استراتيجية الاغتيالات في العقلية الصهيونية

بعد دخول حرب الإبادة المستعرة على قطاع غزة شهرها العاشر، فشلت دولة الاحتلال بدعم أمريكي وغربي فضل تل أبيب على كييف التي تحارب هناك شرقًا ضد القوة الروسية الهائلة، في تحقيق أي من أهدافها المعلنة؛ سواء تحرير الأسرى أو القضاء على حماس، لتعود إلى استراتيجيتها القديمة، والتي تشكل تكوينها كجماعة صهيونية تأسست على أيدولوجية الجاسوسية والاغتيالات، استدعت في السبعينيات "غضب الرب" لتصفية خصومها، في فلسطين المحتلة ولبنان والعراق والآن تستدعي السياسة نفسها في كل بقعة أخرى تريد استهدافها، مشعلة فتيل أزمات قد تجر النتطقة كلها إلى صراع مرير وربما حرب عالمية جديدة.

مفهوم الاغتيالات "القتل المستهدف"

طرحت الأدبيات التاريخية تعريفات عدة حول مفهوم ظاهرة الاغتيالات وتفسيرها، وكان أبرزها الاغتيال السياسي، الذي يُعرف بأنه "جريمة القتل العمد لشخصية عامة ذات تأثير، إما لأسباب سياسية أو عسكرية أو فكرية أو دينية أو طائفية"، أو بأنه "القضاء على فرد معين لديه سلطة أو تأثير سياسي بهدف إحداث تغييرات في المجتمع دون الحاجة إلى التأثير على عقلية الناس". ويعد الاغتيال السياسي أحد أبرز حالات العنف السياسي بل وأشدها قسوة.

أما عن سياسة الاغتيال الإسرائيلية، فقد عملت إسرائيل على وضع مبررات وحجج للارتماء في هذه السياسة غير الأخلاقية، بوضعها في إطار الدفاع عن النفس ومحاربة الإرهاب الذي تمثله هذه الشخصيات ضدها.

ومن هذا المنطلق، عرّفت إسرائيل كلمة اغتيال بأنها عملية التصفية الجسدية التي تقوم بها أجهزتها الأمنية ضد قادة ومقاتلين فلسطينيين وعرب تتهمهم بالتورط في نشاط أو عمليات ضدها، وقد بقي هذا الاسم متداولًا حتى عام 2000. ولمزيد من إضفاء المشروعية على هذه السياسة وللابتعاد عن لفظ الاغتيال المُجرم وفقًا للقانون الدولي وللتهرب من أي مسؤوليات قانونية؛ عملت إسرائيل بداية من عام 2000 على استخدام صيغ "ملطفة" للتعبير عن عمليات الاغتيال مثل مصطلح "الإحباط الموضعي" أو "القتل المستهدف" الذي قدمه القاضي في المحكمة العليا "إلياكيم روبنشتاين" للتعبير عن عمليات الاغتيال التي أصبحت عقيدة وتكتيك رئيسي للعقيدة الأمنية الإسرائيلية.

جرت مناقشة سياسة عمليات القتل المستهدف بعد محاولة منظمة حقوقية إسرائيلية - فلسطينية دفع المحكمة العليا الإسرائيلية إلى وضع نهاية لمثل هذه العمليات عام 2002، فيما استغرق حسم ذلك من قبل المحكمة خمس سنوات.

وقال قضاة المحكمة في ديسمبر عام 2006 إن "حكومة إسرائيل تستخدم سياسة الضربات الوقائية التي تتسبب في مقتل إرهابيين"، فيما طرح رئيس المحكمة في حينه أهارون باراك تساؤلا مفاده: "في ضوء أن هذه الضربات تلحق في بعض الأحيان الضرر بالمدنيين الأبرياء، فهل تصرف الحكومة في هذه الحالة يتنافى مع القانون؟".

وجاء جواب المحكمة بأن الأمر "يتوقف حسب الحالة". وخلص الحكم الإسرائيلي إلى "أنه لا يمكن بشكل مسبق تحديد ما إذا كانت كل عملية قتل مستهدف محظورة وفقًا للقانون الدولي بالتوازي مع عدم حسم ما إذا كانت كل عملية قتل مستهدف مسموح بها وفقا للقانون الدولي العرفي بشكل مسبق".

وهو ما رد عليه أستاذ القانون نيلس ميلزر بأن هناك بعض العوامل الحاسمة حيال قانونية عمليات القتل المستهدف، فيما يكمن أبرز تلك العوامل في الإطار القانوني الذي يتم بموجبه تقييم مثل هذه العمليات بما في ذلك القوانين المحلية وما يُعرف بـ "قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني".

يعد الاغتيال بدون بصمة أي القتل خارج نطاق القانون، فعلًا مجرّمًا دوليًا وفقًا للقوانين والمعاهدات الدولية، وورد ذلك في:

المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 التي تنص على: "لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه."

المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على: "الحق في الحياة ملازم لكل إنسان. وعلى القانون أن يحمي هذا الحق. ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفًا."

اتفاقية جنيف الرابعة 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب، واتفاقية لاهاي الرابعة الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أفردت لجرائم الاغتيالات نصوصًا تحظر أسلوب الاغتيال لما له من خطورة على الأمن والسلم الوطنيين والدوليين، والأثر الكبير في إحداث القلق للمجتمع وإرباكه.

ومن هذا يحرم القانون الدولي أي شكل من أشكال القتل خارج القانون (الاغتيالات) الذي يتم بعيدًا عن ساحات القضاء، دون منح الشخص الحق في تلقي الدفاع الملائم ومعرفة التهم الموجهة إليه، وتنطبق هذه المواد على الأشخاص الخاضعين لحكومات وطنية أو الخاضعين لاحتلال. بل يبيح القانون الدولي أيضًا اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تجرّم الانتهاكات الجسيمة، وخاصة جرائم الحرب وجريمة العدوان، وغيرها من الانتهاكات التي تمس بالسلم والأمن الداخلي للدول وتهدد السلم الدولي.

تاريخ اغتيالات يساوي عمر إسرائيل

يذهب أولدريش بوريس وأندرو هوكينز، في دراسة شاركا في كتابتها بعنوان "عمليات القتل المستهدف الإسرائيلية قبل وأثناء الانتفاضة الثانية: مقارنة سياقية" إلى أن أولى عمليات الاغتيالات الإسرائيلية بعد تأسيس دولة الاحتلال حدثت عام 1956.

كانت تلك عملية متزامنة استهدفت مصطفى حافظ، ضابط الاستخبارات الحربية المصرية في قطاع غزة، والملقب بـ "صاحب الأعصاب الفولاذية" و"أبو الفدائيين"، لأنه كان يتولى تدريب الفدائيين الفلسطينيين على تنفيذ العمليات في العمق الإسرائيلي، والذي أصبح كابوسًا لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي قررت اغتياله.

مصطفى حافظ
مصطفى حافظ

يقول مردخاي شارون: "عرفنا أن مصطفى حافظ يحب معرفة كل شيء بكل التفاصيل، وأن أحد شيوخ القبائل في النقب، يدعى عامر الطلالقة، كان عميلًا مزدوجًا. عمل لصالحنا كما عمل في الوقت نفسه لصالح مصطفى حافظ والمخابرات المصرية، فقررنا أن نرسل من خلاله رسالة ملغومة إلى حافظ"، وكانت عبارة عن كتاب مفخخ بـ 300 جرام من المتفجرات. وكذا فعلنا مع صلاح مصطفى، الملحق العسكري المصري في الأردن، والذي تلقى رسالة ملغومة أيضًا في اليوم التالي من مقتل حافظ، موضوعة داخل كتاب يتضمن سيرة ذاتية عن أحد جنرالات هتلر، مرسلة من هيئة مراقبي الأمم المتحدة بالقدس الشرقية، وما إن فتح الرسالة حتى انفجرت في وجهه ومات هو الآخر انتقامًا منهما لدورهما في دعم الفدائيين الفلسطينيين.

وهذا ما عكس استمرار دولة الاحتلال في سياسة الاغتيالات التي اعتمدتها العصابات الصهيونية قبل عام 1948، كما حدث في اغتيال عصابة شتيرن لكل من اللورد موين، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط عام 1944، والكونت فولك برنادوت المبعوث الأممي للقضية الفلسطينية.

"غضب الرب".. برنامج الاغتيالات الإسرائيلي المنظم

تُعرف عملية "غضب الرب"، وفق "الموسوعة البريطانية Britannica"، بأنها حملة اغتيالات سرية نفذتها إسرائيل ردًا على اختطاف وقتل 11 رياضيًا إسرائيليًا على يد مقاتلين فلسطينيين في أولمبياد ميونيخ عام 1972. وكان هدفها الأول قبل التوسع معاقبة كل من له علاقة بهذه العملية التي عُرفت بـ"أيلول الأسود".

وقد تزايدت عمليات الاغتيال بشكل كبير بعد أحداث ميونيخ، حيث استهدفت إسرائيل قادة منظمات فلسطينية مثل فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقادت الحملة لجنة سرية برئاسة رئيسة الوزراء غولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان -آنذاك- والتي أذنت باغتيال كل من شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في عمليات ميونيخ.

منفذو عملية ميونخ (وكالات)
منفذو عملية ميونخ (وكالات)

تشكلت فرقة "غضب الرب"، والمعروفة أيضًا باسم "حربة"، من أعضاء الموساد وفرق العمليات الخاصة من جيش الدفاع الإسرائيلي (IDF). واستمرت المجموعة في تعقب وقتل المشتبه فيهم لسنوات. وكان من بين الضحايا، ثلاثة من المسلحين الذين نجوا من مذبحة ميونيخ، وتم الإفراج عنهم لاحقًا مقابل طاقم طائرة لوفتهانزا المختطفة.

بدأت الحملة بقتل وائل زويتر، أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية، في روما عام 1972. ثم تم استهداف محمود همشري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، حيث زرع فريق "غضب الرب" قنبلة في هاتفه. تلاه قتل أربعة مشتبه بهم آخرين في الأشهر التالية.

وفي أبريل 1973، نفذت عملية "ربيع الشباب"، التي قادها إيهود باراك، قائد وحدة النخبة "ساييرت ماتكال". تضمنت العملية غزوًا برمائيًا لبيروت، حيث استهدفت فرق الكوماندوز قادة منظمة التحرير الفلسطينية، مما أسفر عن مقتل محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر.

وفي العام نفسه، ارتكبت فرقة "غضب الرب" خطأً كبيرًا في ليلهامر، النرويج، حيث قتلت بالخطأ رجلًا بريئًا. وأدى هذا إلى تحقيق نرويجي أسفر عن اعتقال خمسة من عملاء الموساد وتفكيك شبكة واسعة من العملاء في أوروبا. ونتيجة لذلك، علقت غولدا مائير برنامج الاغتيالات المستهدف.

وفي عام 1979، أعيد تنشيط برنامج "غضب الرب" لاغتيال علي حسن سلامة، قائد عمليات "فتح" و"أيلول الأسود". حيث تم تنفيذ المهمة عبر سيارة مفخخة في بيروت.

مسلسل الاغتيالات الذي عاد في التسعينيات

في عام 1996، تم قتل يحيى عياش، الذي عُرف بكونه "خبير المتفجرات" في حماس، عن طريق تفجير هاتف مفخخ بمجرد التعرف على صوته.

في عام 1997، قامت عناصر استخباراتية إسرائيلية بحقن سم في أذن خالد مشعل، الذي كان حينها يرأس المكتب السياسي لحماس، وذلك أثناء وجوده في الأردن. وآثار ذلك غضب العاهل الأردني آنذاك الملك حسين، الذي هدد بمحاكمة عملاء الاستخبارات الإسرائيلية وإلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل في حالة عدم إرسال الترياق الذي تسبب في نجاة مشعل.

وفي عام 2000، أطلقت المروحيات الإسرائيلية صواريخ صوب سيارة كان على متنها القيادي البارز في حركة فتح، حسين عبيات، في قريته بالضفة الغربية، ما أسفر عن مقتله واثنين من المارة الأبرياء. ويرى خبراء أن هذا الهجوم مثل بداية سياسة إسرائيل في تنفيذ عمليات القتل المستهدف.

في عام 2002، أسقطت إسرائيل قنبلة على منزل القيادي العسكري في حماس، صلاح شحادة، في غزة، مما أدى إلى مقتله وعائلته و12 من جيرانه.

صلاح شحادة
صلاح شحادة

في عام 2004، قتل الشيخ ياسين في غزة بقصف عن طريق مروحية إسرائيلية. وشهد العام ذاته مقتل عبد العزيز الرنتيسي، أحد مؤسسي حماس، بعد استهداف سيارته بصواريخ أطلقتها مروحية إسرائيلية.

في عام 2009، أدى قصف إسرائيلي في غزة إلى قتل نزار ريان، القيادي السياسي في حركة حماس، مع تسعة من أفراد عائلته، فيما شهد العام ذاته قتل سعيد صيام، القيادي الذي تولى وزارة الداخلية بعد فوز الحركة بانتخابات عام 2006.

في عام 2010، قُتل محمود المبحوح، أحد مؤسسي الجناح العسكري في حماس، على يد عملاء إسرائيليين في فندق بدبي.

في عام 2012، قُتل رئيس الجناح العسكري لحركة حماس، أحمد الجعبري، في غارة إسرائيلية استهدفت سيارته في غزة، فضلاً عن مقتل عشرة آخرين.

في عام 2023، أدى هجوم بطائرة مسيرة إلى مقتل سيد راضي موسوي، القيادي بالحرس الثوري الإيراني، أثناء تواجده في دمشق. ولم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن الهجوم.

قم وأقتل أولًا.. إسرائيل التي تستهل الاغتيال

لقد أعادت الحرب المستعرة في غزة والتوترات في الجنوب اللبناني ومع إيران أخيرًا باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية الحديث مجددًا عن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية.

يقول رونين برجمان، مؤلف كتاب "قم وأقتل أولا: التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل"، إن "إسرائيل الصغيرة"، التي تعاني من المحاولات العربية للتدمير و"التهديد الدائم"، وضعت جيشًا فعالًا للغاية، ويمكن القول إن لديها أفضل وكالات الاستخبارات في العالم، وأيضًا "أقوى آلة اغتيال في التاريخ". حيث في العديد من المناسبات، كان الهدف هو قتل الأعداء الأقوياء. وأنهم بذلك تجنبوا الحروب والصراعات الكبيرة أو على الأقل وسعوا الفجوات بين هذه الأعمال العدائية الأوسع نطاقًا.

لكن في الوقت ذاته، وحسب برجمان في مقابلة تزامنت مع نشر الكتاب، فإن هذه الفاعلية في تنفيذ أكثر من 2700 عملية اغتيال ناجحة في تاريخ إسرائيل التي لم تكمل بعد عامها الثمانين، دفعت في بعض الأحيان الساسة الإسرائيليين إلى تجنب القيادة الحقيقية والدبلوماسية. لقد شعروا بأنه في متناول أيديهم "هذه الأداة" التي يمكنهم من خلالها "وقف التاريخ … يمكنهم التأكد من تحقيق أهدافهم بالاستخبارات والعمليات الخاصة، وليس بالتوجه إلى الحنكة السياسية والخطاب السياسي".

كيف يرى الإسرائيليون هذا؟

وفقًا لاستطلاع رأي أجراه معهد لازار الإسرائيلي لاستطلاعات الرأي في تل أبيب، ونشرته صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية، الجمعة، فإن 69% من الإسرائيليين أعلنوا تأييدهم لسياسة الاغتيالات التي تنتهجها إسرائيل، حتى وإن أدى ذلك إلى تأخير مفاوضات الهدنة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة. فيما تستعد إسرائيل لمواجهة الرد الإيراني المحتمل على اغتيال هنية فضلًا عن رد حزب الله اللبناني.

وقالت الصحيفة، وفقًا للاستطلاع المذكور، إن هذه النسبة من مواطني إسرائيل تؤيد الاغتيالات الأخيرة في طهران وبيروت، والتي استهدفت القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، العملية التي تبنتها إسرائيل، إضافة إلى اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس في طهران، والتي نُسبت لإسرائيل.

ويشير الاستطلاع إلى أن الإسرائيليين يدعمون سياسة بلادهم في استهداف القادة الفلسطينيين أو الأطراف الأخرى المعادية لإسرائيل، حتى لو أدى ذلك إلى تأخير أو عرقلة المباحثات ومفاوضات الهدنة مع الطرف الفلسطيني والوسطاء، الأمر الذي قد يؤخر أو يُفشل التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس منذ هجوم السابع من أكتوبر.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة