مكاتب “تسفير” إلى جهنم.. يوميات صحفي خارج بلاط صاحبة الجلالة (2 – 4)

رسوم – سلمى الطوبجي

نور الشمس” ليس هو الاسم الحقيقي لصاحبته متعددة الهويات: “أم سيف” أو “رانيا”، التي اقتصر دورها على إزاحة ستار أولى بوابات ذلك العالم السري أمامي.

وربما، تلاوة بعض وصايا وشروط الانضمام:

“أوعى تتأخر…

روح في الميعاد بالظبط…

خلي بالك المكتب اسمه (أ)…

هتوصل وتستلم الشغل على طول”

ما لم تكن تدركه هي أني أنا المنفي عن بلاط صاحبة الجلالة، استنزفت كل حيلي، وأنا راغب أكثر مما تتخيل. “أكثر منك سيدتي حريص أنا على المرور من كبوتي إلى طريق جديد.. إلى مساحة جديدة.. إلى داخل المصنع”.

رغم زحام وضجيج الطريق حتى محطة دار السلام (أرض الميعاد)، ما طرق أذناي إلا حُلم جميل لصوت المكن الدائر.. خلعتُ في هذه اللحظة هويتي الصحفية، تركتها ورائي هناك على سرير بطالتي، وارتدى عقلي رداءً أزرق جميل.

لا يتبقى إلا قليل على انضمامي إلى نحو 27.9 مليون مشتغل، تبلغ نسبة العاملين في القطاع الخاص منهم نسبة 79.4%، بوصف الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في 2022. “مشتغلون”؛ هكذا يطلقون علينا نحن الذين نزاول أعمالًا بأي أنشطة اقتصادية ولو لساعة واحدة

على طول الطريق كنت أتلحف بأحلام العمال.. أتهيأ للكدح.. وللكسب الحلال.

 

كيلوان من الأمتار واصلتهما سيرًا تحت شمس حارقة.. هكذا هم المؤمنون، دروبهم مشقة حتى أبواب الجنة.

أخيرًا وصلت..

هنا محطة دار السلام..

العمارة رقم 215..

لم يكن مقر دار السلام أبدًا أرض ميعاد؛ المدخل متسخ جدًا تملؤه القمامة.. لا أسانسير.. فقط سُلمًا تنفض غباره المتراكم خطواتي، تزيح معها أوراق جرائد ألقيت على الدرج، لما انتهى طعام لُفت به.

كانت أوراق الجرائد المستعملة في غير القراءة تهوى وأنا صاعد.

مكتب “أ” موقعه الطابق الأول علوي من هذا العقار المتهالك. بوابتي الأولى كانت ممرًا ضيقًا ينتهي بشقة واحدة وحيدة، على مساحة لا تزيد عن 40 مترًا، مدخلها بلا لافتة.

بوابتي الأولى كانت ممرًا ضيقًا ينتهي بشقة واحدة وحيدة مدخلها بلا لافتة
بوابتي الأولى كانت ممرًا ضيقًا ينتهي بشقة واحدة وحيدة مدخلها بلا لافتة

بوابتي الأولى كانت بلا ترخيص.

أخبرني كمال عباس، المنسق العام لمركز الخدمات النقابية والعمالية، أشياءً عن تاريخ هذه المكاتب. وهو تاريخ ارتبط بحدث سوداوي في العقيدة العمالية في مصر، حينما قررت حكومة عاطف عبيد في عهد الرئيس الأسبق مبارك خصخصة القطاع العام.

وقتها بدأت هذه المكاتب عملها لتوفير عمال اليومية في قطاع البترول، ثم شركات الأسمنت.

كانت المعادلة آنذاك بسيطة: كلما زاد بيع القطاع العام تم تسريح عمال كثر، ولجأ المشتري إلى استخدامهم كعمال يومية، لأن هذا “أرخص”؛ فلا تأمين عليهم، ولا حقوق من إجازات وأجور ينص عليها القانون، ولا اعتراض غالبًا لأن الجميع يُدرك عاقبة المطالبة بالحقوق.. “هيقولوا له مع السلامة”.

مررتُ إلى صالة أرضيتها شاهدة على آثار أقدام عشرات أو ربما مئات سبقوني إلى هنا.

انتظرت وقوفًا حائرا أي باب لهاتين الحجرتين يفتح، حيث أتلقى شروط الانضمام كاملة، وأرحل حاملًا صك ولوجي إلى الجنة (المصنع).

“أهلًا أستاذ حسين… أنا ميدو”

هكذا بدا صاحب المكتب؛ شابًا لا يزيد عمره عن الثلاثين، بوجه أحمر لا يخلو من بعض حبوب الشباب، وشعر يميل للاصفرار، متوسط الطول، نحيف للغاية.

“هحتاج منك بطاقتك و50 جنيه دلوقتي وهيبقى فاضل 300 جنيه أول ما تستلم الشغل”

هذه المعلومات لم تبلغني “نور الشمس” بها.. لماذا لم تصارحني بدايةً، بأنني سأدفع مقابل العمل.

للجنة تذكرة عبور إذًا.. “نور الشمس” كاذبة.

“كده تمام أستاذ حسين.. احنا كده خلصنا هنا.. هتاخد بعضك بقى وتروح لأستاذ محمد في مكتب العاشر”.

علمتُ أن “محمد” هذا بوابتي الثانية إلى المصنع، وهو مشرف يلتقيه كل العمال المتوقعين قبيل التوظيف.

مكتب جديد ووسيط جديد، تمامًا كما يصف وزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، حين يرى ضرورة اختفاء مصطلح “الوسيط” بين العامل ومكان عمله، وأن تتولى نقابة العمال هذا الدور حفاظًا على حقوق هذه الفئة.

من دار السلام إلى العاشر من رمضان على أطراف محافظة الشرقية، أٌلقيتُ كظمآن إلى رمال الصحراء.. علي السير مجددًا حتى الوصول.

من دار السلام إلى العاشر من رمضان على أطراف محافظة الشرقية أٌلقيتُ كظمآن إلى رمال الصحراء
من دار السلام إلى العاشر من رمضان على أطراف محافظة الشرقية أٌلقيتُ كظمآن إلى رمال الصحراء

أخيرًا، بدا الطريق واضحًا.. صريحًا وسريعًا.. الكل يجري هنا بلا توقف إلا عند البوابات.. هنا “كارتة” العبور.. هنا يعلو فوق رؤوسنا المحنية أسفل شمس العاشر من رمضان شعار “شخلل عشان تعدي”.

صك جديد قيمته 300 جنيه، يُطهر الواصلين.. يمنحهم تذكرة عبور إلى المشرف “محمد”.

“محمد” خمسيني العمر، بجسد ممتلئ، ووجهه يقرأ “عبس”، يقف على بوابة حديدية، أكل عليها الزمن وشرب.. ينظمنا أفرادًا مرورًا إلى باب العمارة، ثم السلالم، ثم لافتة دُون عليها مكتب “م” لصاحبه المهندس “إ. ص”.

دخلتُ..

طلبت كوبًا من المياه المثلجة.

“معلش.. معندناش تلاجة”

قالت السكرتيرة التي لم يظهر منها سوى صوت اعتاد رتابة المشهد من خلف مكتبها.

“ممكن الأبليكشن اللي كتبهولك مكتب أ”

طالبني محمد “المشرف” بأوراقي، وأسلمني للسكرتيرة التي طلبت تصوير بطاقتي وشهادة ميلادي.

بالمكتب ماكينة تصوير شاخصة، خرجت على المعاش منذ سنوات، بينما يقف هيكلها الباقي هنا لا لداعي سوى تأبين التكنولوجيا والحداثة.

سُمح لي مؤقتًا بمغادرة المكتب بحثًا عن ماكينة تصوير.. وكنت أقرب إلى العدول عن الفكرة بأكملها، وكان المشرف والمهندس “إ. ص” يراقبان هذا التململ في وجهي، فلحقا بي ركض من تضيع فريسته.

“أهلًا وسهلًا أستاذ حسين.. ايه المشكلة”

سألتهما: “دا مكتب ولا شركة ولا مصنع فلاتر.. في مكتب (أ) قالوا لي هشتغل في مصنع فلاتر فيه سكن وفيه وفيه…”

“مكتبنا للتوظيف”

سألت المهندس “إ. ص”: “الله، أمال مكتب أ ده ايه؟”

“مكتب أ ده بيعمل دعاية لينا، بيبعت العمال ودورنا احنا نوصلهم للشركات، وهو بياخد مقابل لدوره ده”.

رد المهندس بينما كان يسلمني عقدي.

كان علي أن أدفع للخلاص.. للجنة تذكرة عبور إذًا
كان علي أن أدفع للخلاص.. للجنة تذكرة عبور إذًا

عرفتُ من العقد أنه لا ضمان ولا حقوق للعامل.. الأبرز في العقد كان موقعًا فارغًا ينتظر توقيعي على تسلم عُهدة قيمتها 3500 جنيه، تضم: سريرًا حديديًا وملابس للعمل.

تحت تأثير إقناعهما وقّعتُ.

في حديثي معه، أحزن الوزير أبو عيطة أن تكون العلاقة بين عامل اليومية ومكان العمل “علاقة عرضية”، دون تكافؤ في الحقوق والواجبات، فيحرم الطرف الأضعف فيها كل حقوقه.

يقول: “هذا الوضع غير السوي سببًا مباشرًا في تسريح كثير من العمال بعد غلق وبيع المصانع والشركات في الآونة الأخيرة.. تخيل لدينا كل يوم عمال يتم تسريحهم من مصانعهم العاملة، هؤلاء جميعًا يتم إلقائهم إلى دائرة عمالة موسمية، تتسع دون أن يكون أي ترس في ماكينتها الدائرة منظم أو قانوني.. كيف ننظم هذه العمالة التي تمثل النسبة الأكبر من العاملين في الدولة”.

“يلا نطلع الشقة، تلقاك عايز تريح”

سألت المشرف “محمد”: “طيب اخد البطاقة الأول”

“لأ.. خليها هتاخدها وأنت رايح الشغل بكرة”

كان رده هذا أكبر من قدرتي على الاستجابة بالخضوع لجملته، فسألته: “ليه مش مسموح أخد البطاقة؟” ورد: “دا نظام الشغل عندنا، أنت بتاخد بطاقتك وأنت ماشي من هنا، طول ما أنت في المكتب أنت مسؤول مننا”.

لكل جنة منعمون هم على الأرائك متكئون، ولجنتي بابان سوداوان لشقتين متجاورتين على مصراعيهما مفتوحان.

كان علي أن أختار بين 6 أسرة، كل منها بطابقين ومرتبتين ومخدتين، كما السجن.. لا فارق سوى أن شقتي وزملائي من العمال مفتوح بابها دائمًا للزيارات.. أردت أم لم ترد.. لا مجال لأي خصوصية.

النوم في هذا العراء المقنن هنا على المشاع.

مرة أخرى لم أكن قادرًا على حبس السؤال: “مكتب أ قال لي إن السكن مفروش.. بس أنا مش لاقي لا فرش ولا غطا ولا الشقة مجهزة زي ما قالوا لي”.

“كلمه.. خليه يبعتلك الفرش والغطا اللي قالك عليهم”.

غادر المشرف الغرفة وجميعنا يحاول الاستسلام.. للنوم ربما ولنظراته الحادة أيضًا
غادر المشرف الغرفة وجميعنا يحاول الاستسلام.. للنوم ربما ولنظراته الحادة أيضًا

ضحك المشرف بصوت عال، أيقظ من كان يحاول استراق بضع ساعات من يومه نومًا، ثم خرج.

المستيقظان بصوت المشرف كانا محمد عبد الله وعمر عبد السلام، أثارهما الفضول فسألا: “أنت جاي من مكتب أ صح؟”.

“مظبوط.. بس اشمعنى؟”.

لا أخفي الحقيقة؛ فضولهما أثار فضولي، بينما إجابتهما على “اشمعنى” أثارت في معدتي الغثيان قلقًا.

“الناس بتوع مكتب أ دول كدابين وبيبيعوا الوهم ليك زي ما باعوه لينا.. خدوا مننا 350 جنيه وفي الآخر هتكتشف بنفسك اللي دخلناه برجلينا”.

قال محمد عبد الله وأمن على كلامه عمر عبد السلام، الذي لم يجد مثلي في العقد أي بند عن التأمين الاجتماعي والصحي.

“خلي بالك دول كمان هيدفعوك 200 جنيه في الشهر إيجار السرير ده”؛ قال عمر عبد السلام ثم أدار ظهره ونام.

نام عمر عبد السلام ولحقه محمد عبد الله حينما دخل المشرف محمد غرفتنا فجأة عابسًا غير ناطق بأي كلمة.

ثم ساد الصمت أرجاء المكان.

غادر المشرف الغرفة وجميعنا يحاول الاستسلام.. للنوم ربما ولنظراته الحادة أيضًا.

الكفيل مصري… يتبع

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة