“نور الشمس” كاذب.. يوميات صحفي خارج بلاط صاحبة الجلالة (1 – 4)

رسوم – سلمى الطوبجي

“عارف يا حسين المصنع ده صورة صغيرة من اللي بيحصل في مصر كلها”.

ـ ازاي يا عم عرفة؟

“السمك الكبير بياكل الصغير، والصغير اللي بيرفض يتاكل بيكفروه في عيشته، لحد ما ييأس أو يعند ويكمل كفر”.

لم يكن يعرف العامل الستيني العجوز “عرفة” أن هذه العبارة، تتداول على نطاق مشابه في أروقة السياسة والصحافة.

هنا السمك الكبير بياكل الصغير، والصغير اللي بيرفض يتاكل بيكفروه في عيشته
هنا السمك الكبير بياكل الصغير، والصغير اللي بيرفض يتاكل بيكفروه في عيشته

سمعت مثلها عبارات كثيرة في رحلتي الصحفية التي لم تستمر قسرًا تحت وطأة ظروف سياسية صعبة أودت بحرية الصحافة وفرص الصحفيين في العمل، دفعتني تحت قسوة الحياة إلى دخول جحيم العمل في مصنع يشبه السجن، وسط عمال أقرب للسجناء، مفاتيح حريتهم في يد سجانهم.

سجنان؛ أحدهما فُرض على الصحفيين خلال السنوات الماضية، يأكل سنوات العمر انتظارًا لأمل استحال سرابًا، وآخر ينخر أجسادًا أضعفها العوز.

“السجّان”، سنسميه الآن سجّانًا، وإن كان في حقيقة الأمر هو في أوساط العمال كل شيء؛ الجاني والقاضي، الحكم والجلاد، رب هذا المكان.

لقد شربت من كأس العذاب 12 ساعة يوميًا لمدة 27 يومًا، أعمل بلا توقف، يتابعني مشرفون يضغطون بشكل دائم، لا وقت لأن تنقذ جسدك من العطش، لا وقت للاستراحة، لا وقت للطعام إن تم تسريحك مؤقتًا.

لا أرغب، لا أقوى، لا أستطيع، فرحلت قبل اكتمال الشهر. كان الأمر فوق احتمالي وقد تجاوز طاقتي.

خرجت من المكان/السجن بصعوبة.. قررت العودة إلى الكتابة والصحافة؛ لا لشيء سوى أن أروي عليكم ما رأيت.. سأحكي لكم عن السجن، حتى ولو كان هذا آخر ما أكتب. سيعلم الجميع عني؛ مسؤولون – أشك في أنهم لا يعلمون – ومن هم مثلي من العوام، بأن هناك مصريون يمتصهم “الجحيم” في الأسفل حرفيًا.

اعتصرتني تلك الرحلة قبل أن تُهلك جسدي. كنت أسير في وادي ظل الموت ولا أحد معي.. أنا فقط والمعذبون مثلي.

طلاب أسلمتهم جامعاتهم إلى المجهول علميًا وعمليًا، وعمال أسلموا مصائرهم على أبواب مصانع وشركات أخضعت وأخضعوا معها للتصفية، وكبار محتاجون، لا يقوون، لكنهم مجبرون.

مصر كلها هنا، تنام على سرير متهالك، تصحو على عمل مضن قاس، تدور في ساقية مهلكة، ثم تعود للنوم استسلامًا، في انتظار بعث جديد لأسطورة سيزيف والصخرة على كتفه التي ما عرفت وصولًا إلى القمة أبدًا.

تراجعت مصر – والعهدة على “مراسلون بلا حدود” – أربعة مراكز على مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة، خلال العام الجاري، لتحتل المركز 170 من أصل 180 دولة شملها التصنيف، مقارنة بالمركز 166 خلال العام الماضي.

هذا هو سجن الصحافة، بينما سجن العمال “هبوط متسارع إلى القاع”، تصف به دار الخدمات النقابية والعمالية – في تقرير عن العام 2023 – حالة الحريات النقابية في مصر، وما يتعرض له العمال من انتهاكات، وتراجع حاد في أحوالهم المعيشية، وقدراتهم على سد احتياجات أسرهم الأساسية.

مصر كلها هنا، تنام على سرير متهالك، تصحو على عمل مضن قاس.. كلنا سيزيف
مصر كلها هنا، تنام على سرير متهالك، تصحو على عمل مضن قاس.. كلنا سيزيف
  • الحلقة الأولى

وما رماك على المر؟

اسمي حسين جعفر، وأنا صحفي حر أبلغ من العمر 47 عامًا، أمتلك أرشيفًا يمتد 20 عامًا لم تشفع لي. أعيش منذ 5 سنوات ولا أزال من دون دخل شهري ثابت، أكتب موضوعًا هنا ومقالًا أو دراسة هناك، أبيع كل شيء من مكتبتي.. رفاهيتي.. صحتي، استهلاكًا في أي فرصة عمل، كي لا أصل إلى مرحلة الاضطرار إلى بيع نفسي..

أنا المطحون تحت ترس تعطل، فعصف بكل ما تبقى، وقد بدأت رحلتي في سجن المصنع حين أُبعدتُ عن بلاط صاحبة الجلالة.

بعد ذلك التعطل القاسي، الذي عصف بكل ما تبقى معي، بدأت الرحلة بالبحث عن عمل في بلاط صاحبة الجلالة، بين زملائي وأصدقائي الصحفيين.

طبقًا لتقارير لجنة الحريات بنقابة الصحفيين، تم فصل 350 صحفيا من وظائفهم في عام 2015، بما في ذلك 200 من صحيفة الأهرام المملوكة للدولة، و130 من صحيفة “اليوم السابع” المملوكة للقطاع الخاص، و22 من صحيفة “التحرير” المملوكة للقطاع الخاص. وبينما غابت البيانات الحديثة عن العدد الإجمالي للصحفيين الذين تم فصلهم من وظائفهم بعد العام 2015، أشارت النقابة في تقريرها عن مارس 2024 إلى أزمات تتعلق بأجور الصحفيين في عدد كبير من المواقع والصحف المصرية، فضلًا عن أزمة الفصل الجماعي التعسفي في مؤسستي “رويترز” و”بي بي سي” بسبب الرواتب وكذلك على إثر دعم القضية الفلسطينية.

“لم نوفق”؛ جملة مللتها، حالت بين الفرصة والمحاولات الدؤوبة من معظم الأصدقاء والزملاء الذين بذلوا جهدًا كبيرًا لإيجاد عمل لي في مهنتي، التي لم أكن أعرف غيرها طوال 20 عامًا.

جميع الأصدقاء والزملاء ذو خبرات ومناصب كبيرة ومهمة في المهنة. إلا أن تعطيل المهنة ووضع الاحتكار الذي آلت إليه أمور الصحافة في السنوات الأخيرة حال دون تمكنهم من مساعدتي.

"لم نوفق"؛ جملة مللتها، حالت بين الفرصة والمحاولات الدؤوبة من معظم الأصدقاء والزملاء الذين بذلوا جهدًا كبيرًا لإيجاد عمل لي في مهنتي
“لم نوفق”؛ جملة مللتها، حالت بين الفرصة والمحاولات الدؤوبة من معظم الأصدقاء والزملاء الذين بذلوا جهدًا كبيرًا لإيجاد عمل لي في مهنتي

في حديثه لـ”فكر تاني”، يقدّر الكاتب الصحفي محسن هاشم – أحد مدراء حملة تشغيل الصحفيين المعتطلين في الصحف الحزبية – أعداد المتعطلين بحوالي 3000 صحفي من إجمالي ما يقرب من 12 ألف صحفي، بنسبة 25% من إجمالي أعداد أعضاء النقابة.

يقول: “نسب التعطل في الصحف الحزبية وصلت إلى 90% من أعداد الصحفيين بها، فيما بلغت النسبة في الصحف الخاصة 60%”. وقد وصل عدد الصحف الحزبية المتوقفة عن العمل تمامًا إلى 20 صحفية، وفق هذا الإحصاء.

تطالب حملة تشغيل الصحفيين المتعطلين بإلغاء بدل البطالة (1250 جنيهًا) واستبداله باستراتيجية إعادة هؤلاء الصحفيين إلى العمل، تنفيذًا لقانون النقابة.

ولكن،

إلى حين تطبيق ذلك، اضطر بعض الزملاء تحت وطأة ضيق ذات اليد إلى امتهان وظائف أخرى.. أعرف بعضهم تحول إلى: سائق تاكسي – جزار – شريك في محل لبيع السلع.

طال هذا الوضع كثيرين.

الكاتب الصحفي محمد الجارحي وكيل نقابة الصحفيين نفسه كان من هؤلاء، الذين كُشفت قصصهم صدفة، حينما أراد أن يفصح في يناير 2022 عن قصة تحوله إلى “سائق أوبر وإن درايفر”.

يقول – في شهادته: “أنا فخور بما فعلت ولا أزال.. أحب التحديات وأحب أن أعيش بشرف وكرامة، وفي الاختبارات والمحن رغم انهزامي مراتٍ ومرات، إلا أنني أحاول الخروج من النفق. أتمسك بأي بصيص أمل أو حتى أشغل نفسي بما لا يجعلني أفكر وأكتئب”.

فرصة عمل في الجحيم

لخمسة أعوام كاملة كنت أطرق بوابات صاحبة الجلالة، أبحث عن دور في بلاطها، وما نلت الخلاص. قلت: “خلاص.. ما عدش قدامي إلا هذا الإعلان في إحدى مجموعات العمل الموسمي على مواقع التواصل.. عرض عمل في أحد مصانع العاشر من رمضان تحت اسم (نور الشمس)، وهو حساب وهمي على تطبيق المحادثات (ماسنجر)، تبين لاحقًا، أنه لفتاة تديره لحساب أحد دوائر معاونة مكاتب التوظيف”.

لم يكن العمل في هذا المصنع يتطلب أي أوراق سوى بطاقة الرقم القومي وشهادة الميلاد، والسن متاح من 18 حتى 60 عامًا، وفق صاحبة الاسم الوهمي “نور الشمس”.

لم يكن في جيبي من النقود إلا قليل، يكاد يكفيني ليوم أو يومين. سريعًا، اتخذت قراري، وأقنعت الشك داخلي: “كفاك ترددًا.. هذه فرصة جيدة.. مسألة الحساب الوهمي التي تؤرقك هذه حلها سهل.. يا سيدي خلينا ورا الكداب لحد باب الدار.. هل تملك حلًا آخر لبطالتك”.

لم يكن العمل في هذا المصنع يتطلب أي أوراق سوى بطاقة الرقم القومي وشهادة الميلاد، والسن متاح من 18 حتى 60 عامًا
لم يكن العمل في هذا المصنع يتطلب أي أوراق سوى بطاقة الرقم القومي وشهادة الميلاد، والسن متاح من 18 حتى 60 عامًا

محطة دار السلام، في قلب العاصمة القاهرة، ستكون البداية، وفق “نور الشمس”.. كانت هذه أرض الميعاد وبداية رحلة الخروج من العوز إلى سلام واستقرار مادي فقدته سنوات خمس طوال.

حسب آخر إحصائيات البنك الدولي في مايو الماضي، ارتفع معدل الفقر في مصر في عام 2022 إلى 32.5% من 29.7% في العام المالي 2019 – 2020.

“المميزات كثيرة في هذا المصنع”؛ كانت “نور الشمس” ترسم فرصًا جديدة للسعادة في خيالي، استمتعت بأثرها على آلام خدمة عقدين في بلاط صاحبة الجلالة بلا عائد.

“العمل في المصنع يوفر سكنًا ومواصلات ووجبة مجانًا.. ستعمل لـ 12 ساعة في اليوم بمقابل 4200 جنيه، و300 جنيه حوافز.. ستحصل على 26 يومًا، و4 أيام إجازة شهرية، و50 جنيهًا سُلفة يومية، يتم خصمها عند تسلم الراتب، مع تأمين صحي واجتماعي”؛ قالت “نور الشمس”.

كان السؤال بعد هذا الكلام: “هل تكفي في ظل الظروف المعيشية التي نحياها؟”، وكان الرد سريعًا حاضرًا: “مش أحسن من البطالة”.

قفزت القاهرة 49 مركزًا في ترتيب مدن العالم الأغلى في تكاليف المعيشة، بحسب تقرير لشركة ميرسر للخدمات المالية العالمية، حيث جاءت مصر في المركز الخامس من حيث ارتفاع المعيشة، بنسبة 49% زيادة عن العام الفائت 2023. ويؤكد التقرير أن مصر تقدم ترتيبها في قائمة أغلى بلاد العالم في تكاليف المعيشة خلال عام 2024، من المركز 217 في 2023 إلى المركز الـ 168 في 2024.

جهزت ما تيسر في شنطة سفر.. كنت أسعى لوضع المزيد لولا نصيحة “نور الشمس”: “ما تخدش أي حاجة.. السكن جاهز بكل شيء.. شنطة هدومك بس”.

لا شك، كان القلق يحاصرني على طول الطريق، لكن رعبي من استمراري في البطالة أكبر

**

في أيام المماليك، امتنع الشاعر يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد الجزار المصري  المعروف باسم “أبو الحسين الجزار” (توفى 1273م ) عن قول الشعر، وعمل بالجزارة.

مثله مثل شعراء كُثر غيره، كابن دانيال الكحال، والسراج والحمامي. وقد عاتب الجزار كبار العلماء والشعراء، أنشد:

لا تلمني يا سيدي شرَفَ الدِّينِ إذا ما رأَيتَني قَصَّابًا

كيف لا أشكرُ الجزارةَ ما عشتُ حِفَاظًا وأَرفضُ الآدَابا

وبِها أضحَتِ الكلابُ تُرَجِّوني وبالشِّعرِ كنت أرجو الكِلابا

**

مكاتب “تسفير” إلى جهنم… يتبع

1 تعليق

  1. رصد دقيق ومؤلم
    لوقائع معاشة أرجو استغلال خيوطها في نسج رواية أو فيلم توثيقي يبقى بدلا من حصرها في مجرد كتابة شبه تسجيلية

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة