حذرت دراسة حديثة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية من توسع وزارة المالية في الاقتراض وعدم الالتفات لتحذيرات المتخصصين على مدار السنوات الماضية، ما يضر بشكل مباشر بمصالح المواطنين، وقدرتهم على الاستفادة من موارد بلادهم.
قالت الدراسة، التي جاءت بعنوان “موازنة فوائد الديون.. التقشف لنا والفوائد للدائنين”، إن مخصصات سداد أقساط وفوائد الديون المحلية والأجنبية تستحوذ على نحو ثلثي النفقات الإجمالية المخططة بموازنة العام المالي 2024/2025 التي بدأ تطبيقها مطلع يوليو الماضي بنسبة %62، بزيادة 6% عن العام السابق 2023/ 2024.
تؤكد الدراسة، التي أعدتها مي قابيل، الباحثة ببرنامج العدالة الاقتصادية والاجتماعية بالمبادرة، إن المساحة المتاحة بالموازنة للإنفاق على كل ما يمس حياة المواطنين ويساعد على تطوير الاقتصاد، تقلصت أمام فوائد الديون وأقساطها، إذ يتبقى فقط 38% من إجمالي المخصصات لتمويل الأجور والدعم وشراء السلع والاستثمارات وغيرها.
وتزايدت القروض بشكل مّطّرد خلال السنوات العشر الماضية، خاصة بعد توقيع اتفاقية تمويل مع صندوق النقد في نوفمبر 2016، لتقفز نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي في عام واحد من %16.6 إلى %33.6، كما ارتفعت تكاليف خدمتها بالعملة الصعبة بطبيعة الحال.
زادت قيمة الديون الخارجية لمصر في السنوات العشر الماضية من 46 مليار دولار في يونيو 2014 إلى 168 مليار دولار في ديسمبر 2023 لتزيد نسبتها للناتج المحلي الإجمالي، خلال الفترة ذاتها من 15% إلى نحو 43%. وبعد توقيع صفقة رأس الحكمة في فبراير الماضي، التي تنازلت الإمارات بموجبها عن ودائعها الدولارية في البنك المركزي بدأت الديون الخارجية في الانخفاض لتصل إلى 160.6 مليار دولار في مارس الماضي.
110% زيادة في تكلفة سداد أقساط القروض الخارجية
تقول الدراسة إن تكلفة سداد أقساط الديون الخارجية ارتفعت بنسبة 110% في الموازنة الحالية مقارنة بالموازنة السابقة، بسبب تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار، إذ تقترض الحكومة لسد العجز بين إيراداتها ومصروفاتها وكذلك لسداد أقساط الديون المحلية، ولتمويل مشروعات لا تساهم في توليد الدخل ولا في تقليص النفقات المستقبلية، ولم ترفع كذلك نسب الاستثمار الكلي.
تضيف أن زيادة الديون الخارجية سببت وضًعًا مالًيًا حرًجًا لأنها تخلق ضغًطًا لتوفير السيولة الدولارية في مواعيد سداد التزامات خدمة الديون من أقساط وفوائد، في بلد يتسم كثير من موارده من العملة الصعبة بالهشاشة في مواجهة الأوضاع الخارجية، فضلًا عن تزايد الاعتماد على مصادر للعملة الصعبة غير المستقرة بطبيعتها مثل الأموال الساخنة، بالتزامن مع ارتفاع المبالغ المطلوب سدادها في مدة لا تقل عن سنة واحدة بما يعادل ثلث الدين الخارجي.
التعويم المتتالي نتاج هشاشة الموارد الدولارية
بحسب الدراسة، عدم الاستثمار في تنمية موارد دولارية مستدامة يمكن التعويل عليها، يؤدي في النهاية إلى أوضاع متأزمة تنتهي عادة بتخفيض جديد في قيمة العملة، ما يرفع تكلفة بنود الإنفاق المختلفة.
وتستمر هذه الحلقة المفرغة في تغذية نفسها؛ فتخفيض العملة المحلية يزيد قيمة الدين الخارجي حال تقويمه بالجنيه، ما يرفع تلقائيًا الدين العام. كل زيادة في سعر الدولار أمام العملة المحلية بجنيه واحد تزيد العبء على الموازنة بـ 110 مليارات جنيه، وفقًا لتصريحات لوزير المالية السابق محمد معيط.
في مواجهة أزمة ارتفاع الدين العام وتكلفة خدمته، أكدت المالية توجيه نصف إيرادات برنامج بيع الأصول العامة لتخفيض مديونية الحكومة وأعباء خدمتها بشكل مباشر، فصفقة رأس الحكمة هي التي أدت إلى زيادة الإيرادات العامة غير الضريبية لتبلغ 778 مليار جنيه بنسبة نمو 258% خلال الفترة من يوليو 2023 وحتى نهاية مايو الماضي، مقارنة بالفترة ذاتها من العام المالي السابق.
ويستهدف برنامج بيع أصول الدولة لعام 2024 تحقيق حصيلة تتراوح بين 1 و1.5 مليار دولار حتى نهاية العام، وبالتالي أصبح بيع الأصول العامة أو حقوق استغلالها أحد أدوات سداد الديون، الأمر الذي ينذر بمخاطر حقيقية إذا لم يتم تبني رؤية اقتصادية عاجلة لوقف هذا النزيف.
تراجع الإنفاق على بنود أساسية
شهد إنفاق الدولة على الاستثمار عموًمًا انخفاضًا في الموازنة الجديدة بنحو 15% وتراجع نصيبه من الناتج المحلي ليبلغ 3% في استجابة لمطالب صندوق النقد بالحد من الإنفاق على الاستثمارات العامة.
وزادت مخصصات التعليم بنحو 28% في الموازنة مقارنة بالعام السابق، إلا أن نسبتها للناتج المحلي الإجمالي استمرت في التراجع لتبلغ 1.72% بدلًا من 1.94% خلال العام السابق، كما شهد الإنفاق على الصحة زيادة في المخصصات بنسبة 35.4% عن العام السابق، إلا أن نسبته من الناتج المحلي انخفضت أيضًا من 1.24% إلى 1.17%.
تضيف الدراسة: “إذا حسبنا نصيب الفرد من مدفوعات فوائد الديون الحكومية المتضخمة فإنه يبلغ 17.2 ألف جنيه سنوًيًا، في حين يبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة مثلًا 1887 جنيهًا سنويًا”.
وقد اتخذ بند الأجور في الإنفاق الحكومي مسارًا نزوليًا على مدى السنوات العشر الماضية، وتراجعت نسبته من الناتج المحلي الإجمالي من 8.2% في عام 2014/ 2015 إلى ما يقل عن نصف هذه النسبة في العام المالي الجديد، لتبلغ 3.4%.
وزادت مخصصات الإنفاق على الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية في الموازنة الجديدة بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق، لتبلغ 635.9 مليار جنيه، إلا أن القيمة الحقيقية للإنفاق على هذا البند تراجعت بنسبة 11% بتأثير التضخم المرتفع.
ضبط مسار الاستدانة أمر حتمي
تقول الدراسة إن ضبط مسار الاستدانة – خاصة الخارجية- بشروط تقصرها على أغراض تنموية ملحة ينعكس بشكل مباشر على تحسين مستوى معيشة السكان أو مشروعات قادرة على توليد دخل دولاري يضمن إمكانية السداد، أو تساهم بقيمة مضافة تبرر اقتطاع جزء من الموارد لخدمة الدين حتى يحقق المشروع أهدافه، مع وضع هذا الملف تحت رقابة برلمانية واضحة.
تشير إلى أن العلاقة بين مخصصات سداد فوائد الديون التي تنمو بشكل مطرد وبين الإيرادات العامة، توضح أبعاد الأزمة المتزايدة في مالية الدولة، فقد تجاوزت مدفوعات الفوائد مجمل الإيرادات الحكومية خلال الربع الأول من العام المالي 2023/ 2024 في سابقة كانت الأولى من نوعها منذ عشر سنوات لتبلغ الفوائد 142.5% من الإيرادات، قبل أن تتحسن نسبة الفوائد لتسجل 77% من الإيرادات بحلول الشهر العاشر من العام المالي ذاته.
في الموازنة الحالية، تمثل فوائد الديون المحلية والأجنبية 70% من الإيرادات العامة المنتظر تحصيلها والتي تبلغ 2.625 تريليون جنيه، وذلك حال عدم حدوث صدمات أو تغير في أسعار الصرف.
لا تغطي حصيلة الضرائب المتوقعة سوى 36% من إجمالي النفقات، بينما تخطط الحكومة للاستدانة من الداخل والخارج بقيمة 2.8 تريليون جنيه، ما يعادل 51% من الموارد المطلوبة في 2024/ 2025. ويعني ذلك أن مخصصات سداد الديون ستستمر في الارتفاع خلال السنوات المقبلة، على حساب كل البنود الأخرى المطلوبة لتلبية احتياجات السكان وتنمية الاقتصاد.
وتقول الدراسة إن النظام الضريبي بمصر انعكاس مصغر لأولويات وانحيازات الموازنة ككل، حيث يتحمل المستهلكون والعاملون بأجر العبء الأعلى في التمويل، بينما في مقابل ذلك يتم حساب أعباء ضريبية هزيلة على أصحاب الممتلكات والثروات ومضاربي البورصة وأصحاب الدخول العليا وكبار المهنيين، وحتى شركات الأموال.
ويزيد ذلك من أثر التقشف في السياسات الاجتماعية، إذ بدلًا من أن تلعب السياسة الضريبية دورها في تحجيم الفقر والتفاوت الاجتماعي، تساهم في تعميق عدم المساواة والهشاشة الاجتماعية.