“كان وقت صعب جدًا، مشاعري وأفكاري، كل حاجة كانت سلبية، وكان عندي تخيلات ليها علاقة بالموت والأذى الجسدي، ساعات كنت بحس إني عايزة أرميه على الأرض”؛ تروي “أميرة” حكايتها لـ فكّر تاني، تحكي عن قصتها مع ابنها الأول، يوسف، وعن اكتئاب ما بعد الولادة.
كانت الأيام الأولى لأميرة بعد الولادة مليئة بالإرهاق والتعب الشديد، كانت تعاني من صعوبات في النوم، وشعور شديد بالعُزلة، وهو ما أثر بشكل كبير على تعاملاتها مع محيطها الاجتماعي.
تعرّف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) اكتئاب ما بعد الولادة بأنه أحد أشكال الكآبة النفاسية التي تحدث عادة خلال فترة تتراوح بين أسبوعين إلى ثمانية أسابيع بعد الولادة، ويمكن أن تستمر حتى سنة بعد ولادة الطفل. وتقول الدكتورة أليسون ستوبي، وهي متخصصة بطب الأمهات والأجنة وبروفيسورة في أمراض النساء والتوليد في كلية الطب بجامعة ولاية كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة، إن اكتئاب ما بعد الولادة ليس مجرد شعور بالحزن، بل يتميز أيضًا بقلق شديد.
“أمي كانت موجودة طوال الوقت، وأخواتي الاثنين وزوجي ووالدته واخته وخالتي وبناتها، لكن لم تفهمني واحدة منهن، حين سألتني والدة زوجي وهي تضع ابني في يدي: حاسة بإيه؟ وأخبرتها: ولا حاجة!”؛ تقول أميرة، والتي اكتشفت أن افتراضات تأقلمها بسرعة بعد الولادة لم تثبت نجاحها، رغم أن جميع أفراد أسرتها كانوا إلى جانبها. تضيف: “تعاملوا معي بتوقعاتهم الخاصة، لم يفهمني أحد، حين أخبرتهم، أنني أشعر تجاه الجسم الصغير الموضوع بين يدي بالغرابة لا بالحب، ورأيت علامات الاستنكار على وجوههم حين قلت بعد أول مرة أرضعته فيها: تعبت مش عايزه أرضّعه تاني”.
وتشير “أميرة” إلى أنها أحست فجأة بالضغط الشديد، وأن الشعور الذي سيطر عليها هو الذنب والإحباط، وأن تلك المشاعر قوبلت بعبارات مثل: “بطلي دلع، مفيش أم بتكره ابنها”. كان شعورًا صعبًا عليها، وليس كُرهًا.
في مجتمعنا اليوم، يزداد الوعي بالصحة النفسية، لكن هناك دائمًا الجانب المُظلم في “اكتئاب ما بعد الولادة”. وهذه الظاهرة، تؤثر على نسبة كبيرة من النساء في جميع أنحاء العالم، ما يترك آثارًا عميقة على حياتهن اليومية وصحتهن النفسية.
وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 10-15% من النساء يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، ما يجعلها واحدة من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا بين الأمهات الجدد.
ووفق دراسة نشرتها مجلة “JAMA Psychiatry”، تعاني واحدة من كل سبع نساء من أعراض اكتئاب ما بعد الولادة في الولايات المتحدة وحدها، وتصل هذه النسبة إلى حوالي 20% في بعض الدول النامية.
وتأتي هذه الأرقام المثيرة للقلق مدعومة بالأبحاث العلمية التي تشير إلى أن هذا الاكتئاب ليس مجرد حالة عابرة من الحزن، بل هو اضطراب نفسي حقيقي يمكن أن يؤثر بشكل كبير على قدرة الأم على رعاية نفسها وطفلها.
وفي دراسة أخرى نشرتها مجلة “Lancet” توضح أن النساء اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة يواجهن خطرًا متزايدًا للإصابة باضطرابات نفسية طويلة الأمد، مما يتطلب تدخلًا علاجيًا مبكرًا وشاملاً.
اقرأ أيضًا:في عيدها..إعادة النظر في الأمومة كاختيار أخلاقي
معاناة الأم بعد الولادة ودخولها في تجربة الاكتئاب، يمكنها أن تؤثر بشدة على الرابطة بينها وبين مولودها، والمشاعر السلبية المصاحبة لتلك الفترة، قد تدفعها للاعتقاد إلى أنها غير قادرة على تحمل المسؤولية التي جاءت مع الطفل، وقد يدفعها ذلك إلى الابتعاد عنه.
“مشاعري في الشهور الأولى للحمل، كانت عبارة عن خوف شديد من عدم اكتماله، أو أن يولد الطفل بتشوهات بسبب الأدوية التي أخذتها لكي أنجب، لكن تبدّل هذا الشعور في الشهور الأخيرة وأصبحت لا أريد هذا الحمل”؛ تقول هبة عن تجربتها مع اكتئاب ما بعد الولادة لـ فكّر تاني.
أدركت هبة بعد الولادة أنها لا تستطيع تحمل مسؤولية طفل، بالإضافة إلى أعباء الزواج نفسه. كانت مدركة أن علاقتها بزوجها نفسه لن تستمر.
“منذ مرحلة البلوغ كنت أعاني من تكيسات على المبايض، وهو ما أدى ذلك إلى عدم انتظام دورتها الشهرية، حيث كانت تأتي مرة واحدة كل ستة أشهر… كده مش هتعرفي تخلفي”؛ تشير هبة إلى هذه العبارة التي كانت ترددها أمها على مسامعها، منذ بداية تشخيصها في فترة مراهقتها، وأنها كانت مقتنعة تمامًا بأنها لن تنجب.
حين تزوجت، سعت هبة حثيثًا للحمل، كانت تريد إثبات قدرتها على الإنجاب، وعندما حملت للمرة الأولى، لم يثبت الطفل وأُجْهضِت، وكان لهذا أثر كبير للغاية عليها. لكنها، لجأت إلى أدوية تنشيط المبايض لمدة شهرين، حتى حدث الحمل.
رغم ذلك، فحين أنجبت طفلها تحولت هبة إلى رفضه. “كنت أتركه مع أمي أو أم زوجي. قررت إرضاعه صناعيًا، وبهذا أصبح سهلًا أن أبتعد عنه لفترات. كنت أتركه مع إحدى جداته أو المُربية”.
ظلت هبة هكذا طوال ثلاث سنوات، هي وزوجها، يتركان ابنهما وحده مع أي شخص غيرهما، وأحيانًا لأيام، وحين يعودان أخيرًا إلى البيت، يسألون فقط عنه، إنه بخير.. فلا داع لرؤيته ما دام بخير.
تحكي هبة: “اختبر ابني أول نوبة صرع، وهو في الثالثة من عمره، ومن يومها لا أتركه دقيقة واحدة، أحيانًا، أخاف النوم حتى لا تأتيه النوبة وأنا لست بجانبه، وفي تلك الفترة، عرفت أن كل ما مررت به كان اكتئاب ما بعد الولادة وأنني يجب أن أتلقى العلاج قبل الإنجاب مرة أخرى”.
اقرأ أيضًا:“بابا جه” أم “ماما زمانها جاية”.. هل الأب محفظة للأسرة وفقط؟
“لست حزينة الآن، أندم أحيانًا وأعتذر له، لكني عوضت طفلي عن كل شيء. أصبحنا أصدقاء ولسنا أم وطفلها، وأنا مؤمنة أن ما حدث جعلني أمًا أفضل”؛ تقول هبة.
أعراض وأنماط نوبات الاكتئاب
وفق منظمة الصحة العالمية، فإن الشخص يعاني، خلال نوبة الاكتئاب، من الشعور بالحزن، سريع الانفعال، فارغ. وقد يشعرون بفقدان المتعة أو الاهتمام بالأنشطة.
وتختلف نوبة الاكتئاب عن تقلبات المزاج العادية. إذ تستمر معظم اليوم، وكل يوم تقريبًا، لمدة أسبوعين على الأقل.
ومن الأعراض الأخرى:
ضعف التركيز
الشعور بالذنب المفرط أو تدني قيمة الذات
اليأس من المستقبل
أفكار حول الموت أو الانتحار
النوم المتقطع
تغيرات في الشهية أو الوزن
الشعور بالتعب الشديد أو انخفاض الطاقة.
ويمكن أن يسبب الاكتئاب صعوبات في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك في المجتمع وفي المنزل والعمل والمدرسة.
يمكن تصنيف نوبة الاكتئاب على أنها خفيفة أو معتدلة أو شديدة اعتمادًا على عدد الأعراض وشدتها، بالإضافة إلى التأثير على أداء الفرد.
اكتئاب أم ذهان
تعكس تجربة هبة الواقع الصعب الذي تعيشه الكثير من الأمهات اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة. هذا الوضع يتطلب دعمًا نفسيًا واجتماعيًا كبيرًا، حيث يمكن للاكتئاب أن يؤثر بشكل كبير على قدرة الأم على التواصل مع طفلها وتقديم الرعاية اللازمة له.
يقول الدكتور عماد يؤنس فهمي، استشاري النساء والتوليد، أنه لا يوجد سبب معروف حتى الآن لاكتئاب ما بعد الولادة، فله أسباب متعددة لكنها مجرد تخمينات أو مقترحات، لكن لا يوجد سبب مؤكد 100%.
ويوضح فهمي، قد تعاني الأم من الاكتئاب نتيجة عدة أسباب، فهناك تغيرات هرمونية، فيسولوجية أو جينية، وقد يكون نتيجة مشكلات اجتماعية أو أمراض نفسية سابقة، لكن لا يوجد سبب مؤكد حتى الآن.
وفي المجتمعات الشرقية، كما يشير الدكتور عماد يؤنس، أن اكتئاب ما بعد الولادة، قليل إلى حد ما، فهناك ترابط أسري ودعم مجتمعي في فترة الحمل والولادة، على عكس ما يحدث في المجتمعات الغربية، التي يزيد فيها نسبة التعرض لهذا الاكتئاب بسبب الوحدة أو عدم وجود العائلة والدعم.
ويؤكد يؤنس، اكتئاب ما بعد الولادة ليس خطير بدرجة كبيرة، ويحدث لمدة سنة بعد الولادة، ولكن الذي يعد اضطراب خطير بالفعل هو ال Postpartum Psychosis أو “ذهان ما بعد الولادة”.
وذهان ما بعد الولادة، نادرًا ما يحدث، فواحدة من بين عشرة آلاف أم قد تُصاب به، وتصل درجة خطورته إلى محاولات قتل الأم نفسها أو قد تُفكر في قتل رضيعها.
يقول يؤنس، أن الأمراض المرتبطة بالولادة هي “الاكتئاب والذهان” لكن بقية الأمراض الأخرى هي مجرد عوامل مساعدة لظهور تلك الأعراض، ويشير إلى أن هناك آراء تؤكد أن طبيعة الولادة نفسها -طبيعية أو قيصرية- قد تُزيد من خطر الإصابة بتلك الأمراض، لكن ليس هناك احصائيات تؤكد على هذه الآراء.
ويوضح، أن هناك أنواع من الأدوية إذا تناولتها الأم بعد الولادة، قد تُسبب الاكتئاب، مثل دواء الضغط Aldomet، وهو دواء شائع جدًا ينصح به للحوامل المصابات بارتفاع ضغط الدم وهو آمن تمامًا أثناء الحمل ولا يتسبب في أية أضرار، لكن يجب تبديله فورًا بعد الولادة.
اقرأ أيضًا:“ما إنتي زي كل الستات”.. الأنوثة بقت موضة قديمة!
وعن طرق العلاج، يقول فهمي، إنها تختلف حسب الأعراض، فإذا تلخصت في البكاء أو عدم التأقلم، إذًا، يمكن علاجه بالدعم الأسري، أما إذا تطور الأمر إلى أعراض أخرى مثل القلق أو التوتر الشديدين، هنا، يجب اللجوء إلى طبيب نفسي حتى لا يتطور الوضع إلى ما هو أسوأ.
وفي كل الأحوال، بحسب الدكتور عماد، أن جميع النصائح التي تُعطى للنساء لتجنب الاكتئاب، تكون نصائح اجتماعية، وأن منهن نساء يكن مضطربات جدًا أثناء الحمل، فيكون لديهن هواجس بشأن المسؤولية وكيف تعتنين بأطفالهن، وهي كل ما تحتاج إليه هو الدعم النفسي من أسرتها.
يقول الدكتور فادي صفوت، أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان، أن اكتئاب ما بعد الولادة، يختلف من حالة إلى أخرى، فهو يأتي كعرض قبل الاكتئاب، هناك حالات يكون لديها استعداد وراثي، وذلك ليس تشخيصًا دقيقًا، ويوجد عليه اختلاف.
اقرأ أيضًا:في المَرايا.. ممَ نخاف؟!
ويضيف صفوت، أحيانًا تكون تلك الأعراض هي تغير في المزاج مع حالات قلق وتوتر تصيب الأمهات بعد الولادة مباشرةً، وليس اكتئاب، وهذه حالة طبيعية تأتي لنسبة كبيرة من الأمهات ولا تحتاج إلى علاج، أما اكتئاب ما بعد الولادة، أعراضه قد تصل للأفكار الانتحارية وغياب الرغبة في كل شيء، بالإضافة إلى غياب الشعور بالمعنى واحساس بالتشتت.
ويوضح الدكتور فادي صفوت، أن هذا الاكتئاب قد يدوم لأكثر من أسبوعين ويستمر لثلاثة أشهر، وإذا استمر أكثر من ذلك، يصبح اكتئاب حقيقي.
وبحسب صفوت، هناك نسبة ضئيلة من الأمهات قد تُصاب بما يُسمى “ذهان ما بعد الولادة” وفي هذه الحالات، قد تحاول الأم أذية نفسها أو طفلها.
ويشير دكتور فادي إلى أن هناك عدة عوامل للإصابة بذُهان ما بعد الولادة، منها الاستعداد الوراثي مثلا، أو عوامل أخرى اجتماعية، وهنا، تحتاج الأم إلى علاج نفسي ودوائي، ويمكن أن يصل لأن يتم حجزها فترة حتى يتم تحديد ماهية الاضطراب، وفي بعض الحالات قد لا تحتاج الأم إلى ذلك وتتحسن بالفعل مع الوقت ليس إلا.
ويوضح صفوت، أن إصابة الأم بالاكتئاب بعد الولادة، تتغير من حالة إلى أخرى حسب النشأة الاجتماعية، والأفكار الشخصية للأم، فهناك من تشعر بالتقصير في حق رضيعها، أو أنها لم يعد لها قيمة بعد الحمل، وهناك من تشعر بالوحدة، أو المسؤولية المفاجأة.
كما يضيف صفوت، وربما تشعر الأم، بالخوف الشديد على طفلها، أو بالملل تجاهه، كما أن هناك أمراض نفسية أخرى قد تظهر فجأة، لكنها ليست بسبب الولادة، ويكون العامل عنها الاستعداد الوراثي، ويوضح، أن هناك أمراض نفسية أخرى قد تُصاب بها الأم، إذا تواجدت في بيئات غير صحية، أو مستقرة نفسيًا، خاصة إذا صاحب ذلك عدم الاهتمام بها وتقديم الدعم الكافي لها.
وعن طرق الوقاية، يؤكد الدكتور فادي صفوت، على ضرورة معاملة كل أم كحالة منفردة، لذا، فلابد أن يتعامل معها متخصصون، وهناك بالفعل مجموعات للتوعية، واستشارات تُقدمها “الأمانة العامة للصحة النفسية”يمكن أن تلجأ إليها الأم عن طريق الخط الساخن، لكن عمومًا، فإن تواجد العائلة وطمأنة الأم بأنها ليست وحدها في حياتها الجديدة بعد الولادة أمر في غاية الأهمية.