الظلامُ ينسحبُ أمام خيوطِ الفجرِ الوليد، والطقسُ يميلُ إلى الدفءِ، وإن لم يخلُ من نسماتٍ باردةٍ مُستأنسة.
يقظةٌ متوثِّبةٌ دبَّتِ في حنايا البيتِ المنخفض عن مستوى سطح الأرض، ذي السقف القرميدي الممتلئ بالشقوق، والذي كان يغرق في أمطارِ الشتاء، حين تتسرَّبُ قطراتُها من فوقِه، وحين تتجمَّع في أرضياته.
لم يكن البيت الصاخب بضجة ستةِ أطفالٍ، يختلف عن غيره من بيوت مخيم الشاطئ للاجئين في غزة؛ بيتٌ فيه الحدُّ الأدنى من مقومات الحياة "المستورة"، وفق مقاييس حياة النازحين؛ أربعة جدران وسقف، ولا كهرباء ولا مياه ولا صرف صحي، وسكانه كغيرهم، فقراء بائسون هُجِّروا من ديارهم وأراضيهم وحقولهم، وحُرموا من أشجار الزيتون التي أورثها إياها أجدادهم وآباؤهم، فاعتصموا بحبل الأمل في العودة، ونقشوا على الجدران والأبواب، في كل زاويةٍ كلمتي "صامدون" و"عائدون".
يَتشمَّسُ الفتى أمام الدار، ثمّةُ حركةٌ فوّارةٌ مضطربة؛ رجالٌ يهرعون إلى المتاجر، فيعودون بالطحين والأرز والبقوليات، ونساءٌ يرقبنَّهم وفي عيونهن الواسعة يتبدى خوف ثقيل، أما الأطفالُ فمُستغرقون في اللهوِّ البريء كعادتهم، لا يفقهون لِمَا يجري تأويلًا.
كان الفتى في نحو الخامسة، وكانت تسليته الكبرى، أن يصحبه أخوه ذو السابعة في ظهيرةِ كلِّ يومٍ إلى أطراف المخيم، حيث ترابط كتيبةٌ للجيش المصري، فيحتفي الجنود بالصغيريَّن، ويُخرجون من سراويلهم العسكرية حبَّات "الفُستقية" التي يستلذُّ حلاوتها جدًا، ثم يأمروهما بحزمٍ تُغلِّفهُ رقةٌ حانية، بِسرعةِ العودةِ إلى الدار.
لكن جدَّه نهاه عن "المشوار الممتع" ذاك اليوم، فتلبَّد الأسى في أعماقه، وأحسَّ أن شيئًا مُريبًا وغير مألوفٍ يحدث.
مذكرات "الشوك والقرنفل"
كذلك يستهلُّ الأسير السابق، ورئيس المكتب السياسي الحالي لحركة "حماس"، يحيى السنوّار سرده تفاصيل ذاك اليوم البعيد، من عام 1967، في الرواية التي كتبها في معتقلات الاحتلال: "الشوك والقرنفل"، والتي لا يطغى الخيال الأدبي فيها، على الاعتبارات التأريخية.
ما بين خيال القريحة الروائية والنبرة التوثيقية، يصف السنوار ذاك اليوم بأنه كان يومًا مشحونًا بالقلق، حيث استيقظ الفتى فهرع كدأبه إلى عتبة الدار المتواضعة، فإذا بأبيه يحفر حفرةً على مقربةٍ منها.
لم يفهم ما يجري، وإنْ لاحظ أن علامات التجهم ترتسم على محيا الأب، الذي كان يعمل بجدٍّ ودأب، كأنه يسابق الزمن، أما أخوه ذو الثانية عشرة فلم يُبدِ ضجرًا في مساعدته، ولمَّا أشرفا على الانتهاء، غطيا الحفرة بشرائح من خشبٍ وصاج، حرصًا على إخفائها، ثم نزلت الأم والأخ ليتفقَّدا المكان.
من بعدهما تقدَّم الفتى بخطىً وئيدة، تلتمع عيناه بوميضِ الحذر، وقد تلاشت سكينته الغريرة، واستعمرت الهواجس قلبه؛ أرسل عينيه إلى تجويف الحفرة، فإذا هي ظلماءٌ حالكة، فأثقلت طفولته همومٌ، واتشح وجدانه الغرير بالسواد، ونعقت تحت قفصه الصدري غربانُ الخوف.
كانت تلك الحفرة خندقًا، عاشت فيه الأسرة النازحة من "الفلوجة" عام النكبة؛ 1948 حتى وضعت حرب الخامس من يونيو/ حزيران أوزارها؛ تلك الحرب التي خاضها العرب كما يقول شاعرنا نزار قباني "بالعنتريات التي لم تقتلْ ذُبابة"، فانتهت بنكسة الجيش المصري، وتنكيس أحلام قاطني المخيمات الفلسطينية في العودة، فضلًا عن استشهاد العم، وانفطار قلب الجد المُسنِّ، ودخول الأسرة النازحة دوامة الفقر، إثر غياب الأب فتراتٍ طويلة، لاشتراكه في العمل النضالي المسلَّح ضد الاحتلال.
في الخندق مكث الفتى وأسرته أيام الحرب ولياليها الكئيبة، فلم يمسسهم ضرٌّ إثر القصف، ولمَّا خرجوا وجدوا الجُندَ الإسرائيليين قد انتشروا كالجراد في المخيم، يتجولون بسياراتهم العسكرية منفوشين بصلف الاستعلاء، يعلنون حظر التجوال، وينادون عبر مُكبِّرات الصوت، بخروج الرجال من البيوت، فيجبرونهم تحت تهديد السلاح على الاصطفاف طوابيرَ، ووجوههم إلى الجدرانِ المزيَّنة بعبارات النضال، ورسومات الكوفية الفلسطينية وخارطة الأرض المحتلة، لتكون هذه آخر ما تراه عيونهم، قبيل إطلاق النيران عليهم.
هنالك تشكَّل وعي الفتى، بطل الرواية، أو السيرة الذاتية، أو قُل الكاتب يحيى السنوار الذي صار فيما بعد يُلقَّبُ من قبل الصهاينة برجل الأنفاق، لقدرته الفائقة على الاختفاء عن عيون جواسيسهم.
النشأة في هذه الظروف، صنعت شخصية رجل حماس الأول بعد خلافته الشهيد إسماعيل هنية، والذي قالت إسرائيل فور تعيينه إنها مفاجأة كبرى، وبالطبع ليست المفاجأة سارة.
في مرآة الوعي الجمعي العربي، يُنظر إلى السنوار كما لو كان شخصية أسطورية، فالرجل الذي دوَّخ الجيش الإسرائيلي، وهندَّس عملية "طوفان الأقصى"، يشبه الأبطال الملحميين، على غرار "الزناتي خليفة" و"أبوزيد الهلالي" و"علي الزيبق"، في السيَّر الشعبية.
لكن بعيدًا عن النزعة إلى التهويل، والجنوح إلى التضخيم، فالمؤكد أنه زعيم فلسطيني استثنائي، في وقت استثنائي.
ما إنْ أُذيع خبرُ تعيين السنوار، حتى اندفقت التحليلات والتعليقات، في مشارق الأرض ومغاربها، عن دلالات هذا القرار، وانعكاساته على العملية التفاوضية، بوقف العدوان على غزة، وكذلك بشأن المعارك على الأرض.
وعلى الرغم من اختلاف مشارب وتوجهات المحللين والمعلقين، فإن ثمة إجماعًا يكاد يكون شاملًا على أن القيادي الجديد؛ الرجل "الصلب" ذو الخلفية العسكرية، لن يكون لقمةً طريَّةً للاحتلال، سواءً على طاولة التفاوض أو ساحة المعركة.
هذا مهم للغاية، فالتشدُّد يلزمه شدة في مواجهته.. كذلك تؤكد خبرات التعاطي مع العدو الصهيوني.
القائد على خط النيران.. كذب المتصهينون
غير أن أهم رسائل اختيار السنوار لإدارة الدفة بعد هنية، أن الرأس السياسي لحركة حماس سيتواجد في قلب غزة، بما يُخرِّسُ الألسنة الفاحشة، ويقوِّض أكاذيب خصوم المقاومة، من شيعة الصهاينة وأذيالهم، بأن قادة الحركة يزجُّون بالشعب الفلسطيني في الجحيم، وهم يرفلون في النعيم، ناهيك عن أن تواجد القائد إلى جانب رجاله؛ على خط النيران، يرفع من مستويات حماستهم، ويعطيهم دفعة معنوية كبرى على أرض المعركة.
فوق ذلك، لا يعني اختيار السنوار، كما يتشدق متشدقون، أن حماس تتجه نحو "عسكرة السياسة"، أي تسليم قرارها السياسي إلى جناحها العسكري، ففي التركيب البنيوي لأي فصيل مقاوم، لا يمكن الوقوف على تقاطعات، أو رصد تباينات بين ما هو سياسي، وما هو عسكري، بل إن السياسة تتحدّد في الأصل، حسب معطيات المعارك على الأرض، وليس العكس.
والمعلوم فضلًا عن ذلك، من سيرة السنوار، أنه لم يكن في أي وقتٍ بمنأى عن السياسة، بل إنه مع انخراطه في العمل النضالي والأمني بالأساس، شارك أثناء سجنه في مفاوضات تبادل 1000 أسير فلسطيني، بالجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وكان هو شخصيًا على رأس قائمة الأسرى المحرَّرين، ولديه كذلك وعيٌّ عميق بالسيكولوجية الاستيطانية للعدو، حيث يذكر أنه حرص في محبسه على متابعة ما تنشره الصحافة العبرية، وقرأ الكثير من الأدب الإسرائيلي، فضلًا عمَّا اطلع عليه فيما يتعلق بالمرجعيات الأيديولوجية لدولة الاحتلال.
لقد كانت سنوات طويلة؛ ثلاثة وعشرون عامًا، عكف الأسير خلالها على دراسة جلاديه، حتى استوعب قدرًا ليس بيسيرٍ، من مواطن قوتهم وضعفهم.
الوعي بالعدو والوعي بالذات ليس باعتبارها ذاتًا فردية، بل لكونها "بنت النكبة الفلسطينية" هو السلاح الأكثر فاعلية بين يديَّ السنوار، الذي يقول في تقديم روايته: "هذه ليست قصتي الشخصية، وليست قصة شخص بعينه، رغم أنَّ كل أحداثها حقيقية.. كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث، تخص هذا الفلسطيني أو ذاك، والخيال فقط في تحويل الأحداث إلى رواية، تدور حول أشخاص حقيقيين".
تلك الكلمات المكتوبة في غياهب معتقلات العدو، هي أهم ما يؤهل السنوار للمنصب الحسَّاس؛ في هذا الوقت الحسَّاس.
هو ابن النكبة الفلسطينية الذي اختبر حياة اللاجئين في المخيمات طفلًا، واحتمى في خندق من القصف إبَّان النكسة، وزُجَّ به في السجون الإسرائيلية شابًا، وخططّ ونفَّذ حين صار شيخًا لعملية عسكرية أذلت العدو إذلالًا مريرًا.
السونار من الخندق إلى السجن فالأنفاق، وصولًا إلى قيادة حماس، يختزل بشكل مجرّد مسيرة النضال الفلسطيني، في ثلاثية ممتدة منذ عام 1948، ولن تنتهي إلا بتحرير الأرض.
مقال ممتع وشيق ومسترسل وعميق كالعادة.
سلم الله كل المخلصين المجاهدين وأيدهم بنصره وبجند من عنده وأذل المتخاذلين الخونة المتٱمرين على القضية وعلى الشعب الفلسطيني.