحمر اللون وجلبابًا أصفر، توفي زوجها قبل سنوات.
“الناس بطلت تشتري للسلطة -أقل حاجة- كيلو طماطم وتنوعيتها العادية، الطلب بيكون -كيلو سلطة مشكل- ودول المرتاحين، أما الغلابة فبقوا ياخدوا الخضار بالواحدة، حبايتين طماطم وخيارة وبصلة وقرنين فلفل. أسعار الخضار ارتفعت جدًا، فكيلو البصل وصل إلى 30 جنيهًا، والبطاطس إلى 25 جنيهًا، والخيار إلى 20 جنيهًا والطماطم بـ10، كل ذلك ولم ندخل في بند البروتين بعد”.
قبل وفاة الزوج كانا يعملان سويًا على توفير احتياجات أسرتهما الصغيرة، ومع رحيله سقطت “أم ليلى في دائرة البيروقراطية المُرهقة سعيًا خلف معاش لم يكفلها أو يحقق لها أي كرامة.
“أنا عايشة أنا والبنتين في شقة إيجار، وهما لسه بيتعلموا وليهم مصاريفهم، غير فواتير الكهربا والمياه، وقاعدة ببضاعة قليلة -اللي عرفت أجيبها بسبب الغلا- من صباحية ربنا وأدينا العصر أهو وما بعتش حتى نصهم”.
وضعت يدها داخل جلبابها، وأخرجت حافظة نقودها القماشية وبدأت في عد ما تحصلت عليه مكسبًا طوال اليوم. 72 من الجنيهات لها ولبناتها. “كان نفسهم ياكلوا -طُحال- ولما سألت عليه لقيته بـ 120 جنيه، هروح أجيب 6 بيضات الواحدة بخمسة جنيه ونص، نسلقهم مع كيلو مكرونة وطبق سلطة ونأجل الطحال ليوم تاني”.
انخفص معدل التضخم للشهر الرابع في يونيو الماضي، مسجلًا 27.5% مقابل 28.1% في مايو، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. وكان السبب الرئيسي في التراجع سنة الأساس التي يتم القياس عليها، لأن ذروة التضخم كانت في النصف الأول من العام الماضي، وتحديدًا في شهر يونيو.
استغلال السماسرة
هذه الأعباء نعيشها جميعًا، لكن وطأتها أشد على النساء المستقلات اللاتي قد يتحملن الغلاء خوفًا من العودة إلى السلطة الأبوية أو العنف الأسري.
مروة همام مُستقلة منذ 2021، في منتصف الثلاثينات من عُمرها، مُطلقة وتعول طفلة، بينما تعمل بدوام جزئي، كمنسقة برامج.
تسكن “مروة” مع صغيرتها في شقة من حجرتين وصالة في منطقة فيصل. “في البداية كان الإيجار 1000 جنيه شهريًا، الآن، وصل إلى 4000.. أسعار إيجارات الشقق غير المفروشة أصبحت مرتفعة للغاية. صاحب العقار الذي أسكن فيه، قال أن الإيجار الذي أدفعه -تسعيرة السُكان القدامى- أما إذا أراد التأجير لسكان جدد، فعقد الإيجار مدته ستكون سنة واحدة، وقد يصل إلى 7000 جنيه شهريًا”.
اقرأ أيضًا:المصريون وبقايا الطعام.. الموت في وجبة منخفضة التكلفة
تحصل “مروة” على معاش عن والدتها، يُعينها بالإضافة إلى دخلها، لكن لا شيء يسد الاحتياجات الأساسية، في ظل الارتفاعات المتواصلة في أسعار السلع والمواصلات ومصروفات المدرسة.
“أتحمل المسؤولية كاملة -بطولي- حتى أصبحت مضطرة أن استغنى عن حاجات كتير كنت بعملها لابنتي الوحيدة، فلا طعام بالمطاعم ولا رحلات في الإجازة.. أنا أعيش الآن بالاستغناء والاستغناء والاستغناء”.
يقول السمسار عُمر عبدالله، لـ فكّر تاني، إن أسعار البيع والشراء، تتأثر بعدة عوامل، منها سعر الدولار مقابل الجنيه، كما أن المنطقة والمكان المحيط، عاملان هامان، كما هناك مساحات الشقق، ونوعية التشطيب، ولا ننسى هل الشقق في عمارات عادية أم في “كمبوند”.
اقرأ أيضًا:ماذا تفعل صباح مع جنون أسعار الفوط الصحية؟
ويوضح “عبد الله” الفارق بين تملك المساحات وتأجيرها، فيضيف: “الإيجارات، تتأثر بكل العوامل السابقة، بالإضافة لاستغلال كثير من السماسرة، يرفعون الأسعار على اللاجئين مثلًا، وهم يعرفون أنهم يعيشون أسر كاملة في شقة واحدة حتى يدفعون الإيجار، وفي نفس الوقت، يرفعونها على المصريين، بحجة -في لاجئين يدفعوا”.
وتعلق “منى عزت”، على أهمية الرقابة من الجهات المختصة، وتؤكد على ضرورة وضع حد لهذا الاستغلال والالتزام بقانون الإيجار الجديد، مضيفةً أن الزيادة في الإيجارات، لم تؤثر فقط على المستقلات، بل على أُسر بالكامل تنام في الشارع حاليًا.
شكرا لتسليطك على واقعنا المرير، كملي
كلام واقعي أحيكي على شجاعتك
شكرا لتسليط الضوء على واقعنا المرير، شابوووه كملي