أدار الجلسة – معتز ودنان وداليا موسى
تصوير – محمد الراعي
في إطار جلسات “فكر تاني” الحوارية كان لابد للعدالة الاجتماعية أن تجد مساحة كبيرة في سعينا لتقييم الواقع واستقصاء المستقبل، خصوصًا وأنها كانت هدفًا رئيسيًا ومطلبًا أصيلًا لشعب عانى ظروفًا قاسية ومستويات فقر غير مشهودة، تلزم لتحسينها أن تُفرض سياسة حماية اجتماعية حقيقية، تكون عدالة الأجور على رأس أولوياتها.
ولتقديم رؤية جادة تخدم هذا الهدف، كان لابد من اختيار مختصين ملمين بملفي الاقتصاد وحقوق العمال: سلمى حسين الكاتبة الصحفية والباحثة الاقتصادية، وإلهامي الميرغني الباحث الاقتصادي نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والدكتور شريف المصري رئيس الاتحاد المصري للنقابات العمالية، وحسن البربري مسؤول ملف العمال بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، وهم خبراء تناولت معهم “فكر تاني” أطراف الحديث حول سياسات وتاريخ الحد الأدنى للأجور، بينما قدموا في نهاية الجلسة توصيات هامة حول تطوير هذا الملف للوصول إلى مآلات أفضل مما هو متوقع.
فإلى نص الحوار داخل الجلسة:
الأجور وعدالة التوزيع
ما هو الأجر العادل؟
إلهامي الميرغني: الأجر العادل هو الذي يكفي تغطية تكاليف المعيشة لعامل وزوجته واثنين من الأبناء من طعام وشراب وتعليم وصحة وسكن ومواصلات وترفيه وكل عناصر الإنفاق الضرورية للحياة بما فيها الادخار.
تحديد الأجر العادل يعتمد على دراسات متكاملة لظروف السوق واقتصاد العمل. يجب على كل مؤسسة أو شركة أن تحدد أجورها وفقًا للحد الأدنى للأجور المقرر، حيث لا يمكنها أن تدفع أقل من هذا الحد. ومع ذلك، يمكن للمؤسسات أن تحدد أجورًا أعلى من الحد الأدنى بناءً على قدرتها المالية وظروفها الخاصة.

سياسات الأجور في مصر “ترقيع لثوب مثقوب”
كيف ترى الواقع الحالي لسياسات الأجور في مصر؟
إلهامي الميرغني: سوق العمل المصري يضم ثلاثة قطاعات تشغيل، كل قطاع منها له سياسات أجور خاصة به.
أول هذه القطاعات، الحكومي العام (قطاع الأعمال)، والذي له سياسة أجور خاصة به، وينظم بقانون الخدمة المدنية، وفيه يتم الحديث الواسع حول الحد الأدنى للأجور.
أما القطاع الثاني فهو الخاص المنظم والخاضع للقانون 12 لسنة 2003، وله نظام مرتبط بالأجور مثل: العلاوة السنوية بنسبة 7%، ووجود الحد الأدنى للأجور، والمجلس الأعلى للأجور الذي يبحث موضوع الحد الأدنى. ولكن باب الاستثناءات الخاص بالحد الأدنى للقطاع الخاص متسع جدًا، مما يجعل الحد الأدنى الذي نتكلم عنه لا يطبق على نطاق واسع رغم أن هذا القطاع يتمتع بأنه منظم بشكل جيد.
القطاع الثالث هو القطاع الخاص غير المنظم، وهؤلاء لديهم مشكلة أنهم مدرجون بأعمال غير دائمة، وأنشطتهم موسمية مؤقتة، وهم خارج نطاق الحماية الاجتماعية ومنظومة الأجر العادل.
هذا التشعب في القطاعات يجعلنا لا نتحدث عن سياسة موحدة للأجور، بل عددًا من السياسات المختلفة. ولذلك أرى تفاوتًا كبيرًا في الأجور بمصر، وعلى سبيل المثال عمال النظافة في وزارة التربية والتعليم رواتبهم 500 جنيه شهريًا، ولو تغيب أحدهم يتعرض لخصم يومين عن كل يوم غياب، وفي إجازة الصيف ليس لهم راتب. هناك قوائم كبيرة مثلهم، كعمال التشغيل ومدرسي الحصة – أعلى سقف لا يتخطى 1200 جنيه – وعدد كبير آخر في ظروف عمل قاسية وأجور ضئيلة، تصل إلى 300 جنيه. وهو ما يثبت أن تطبيق الحد الأدنى للأجور بقيمة 6000 جنيه غير مفعل في قطاعات عديدة، وبالتالي، فإن التحول إلى المعاشات بالنسبة لهذه الفئات يدخلها في أوضاع أقل ما يقال عنها إنها كارثية.
ما نراه على أرض الواقع هو جزء رئيسي من الخلل في سياسات الأجور بمصر، ونحن نعاني منه. وببساطة، يمكن توصيف الوضع الراهن بأنه “ترقيع لثوب ممزق”، وليست محاولة لإصلاح حقيقي لسياسات الأجور بمصر. وبقول قاطع، مصر ليس لديها سياسات واضحة وحقيقية لتلك السياسات.

ما هي المعايير الدولية لسياسات الأجور وكيف نقارنها بالوقع المصري؟
سلمى حسين: دعونا نطرح في البداية عددًا من الأسئلة الاسترشادية: هل الطبيب والمعلم والمهندس والصحفي هم من أصحاب أعلى أجر في مصر مثل القاضي وغيره من الفئات صاحبة الأجور المرتفعة؟ هل مصر تطبق سياسة نفس الأجر لذات العمل، بمعنى هل جميع مدرسي المرحلة الابتدائية يحصلون على الأجر الشهري ذاته أم أن هناك من يحصل على 1000 جنيه وآخر يحصل على 10 آلاف؟
إجابات تلك الأسئلة تكشف لنا أننا نخالف المعايير والمبادئ الأساسية التي تم وضعها من قبل منظمة العمل الدولية لضبط سياسات الأجور.
لدي سؤال آخر مهم: ما الفرق بين أقل وأعلى أجر في القطاع نفسه؟ ما الفرق بين مرتب العامل في هذا القطاع ومرتب الوزير المسؤول عن هذا القطاع؟ الأصل أن لا يتجاوز الفارق الـ20 ضعفًا، وهذا ليس معناه أن يتقاضى الوزير مرتب أقل، ولكن أن يرفع راتب العامل.
وكذلك على المستوى القومي، ما هو الفرق بين أقل وأعلى أجر داخل الوطن، وهذا ليس معناه ألا يحصل موظف على مليون جنيه مرتب، ولكن أن تتدخل الضرائب بفرض رسوم أعلى عليه تُختصم للدولة تحقيقًا للعدالة الاجتماعية، عبر دعم مشروعات خدمة المواطنين.
إجابات تلك الأسئلة تكشف المنظومة العالمية لسياسات الأجور وواقعها في مصر.
نتحدث عن هيكل أجور متكامل، به حد أدنى بنسبة جيدة من المستفيدين، وأن يتضمن رؤية لفرص الترقي داخل العمل وفقًا للقدرات العلمية والعملية. وكذلك ربط المرتبات بحجم التضخم في البلاد، وتوافر رؤية لفرصة العمل المناسبة، ومنظومة الحماية داخل العمل من الإصابات المرتبطة به، وآليات التعامل مع الفصل بشكل عادل، وغيرها من الأمور التي تتطلبها سياسات الأجور العادلة، وهو أمر غير مطبق في مصر.
دعني أشير إلى نقطة غاية في الأهمية هنا: عندما أعلنت الدولة عن توفير أكثر من 700 ألف وظيفة في 2022، كان أقل من ثلثي هذا الرقم عملًا دائمًا، فيما كان أكثر من الثلث عملًا مؤقتًا، ومعظم تلك الأعمال كانت في مشاريع الإنشاءات، التي تغيب عنها معايير جودة العمل. ورغم الحديث عن تلك البيانات بشكل إيجابي من الدولة، إلا أنها في ذاتها تحمل مؤشرات سلبية عن العمل وسياسات الأجور داخلها.
أما عند الحديث عن قانونية العقود التي تم توفيرها، فإننا نجد أن هناك مشكلة كبرى للعاملين في مصر، خصوصًا في مجال الإنشاء والإعمار وحجم المخاطر الكبيرة به.
مقتضيات العقد القانوني في الماضي كانت تسمح بتطبيقه (العقد) حتى ولو كان العمل ليوم واحد فقط، ولو تعرض العامل لإصابة، فإن له الحقوق الكاملة من حيث العلاج والتعويضات. الكارثة في عقود العام 2022 أنها قسمت هؤلاء العمال فكان 37.7% منهم يتمتعون بعقود قانونية، وكانت لهم تأمينات صحية، أما ما يقارب الثلثين فلم يمتلكوا عقودًا قانونية وبالتالي حرموا التأمين الصحي، وحتى المشتركون منهم في التأمينات الاجتماعية لم تتخط نسبتهم الـ43% فقط من أصل الـ700 ألف عامل، وهذا أقل من متوسط تلك المؤشرات في المجتمع المصري، وهذا يشير إلى أن معايير جودة العمل في مصر تنخفض، وتخلق تلك وظائف مزيدًا من الفقراء، وذلك رغم أن الملتحقين بهذه الأعمال مارسوا أعمالهم لأوقات أطول من ساعات العمل القانوني، وفي ظروف أكثر كارثية من العمل فيما مضى.

هذه أزمة الحد الأدنى للأجور
كيف تقيم تطور عملية تطبيق الحد الأدنى للأجور بمصر؟
شريف المصري: عندما يُطرح الحديث عن الأجور في مصر، يركز الكثيرون على الحد الأدنى للأجور فقط، بينما يجب ألا نحصر أنفسنا في هذا الجانب فقط.
الحد الأدنى شهد تطورات كثيرة، منها ربطه بحد أقصى للأجور في عام 2010، لم يتم تطبيقه إلا في عهد المجلس العسكري بعد الثورة، وكان هذا القرار فارغًا من مضمونه، نظرًا لعدم وجود حد أدنى محدد وشامل.
وقد تم تحديد الحد الأقصى دون تحديد الحد الأدنى بدقة، وكان الفارق كبيرًا جدًا، حيث كان 35 ضعفًا من الحد الأدنى، وهو بعيد جدًا عن الفروق في دول العالم التي تتراوح بين 20 إلى 25 ضعفًا.
إذا كانت هناك رغبة في زيادة مرتبات بعض الفئات، فعلينا رفع الحد الأدنى للجميع تحقيقًا العدالة الاجتماعية.
لا أرى القضية محصورة في الحد الأدنى فقط. يجب أن تكون هناك سياسات أجر شاملة ومترابطة، وينبغي النظر إلى الأجر ضمن حزمة متكاملة من السياسات، بما في ذلك سياسة الحد الأدنى للأجور.
عند الحديث عن الحد الأدنى للأجور، هناك خلل كبير في حساب هذا الرقم، حيث يتم حسابه بشكل عشوائي يفتقر إلى المعايير، ويتم تفتيته بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص. هذا الاختلاف يخلق مساحات عشوائية، تتطلب تطبيق الحد الأدنى برؤية شاملة تراعي أجر العامل، مع تحقيق العدالة الاجتماعية والحماية من التمييز، بالإضافة إلى الخدمات الصحية والعامة المقدمة لجميع المواطنين.
عند النظر إلى الحد الأدنى للأجور المعلن 6000 جنيه – والمطبق بطريقة ارتجالية – نجد أن القرار الصادر من المجلس القومي للأجور، رقم 27 لسنة 2024، فقد مضمونه. فالقرار يستثني المنشآت الصغيرة التي يعمل بها أقل من 10 أفراد. وبحسب بيانات جهاز الإحصاء في مصر، فإن عدد المنشآت المستثناة يمثل 92% من العاملين في مصر، ما يعني أن 92% من العاملين في القطاع الخاص الرسمي تم استثناؤهم من الحد الأدنى للأجور.
الأمر الثاني، أن القرار سمح للشركات بتقديم طلبات استثناء، ووضع مجموعة من الضوابط لها. وفعليًا، قدمت 1800 شركة طلبات استثناء من الحد الأدنى للأجور، وفقًا لتصريح وزير العمل، ما يعني أن العاملين في تلك الشركات خارج نطاق الحد الأدنى للأجور. والمتبقي من القطاع الخاص الرسمي الذي يلتزم بالحد الأدنى لم يطبق القرار إلا على مجموعة صغيرة جدًا.
في المقابل، يصبح الحديث عن النقابات العمالية التي تطالب بحقوقها أمرًا ضروريًا. لكن الواقع يكشف عن عوار كبير في الحرية النقابية في مصر، إذ لا يستطيع العمال تنظيم إجراءات تصعيدية ضد الشركات التي لا تطبق الحد الأدنى. وهذا يبرز أهمية الحق النقابي في تحقيق العدالة المجتمعية وتطبيق الحد الأدنى للأجور. وللأسف، الحريات النقابية في مصر غير مفعلة بشكل كامل.
أيضًا، عند الحديث عن تطور الحد الأدنى للأجور، يجب تناول السلامة الصحية للعمال في الشركات والمصانع. وللأسف، الوضع سيء جدًا، إذ يوجد عدد قليل من مفتشي الحكومة، مما يجعلهم غير قادرين على أداء دورهم. والعامل هو من يدفع ضريبة ذلك بغياب إجراءات السلامة وعدم تمتعه بالتأمين الصحي.
حتى المستشفيات الحكومية، التي هناك مساعي لتأجيرها الآن، ستحرم الفئات العاملة من الأمل في الحصول على علاج منخفض التكلفة. وكل ذلك مرتبط بالأجور والحد الأدنى للأجور، الذي يزداد الطلب عليه مع زيادة الأعباء على الأسر برفع الدعم.
وبالنظر إلى الاتفاقيات التي وقعت عليها مصر، نجد أن هناك اتفاقية العمل الدولية الموقعة في السبعينيات من القرن الماضي، والتي تشترط في أول بنودها ضرورة ربط الأجر بالمستوى المعيشي لأسرة تعيش حياة كريمة، وهو ما لا يُطبق على أرض الواقع.

الأجور تزيد وقيمتها تنخفض
في أحد خطاباته، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الحد الأدنى المعقول للأجور، فقال إن الأسرة المصرية تحتاج إلى 10 آلاف جنيه للعيش بشكل جيد، كيف تقيمون هذا الرقم؟
شريف المصري: إذا ما تتبعنا الحصر الأولى للأجور منذ سبتمبر 1972 وإلى الآن سندرك التحول الحاصل في قيمة الرواتب في مصر.
كان الحد الأدنى للأجور 30 قرشًا في اليوم، ثم ارتفع إلى 40 قرشًا يوميًا في 1974، و20 جنيهًا شهريًا في 1980. وفي 1981، تم تحديد الأجر الشهري بـ25 جنيهًا، وفي 2008 بلغ 300 جنيه شهريًا. وفي 2010، ارتفع إلى 400 جنيه بزيادة 33%.
ومنذ ذلك الوقت، تم ربط الزيادة بسعر الصرف الدولاري، حيث كان الدولار بـ5.77 جنيه، مما جعل قيمة الأجر 69.32 دولار.
وفي يناير 2012، كان الحد الأدنى 700 جنيه يعادل 120 دولار. وفي 2015، ارتفع الحد الأدنى إلى 1200 جنيه بقيمة 168 دولار، ووصل إلى 2000 جنيه ثم 2400 جنيه في يناير 2022، بزيادة 22%، بما يعادل 153 دولار.
وفي يناير 2023، أصبح الحد الأدنى للأجور 3000 جنيه، بما يعادل 77 دولارًا فقط، ثم ارتفع إلى 6000 جنيه، ولكنها لا تتجاوز 110 دولار.
يجب تقييم قيمة هذا الرقم وفقًا للظروف الاقتصادية الحالية؛ فالتضخم وارتفاع الأسعار يجعل الأجر الحالي غير كافٍ لتلبية احتياجات الأسر. الحديث عن الحدود الدنيا للأجر يرتبط بشكل مباشر بالاقتصاد الكلي، فالطبقات الدنيا هي الأكثر تأثرًا بالغلاء، وهي الأكثر حاجة لربط الأجور بالعدالة الاجتماعية.
الدراسات الاقتصادية أثبتت خطأ مفهوم خفض الأجور لتقليل تكلفة الإنتاج وزيادة التصدير. وعلى العكس، زيادة الأجور تؤدي إلى زيادة الشراء وتحسين الاقتصاد المحلي.
الحل يكمن في دراسة دقيقة توثق الحاجة الفعلية للأسر وربط الأجور بمعايير العدالة الاجتماعية، وتوفير منظومة تدريب وتحسين بيئة العمل. ليس المهم الحديث عن أرقام محددة، بل الأهم هو وجود سياسات تترجم إلى قرارات مدروسة تحقق العدالة والاستقرار.
إلهامي الميرغني: عند الحديث عن ارتفاع أسعار مجموعة الطعام والشراب التي تمثل الجزء الأكبر من إنفاق الأسر محدودة الدخل، نجد أن الارتفاع وصل إلى 73.6% في سبتمبر 2023، وانخفض إلى 48.5% في فبراير 2024. نتيجة لذلك، من كان أجره 100 جنيه، أصبحت قيمته الفعلية تعادل 28 جنيهًا، وهو ما يبرز التأثير الكبير للتضخم على الأجور الحقيقية.

إصلاح هيكلي سيء التطبيق
كيف أثرت سياسات الإصلاح الهيكلي على العمال وأجورهم في مصر؟
حسن البربري: المسألة لها بعدان؛ الأول يتعلق بارتباط الأجور بمجموعة من السياسات التي تؤثر عليها، والثاني يتناول سؤال: هل تساهم الأجور في النمو الاقتصادي أو زيادة الناتج المحلي؟ والإجابة هي نعم، لأن الأجور تمثل ثمن السلع التي تنتجها الشركات، وهذه الشركات تحتاج لبيع منتجاتها بأسعار مناسبة للمواطنين لتحقيق رواج اقتصادي.
هناك أيضًا مسألة الديون المستحقة على الحكومة المصرية بالعملة الصعبة، والتي تستدعي كجزء من حلها التوجه نحو التصدير، ومن هنا يبرز مصطلح “الإنتاج من أجل التصدير”.
مع العجز عن سد الفجوة المالية تتجه الحكومة للإصلاح الهيكلي، وهو ما تتبعه خطوات نحو الخصخصة. وقد أثبتت هذه السياسة فشلها منذ انطلاقها في التسعينيات، بسبب سوء فهم تطبيقها.
منذ بداية التسعينيات وحتى الألفينيات لم تؤثر سياسات الإصلاح الهيكلي بشكل كبير على الأجور، لأن في تلك الفترة لم يكن القطاع الخاص قادرًا على استيعاب كل العمالة الخارجة من القطاع العام، وكان البديل هو سياسة المعاش المبكر التي وفرت مصدر دخل ثابت، مع عدم وجود فجوة كبيرة بين الأسعار والأجور.
حاليًا، الوضع مختلف، حيث تم إعداد وثيقة لخصخصة 32 شركة دون وجود خطة واضحة لإعادة تأهيل العمالة أو خطط تشغيلها مستقبلًا للحفاظ على مصدر الدخل. هذا الوضع يدفع العمالة المغادرة للقطاع العام نحو القطاع غير الرسمي، ما يؤدي إلى انخفاض أجورها، أو تبحث عن عمل في القطاع الخاص الذي لا يستطيع استيعاب الأعداد الكبيرة، ما يجعل العرض أعلى بكثير من الطلب ويؤثر بشدة على الأجور، وهو أمر غير قابل للحل حتى في ظل وجود حركة نقابية قوية.
هناك أيضًا غياب لمؤشر الأجر، رغم أهميته في سياسات الإصلاح الاقتصادي، وهو يتأثر بخفص الدعم وتصفية للشركات وصعوبة توفير رعاية صحية ملائمة معقولة التكاليف. وفقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، يستهلك الإنفاق على الصحة من دخل العامل أكبر بكثير من إنفاق الحكومة، خاصة في ظل خصخصة جزء كبير من قطاع الصحة، وكذلك الحال في التعليم. وكل هذه الجوانب ترتبط بسياسات الإصلاح الاقتصادي ولها تأثير سلبي على الأجور والتفاوض عليها.

كيف يُحسب الحد الأدنى للأجور والمعيشة في الخارج؟ وهل لدينا دراسات مشابهة في مصر؟
سملى حسين: العقدان الماضيان شهدا تطورات مهمة على مستوى الحد الأدنى للأجور. من جهة، دافعت الدراسات النيوليبرالية عن ترك الأجور تتحدد وفقًا لقواعد السوق، بينما أكد علماء منظمة العمل الدولية أن ترك الأجور للعرض والطلب يظلم العمال، بسبب احتكار صاحب العمل، وقد رأى هؤلاء العلماء ضرورة وضع حد أدنى للأجور.
يدافع النيوليبراليون عن موقفهم قائلين إن تحديد حد أدنى قد يدفع بعض أصحاب العمل إلى إغلاق منشآتهم، وبالتالي، يفضلون إبقاء المنشأة مفتوحة وخفض معدلات البطالة حتى لو كان الأجر أقل. ولكن في 2021، أثبت ثلاثة علماء اقتصاد حائزين على جائزة نوبل أن الحد الأدنى للأجور لا يزيد البطالة.
التفاوض الجماعي هو السبيل الأمثل لتحقيق سياسات أجور عادلة وتحديد حد أدنى معيشي معقول. في الخارج، تكون الحكومة طرفًا في المفاوضات لحماية العمال، بما يحقق عدالة في تحديد الحد الأدنى للأجور.
في مصر، الحديث عن الحد الأدنى للأجور مهم جدًا. لأننا في 2018 مثلاً، وجدنا أن نصف المصريين يحصلون على راتب 1800 جنيه. تطبيق حد أدنى للأجور بعدالة ودقة سيحدث نقلة كبيرة في هذا الوضع.
تظهر الإحصائيات أن نسبة العاملين الفقراء في الحكومة ارتفعت من 3% قبل عشر سنوات إلى 15% اليوم، بينما تتساوى نسبة الفقراء في القطاع الخاص مع القطاع غير الرسمي.
في الخارج، يُحدد الحد الأدنى للأجر وفق منظومة متكاملة، ويُحدد الحد الأدنى المعيشي بضرب هذا الرقم في عدد أفراد الأسرة. حاليًا، هناك اتجاه لتقليص الحد الأدنى للأجر نتيجة الظروف الاقتصادية العالمية، بما يقلل من الرفاهية دون المساس بالحياة الأساسية.
هناك عدة طرق لتحديد الحد الأدنى للأجور: بعضها يقترح أن يكون مساويًا لمعدل حد الفقر أو بنسبة 40% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مناسب للبلدان المتطورة اقتصاديًا. طريقة أخرى تحدد الحد الأدنى بنسبة 60% من نصيب الفرد من الدخل القومي. وقد احتسبت دراسة للمبادرة المصرية في 2023 الحد الأدنى عن حد 5600 جنيه، وهي قريبة من الحد الأدنى الذي أعلنته الحكومة للموظفين الحكوميين.
قارنّا بين الحد الأدنى المطبق في 2014 بقيمة 1200 جنيه، والذي وصل اليوم إلى 6242 جنيه، فوجدنا ارتفاعًا بالأسعار خلال العامين الماضيين جعل الأمور أكثر صعوبة.
في المجلس القومي للأجور، تُناقش هذه القضايا بجدية، ولكن القرار السياسي النهائي يتخذ وفقًا لرؤية الحكومة وليس بناءً على التوصيات.

الفارق بين السياسات والقرارات
هل يحقق الحد الأدنى للأجور العدالة الاجتماعية من دون سياسات اقتصادية شاملة؟ وما الفرق بين الحد الأدنى للأجور والحد الأدنى المعيشي؟
حسن البربري: بدايةً، هناك فارق جوهري بين السياسة والقرار السياسي. السياسة تُصاغ بناءً على تفاعل مستمر بين السلطة والمجتمع والجهات الفاعلة في المجال المعني، بينما القرار السياسي هو أمر فوقي يُفرض من دون أخذ جميع المتغيرات بعين الاعتبار. وناءً على ذلك، فإن ما نراه من إجراءات متعلقة بالأجور ليست سياسات حقيقية، بل هي قرارات سياسية أحادية من السلطة.
عند النظر إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الأجور تُحدد وفقًا للسوق الحر، وكان الأجر الزراعي هو المرجعية الأساسية. وفي الفترة بين الخمسينيات والسبعينيات، ومع النظام الناصري، تولت الحكومة تحديد الأجور عبر هيكل محدد يشمل درجات وظيفية مختلفة، مع ضبط الأسعار. وبذلك، لم تكن هناك فجوة كبيرة بين الأجر ومتطلبات المعيشة. ولكن مع بداية الانفتاح في السبعينيات، تغيرت الأمور نحو السوق الحر، ما أدى إلى فوضى في تحديد الأجور، وظهور القطاعين العام والخاص، وتحولت الأوضاع إلى ما هي عليه الآن.
في البلدان المتقدمة، يُعتبر الأجر مؤشرًا اقتصاديًا يرتبط بالنمو والإنتاجية وتوزيع الدخل، وتُصاغ السياسات الاقتصادية وفقًا لهذه المؤشرات. لكن في حالتنا، لا توجد سياسات فعالة للأجور تتماشى مع هذه المؤشرات.
أما بالنسبة للحد الأدنى للأجور، فهو ببساطة الحد الأدنى الذي يُمكّن العامل من العيش بعد عمل 8 ساعات، بينما الحد الأدنى المعيشي يتجاوز ذلك ليشمل احتياجات أساسية للعامل وأسرته مثل الصحة والتعليم والإسكان. لذا، يُعتبر الحد الأدنى المعيشي الأجر الذي يكفي لتلبية احتياجات أسرة مكونة من أربعة أفراد.
تختلف الظروف من دولة إلى أخرى، ولكن السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب تحديدًا دقيقًا للحد الأدنى للأجور والحد الأدنى المعيشي وفقًا لكل دولة. يجب أن تكون الأجور مرتبطة بالنمو والإنتاجية وتوزيع الدخل الوطني. ومن الضروري أن تكون هناك تنظيمات نقابية قوية تدافع عن حقوق العامل، وهو الطرف الأضعف في هذه المعادلة، وتتمكن من التفاوض بفعالية.
في مصر، الواقع يشير إلى غياب هذه التنظيمات النقابية، مما يفاقم المشكلة. بدلًا من السياسات الفعالة، لدينا قرارات سياسية تُبقي على ضعف قوة العامل وتفرض رؤى أحادية من السلطة.

ليس بالحد الأدنى وحده تتحسن حياة المصريين
من المسؤول عن تطبيق وتحديد الحد الأدنى المعيشي داخل المجتمع؟
إلهامي الميرغني: المسؤولية عن تطبيق الحد الأدنى المعيشي تقع على عاتق كل من أصحاب الأعمال والنقابات العمالية. يتطلب هذا أن تكون لدى النقابات العمالية دراسات محدثة ومستدامة حول الأجر المعيشي ومكوناته ومعدلات النمو والمتغيرات الرئيسية، وأن يتم تحديث هذه الدراسات بشكل دوري.
عند التفاوض بشأن الأجور، يجب أن يستند الحوار إلى بيانات واقعية وليس مجرد أرقام. للأسف، هذا الدور غير موجود بشكل فعلي في مصر حتى الآن، ولا يوجد تمثيل حقيقي للنقابات العمالية في المجلس القومي للأجور. في الواقع، ممثلو النقابات يطالبون بزيادة الأجور دون تقديم دراسات تدعم مطالبهم، مما يمنع وجود حوار بناء وفرصة للتواصل الفعال بين الأطراف.
الحد الأدنى المعيشي يعتبر أفضل بكثير من الحد الأدنى للأجور المقتصر على حد الكفاف، حيث يتجاوز الاحتياجات الاجتماعية الأجر النقدي فقط. هنا يظهر الفرق بين الأجر النقدي والأجر الحقيقي، والذي يتأثر بعوامل مثل التضخم وسعر الصرف.
على سبيل المثال، إذا كان الأجر في فترة معينة هو 1000 جنيه ويشتري 10 زجاجات زيت، وبعد فترة زاد الأجر إلى 2000 جنيه ولكنه يشتري 15 زجاجة فقط، فهذا يشير إلى أن الأجر النقدي زاد بينما انخفض الأجر الحقيقي، لأن القوة الشرائية للأجر انخفضت. هذه العوامل هامة عند حساب الأجور والحد الأدنى.
يجب أن يرتبط الحد الأدنى المعيشي بالأجر الحقيقي، ويأخذ في الاعتبار سعر الصرف ومعدلات التضخم، ويتم حسابه بناءً على احتياجات أسرة مكونة من أربعة أفراد – زوج وزوجة وطفلين.
سلمى حسين: عندما نتحدث عن أسرة وأجر معيشي، يتبادر إلى ذهننا أن العامل يحصل على 6000 جنيه ينفق بها على زوجته وأطفاله. ولكن في الواقع، في معظم الحالات، يعمل كل من النساء والرجال ويحصلون على أجر. معدلات البطالة بين النساء في سوق العمل تفوق خمس أضعاف معدلات البطالة لدى الرجال، وعدد النساء المتعلمات الخارجات من سوق العمل في زيادة مستمرة. هناك ملايين من النساء خارج سوق العمل قد فقدن الأمل في الحصول على وظيفة.
تحسين الحد الأدنى للأجر مع سياسات العمل اللائق والتفاوض الجماعي سيساعد على عودة النساء إلى سوق العمل. في فترة الإصلاح الهيكلي، عدد كبير من النساء خرجن على المعاش المبكر ولم يعدن إلى سوق العمل، بينما الرجال الذين خرجوا على المعاش المبكر التحقوا بوظائف في القطاع غير الرسمي بشروط عمل سيئة. تحسين سياسات العمل والأجور سيساعد على عودة النساء إلى سوق العمل وبالتالي زيادة دخل الأسرة من 6000 جنيه إلى 12000 جنيه.
الحد الأدنى للأجور ليس نهاية الطموح، بل هو بداية يجب البناء عليها. لدينا الآن حد أدنى شبه متفق عليه يمكن أن يكون أساسًا للتفاوض والتحسين المستقبلي.

نحتاج إلى حكومة يسارية
لماذا لا توجد هياكل للأجور على مستوى الأنشطة الاقتصادية بمصر سواء قطاع خاص أو عام؟ وكيف تتحقق؟
سلمى حسين: المسألة تحتاج لثورة، ليس بالمعنى الدارج للثورة. ولكن، لا بد من وجود نشاط اقتصادي قوي، وحركة عمالية فعّالة، وتغييرات سياسية كبيرة.
يجب أن تفوز حكومات يسارية في الانتخابات وتتولى سلطة البرلمان، بما يؤدي إلى تحول سياسي كبير لتحقيق هذا النوع من السياسات.
من أجل إعداد لائحة وهيكل أجور على المستوى الوطني، نحتاج إلى عملية تمتد من ثلاث إلى خمس سنوات من الجهد والضغط والعمل المستمر. هذه العملية ممكنة، لكن شواهد اللحظة الحالية في مصر لا توحي بإمكانية حدوث ذلك الآن.
العمالة غير المنتظمة ضرر يمتد إلى الجميع
كيف عمقت تشوهات سوق العمل الخلل والتفاوت في الأجور بين العمالة المنتظمة وغير المنتظمة؟
شريف المصري: لا يقتصر تأثير مشاكل العمالة غير المنتظمة في مصر على العمالة نفسها، بل يمتد إلى العمالة المنتظمة. فعندما تتسرب العمالة من سوق العمل الرسمي بسبب غلق الشركات والمصانع أو الفصل التعسفي أو حتى التقاعد المبكر، تتوجه هذه العمالة إلى سوق العمل غير الرسمي، ونفقد الخبرات.
هؤلاء الأفراد الذين يتسربون يملكون خبرات تؤهلهم لمنافسة العمالة المنتظمة، ولكن بأجور متدنية ودون أي حماية قانونية، وبالتالي يحدث الضرر على الجانبين.
العمل الخاص الذي يحتوي على عقود عمل محددة المدة يعد مشكلة أخرى؛ يوجد حوالي 47 نوعًا من هذه العقود يُطلق عليها الباحثون “عقود العمل الهشة”. تبدو هذه العقود في ظاهرها عقود عمل قانونية، لكن بنود الحماية فيها ضعيفة.
في دراسة حول العمالة غير المنتظمة وبيئة العمل الآمنة، أجرينا جلسات مع عاملات الزراعة لرصد الفجوة بين هذا القطاع وغيره. تبين أن هذا القطاع يعاني من نقص في أدنى درجات الحماية الشخصية، مثل عدم وجود حمامات للاستخدام، أو أماكن مغلقة لتغيير الملابس، ووسائل نقل غير آمنة. نتيجة لذلك، تفتقر العمالة غير المنتظمة إلى حق التفاوض والتنظيم، ما يزيد من التفاوت في الأجور بينها وبين العمالة المنتظمة.
العمالة غير المنتظمة تواجه العديد من المشاكل، مثل عدم توفر شروط السلامة والصحة المهنية وظروف العمل اللائق، وعدم وجود حد أدنى للأجر. تعمل هذه العمالة بأقل من نصف الحد الأدنى للأجور وتجد صعوبة في الحفاظ على هذا الأجر، ما يؤثر سلبًا على القطاع المنظم نفسه، حيث يفضل أصحاب الأعمال التعاقد مع مقاولين يوفرون عمالة مؤقتة من دون عقود عمل أو تأمينات اجتماعية.
لتصحيح هذه الأوضاع، ينبغي إنشاء شركات تشغيل مقننة تكون مسؤولة عن توريد العمالة وتوحيد الأجر للعاملين في نفس المكان بغض النظر عن صاحب العمل.
تشير الدراسات إلى أن نسبة العمالة غير الرسمية في مصر تصل إلى 68%، وهو أمر يستدعي وضع سياسات تشغيل تأخذ هذا القطاع بعين الاعتبار.
ولتحفيز انتقال العمال من القطاع غير الرسمي، يجب توسيع التغطية التأمينية وتطوير الأجور وفق سياسة واضحة مرتبطة بمحددات إنتاجية. كذلك، ينبغي تسهيل الإجراءات على الشركات الصغيرة لتصبح رسمية وتطبيق الحد الأدنى للأجور. يجب كذلك تعديل قانون التأمينات والمعاشات ليشمل المزيد من فئات العمالة غير المنظمة.

السياسات النقدية والاستيراد والقدرة الشرائية
كيف أثرت السياسات النقدية وخاصة تخفيض سعر العملة على الأجور في مصر؟
إلهامي الميرغني: لحساب القدرة الشرائية للجمهور، علينا النظر إلى عاملين رئيسيين: معدل التضخم وسعر صرف الجنيه مقابل الدولار.
رغم زيادة الأجر النقدي، إلا أن السياسات النقدية التي قامت على تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار أدت إلى تناقص القدرة الشرائية للجنيه.
لدينا حد أدنى للأجور يبلغ 6000 جنيه، لكن الحد الأدنى للمعاش هو 1500 جنيه. عند مقارنة ذلك بالدولار، نجد أن برامج الضمان الاجتماعي مثل تكافل وكرامة تقدم دعمًا أفضل بكثير. وقد أدى هذا إلى تزايد عدد الأفراد الذين يخرجون من منظومة التأمينات الاجتماعية للانضمام إلى برامج تكافل وكرامة. على سبيل المثال، أحد العمال الزراعيين قال إن التأمينات طلبت منه متأخرات تبلغ 27 ألف جنيه، وهذا ينطبق أيضًا على عمال المعمار.
السياسة النقدية تلعب دورًا مهمًا، خاصة أن مصر تعتمد على استيراد نسبة كبيرة من احتياجاتها الغذائية؛ نستورد 30% من احتياجاتنا من السكر، و70% من الذرة، و95% من زيت الطعام، و99% من العدس، و97% من الفول. كما نستورد 85% من المواد الخام لتصنيع الأدوية، بالإضافة إلى مكونات إنتاج اللحوم والدواجن.
أثناء أزمة الدولار، تراكمت المواد في الموانئ لأشهر دون الإفراج عنها بسبب نقص الدولار، مما أدى إلى ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن.
وفقًا لإحصائية نشرها الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية واستصلاح الأراضي بجامعة القاهرة، نحتاج إلى زراعة 200 ألف فدان من الفول، و100 ألف فدان من العدس، و200 ألف فدان من البنجر أو 100 ألف فدان من قصب السكر لتصنيع السكر.
هذا يعني أننا بحاجة إلى ما بين 400 إلى 500 ألف فدان لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المنتجات الأساسية. لكن للأسف، لا توجد دورة زراعية ثابتة في مصر ولا سياسة زراعية واضحة، مما يجعلنا نعتمد بشكل كبير على الاستيراد من الخارج.
هذا الاعتماد الكبير على الاستيراد وتخفيض قيمة العملة يزيد من العبء على الأسر المصرية، خصوصًا في ظل ارتفاع معدلات التضخم. يجب إعادة النظر في السياسات النقدية والزراعية لضمان تحقيق توازن اقتصادي واستقرار اجتماعي يخفف من وطأة التضخم على المواطنين.

القروض العشوائية أضرتنا
هل سياسات الاقتراض الخارجي أثرت على ملف الأجور؟
سلمى حسين: لو كانت الحكومة اقترضت خارجيًا في وضع مثالي وخصصت القروض لمشروعات في مجالات التكنولوجيا أو منتجات قابلة للتصدير أو مشروعات زراعية بيئية تتيح لنا تصدير مواد معينة، لكان الاقتراض الخارجي وقتها، وفي ظل مناخ ديمقراطي تديره حكومة رشيدة، مساهمًا في خلق وظائف وعائدات بالعملة الصعبة. ولكان هذا العائد مساعدًا في ازدهار الشركات، وبالتالي تسديد الديون بالعملة الصعبة بسهولة، ما يحل أزمة الدين.
لكن الواقع مختلف تمامًا؛ إذ اقترضت الحكومة بشكل عشوائي في وقت كانت فيه الفوائد العالمية منخفضة نسبيًا، بينما كانت التوقعات تشير إلى ارتفاع الفوائد المستقبلية التي تُحسب على فترة السداد وليس فترة التعاقد.
الأزمة كانت في أن الاقتراض تم في وقت كانت فيه مصادر العملات الأجنبية غير مستقرة وتم توجيه القروض لقطاعات غير تصديرية، باستثناء توسعة قناة السويس، ووجهت القروض الأخرى للبنية التحتية التي تخدم المصريين فقط دون الحاجة للمكون الأجنبي.
لم يكن هناك ربط بين الاقتراض والإنفاق، وعلى الرغم من أن البنك الدولي يشترط استخدام القروض في تنمية المشروعات وفق خطط سداد محددة، وزعت الحكومة أموال القروض بشكل عشوائي أيضًا، وأنفقت معظمها على إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية، معتمدة على بيع المشروعات العقارية للعاملين بالخارج أو المواطنين من الدول العربية الغنية، بحيث يكون العائد بالدولار لتسهيل السداد.
الأزمة هي عدم وجود قاعدة بيانات موثوقة توضح مدى قدرة تلك المبيعات على توفير المال الكافي للسداد.
لدينا بالفعل أزمة في السداد. عندما ننظر إلى ميزان عجز المدفوعات، الذي يوضح نسبة الداخل والخارج من الدولارات، سنجد أن العجز يتزايد بشكل مخيف بسبب الديون الخارجية.
العائد من بيع الوحدات بالدولار لم يحل مشكلة تفاقم حجم وعبء الدين، ولم يخلق وظائف كافية، ولم يحسن مستوى الأجور. بالعكس، الأجور الحكومية انخفضت مقابل زيادة فوائد سداد الدين. هذا الملف يحتاج إلى تطوير كبير في إدارته.
لابد من إعادة التفكير في بنود قانون العمل
ما التأثير السلبي لتعدد التشريعات الخاصة بعلاقات العمل – بما فيها الأجور – على التفاوت والخلل في مستويات الأجور والحقوق بين مؤسسة وأخرى، بل وداخل ذات المؤسسة؟
سلمى حسين: المثال الهندي يظهر كيف يمكن لتعدد التشريعات أن يؤدي إلى التفاوت. في الخمسينيات والستينيات، بدأت كل ولاية بوضع حد أدنى للأجور، مما نتج عنه وجود 1200 حد أدنى مختلف، وهو ما أثر على الالتزام بالتشريعات.
قانون العمل الموحد 12 لسنة 2003 في مصر لم يكن موحدًا بالفعل، وإذا صدر قانون آخر، فقد يكون أسوأ بسبب تدهور علاقات العمل.
على الدولة إعادة التفكير في ملف علاقات العمل. كما يجب على المجلس القومي لعب دور في هذه المسألة لتحقيق نتائج أفضل في الأجور العادلة.
اختزال العمل النقابي في الملف الأمني غير مقبول. الموضوع يتعلق بالسياسة والاقتصاد ورفاهية الأفراد. العمال يحتاجون للشعور بأن السياسات الاقتصادية تؤثر عليهم. التجارب الدولية والنضالات السابقة أظهرت إمكانية تحسين وضع العمال، ولكن الآن نواجه عقود عمل هشة.
منظمة العمل الدولية توفر دليلاً لتحويل العمالة غير المنتظمة إلى منتظمة، ويجب علينا الاستفادة منه لتحقيق الحماية الاجتماعية لكل العاملين، خاصة في ظل التزام مصر بأجندة 2030.
نحن في وضع أسوأ فيما يتعلق بسياسات الأجور. 65% من المصريين يعتمدون على أجرهم فقط، ويجب على الحكومة الضغط على القطاع الخاص لتطبيق الحد الأدنى للأجور وتحسين أوضاعهم.

هل ينقذ التشريع الموحد ملف الأجور أم السياسات الاقتصادية العادلة تفعل؟
إلهامي الميرغني: وجود تشريع موحد للأجور يعتبر خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة في الأجور. هذا التشريع يجب أن يراعي الفروق بين القطاعات الاقتصادية وظروف التشغيل في كل قطاع. من المهم أن يكون هناك نظام موحد وثابت يتم بناءً عليه حساب الأجر المعيشي للعمال.
يجب لهذا التشريع أن يتضمن أسسًا ثابتة وواضحة لضمان احتساب الأجر بما يتناسب مع تكلفة المعيشة. هذا يساعد على تحقيق العدالة بين القطاعات المختلفة ويضمن حقوق العمال بشكل أفضل.
هل يمكن لمصر إصدار تشريع مثل هذا؟
إلهامي الميرغني: إصدار تشريع موحد للأجور يتطلب حوارًا شاملاً ومعمقًا بين جميع الأطراف المعنية. للأسف، حوارنا الوطني لا يشمل بشكل كافٍ النقابات العمالية والخبراء المتخصصين في هذا المجال، مما يجعلنا بعيدين عن عملية اتخاذ القرار.
يجب إشراك النقابات العمالية والخبراء لضمان أن يكون التشريع شاملاً وعادلًا ويعكس جميع وجهات النظر.
هل هناك تمييز للأجور في مصر؟ وكيف يتم القضاء عليه؟
شريف المصري: لا يُلاحظ تمييز في الأجور بشكل واضح في القطاع الحكومي، لكن قد يختلف الراتب لنفس الوظيفة بين جهات حكومية مختلفة. على سبيل المثال، قد يحصل محاسب في جهة خدمية حكومية على راتب يختلف عن محاسب في جهة ربحية.
التمييز الأكثر وضوحًا يحدث في القطاع الخاص، حيث تُلاحظ فروق في الأجور بين الرجال والنساء. أحيانًا تعمل النساء لساعات أطول ولكن يتقاضين أجورًا أقل لمجرد كونهما إناثًا. التمييز لا يقتصر على الأجور فقط بل يشمل حرمان النساء من بعض الوظائف. وقد تم إلغاء قرار وزير العمل لعام 2021 الذي كان يحظر على النساء العمل في 30 مهنة، وذلك بعد نقاشات بين النقابات والمنظمات النقابية، مع استثناء المهن الخطرة مثل المناجم والمحاجر.
يظهر أيضًا تمييز واضح بين العمالة المنتظمة وغير المنتظمة، وهو تمييز فاضح يتطلب معالجة.
يجب تفعيل المفوضية المنصوص عليها في المادة 51 من الدستور لمكافحة التمييز في العمل. يشمل التمييز بين القادمين من الريف والحضر والمستوى التعليمي، في حين أن التمييز على أساس الدين نادر في البيئات المدنية.
تختلف التشريعات المتعلقة بعلاقات العمل، ما يجعل من الصعب تحقيق التساوي. العاملون في القطاع الحكومي يتمتعون بالاستقرار الوظيفي وتطبيق الحد الأدنى للأجور، لكن هذا الوضع قد يظهر تمييزًا في ظل أزمة اقتصادية تؤدي إلى الانحياز لصالح أصحاب المال.
يوجد انحياز من الدولة لأصحاب الأعمال في محاولة لجذب الاستثمارات على حساب حقوق العمال، خاصة في ظل غياب نقابات قوية.
تظهر مشاكل في تطبيق الحقوق مثل الأجازات الرسمية حيث لا يلتزم أصحاب الأعمال بها، مما يتطلب تحسين دور التفتيش العمالي من الحكومة لمواجهة التمييز وتعزيز حماية العمال.
حسن البربري: هناك ما يقرب من 6 تشريعات في علاقات العمل في مصر، مثلًا في القطاع الحكومي هناك قانون الخدمة المدنية، والقانون 48 لسنة 58 الخاص بقطاع الأعمال العام، وهناك كادر المعلم، وكادر المهن الطبية، وكادر القضاة، وهذا يعني وجود حالة تمييزية في علاقات العمل، هذا بخلاف قطاع الأعمال العام، وهذا ما سبب أزمة عمال مصنع غزل المحلة، لأنهم غير مخاطبين بهذا القانون.
وبالتالي، تم استثناءهم من تطبيق الحد الأدنى للأجور، هذا بخلاف أن قطاع الأعمال العام لا يوجد به سلم وظيفي، وبالتالي، صحيح أن هناك تمييز في التشريعات لأنه لا يوجد سياسة واضحة للأجور كي يتم جمع كل هذه الاختلافات في تشريع واحد.

التوصيات:
أولًا:نحتاج سياسة عامة للأجور، مرنة تراعي مفهوم العدالة الاجتماعية بشكل أساسي.
ثانيًا: سياسة أجور موحدة، وتراعي الاختلافات بين القطاعات المختلفة.
ثالثًا: من التزام الدولة باتفاقيات العمل الدولية خاصة التي صدقت عليها مصر، في الفلب منها الاتفاقية 87، واتفاقية 98، وفيما يتعلق بالأجور الاتفاقية 131.
رابعًا: الالتزام بمعايير العمل اللائق.
خامسًا: الالتزام بالحريات النقابية والحق في التنظيم، وأن تترك النقابات لتقوم بدورها، لضمان وجود المفاوضة الجماعية.
سادسًا: المساواة بين الجنسين، لضمان وجود ظروف عمل لائقة.
سابعًا: إعادة النظر في منظومة التأمينات الاجتماعية، من حيث قيمة التغطية والفئات التي تشملها التغطية.
ثامنًا: إعادة النظر في عدد من التشريعات وعلى رأسها قانون العمل، فلابد أن يراعي معايير العمل الدولية، ويضمن معايير العمل اللائق، بحيث يكون قانون العمل متوازن بين طرفي العلاقة الإنتاجية، مع التأكيد على حماية حقوق العمال باعتبارهم الطرف الأضعف.
تاسعًا: الالتزام بتنفيذ التشريعات، فلدينا قانون للنقابات لايتم الالتزام به مثل قانون النقابات 213 لسنة 2017 وتعديلاته والسماح للنقابات المعطلة أن تؤسس ، وقانون التأمينات والمعاشات، وقانون العمل بشكل عام.
عاشرًا: تفعيل منظومة التفتيش بوزارة العمل كي تقوم بدورها في كل معايير العمل وخاصة السلامة والصحة المهنية.
حادي عشر: أن تركز الدولة على خلق فرص عمل لائقة خاصة في القطاعات كثيفة العمالة.
ثاني عشر: العمل على خلق مجموعة محفزات أخرى للعمال كي ينتقلوا من القطاع الغير رسمي للقطاع الرسمي مثل الإعانات المرتبطة بالتشغل.
ثالث عشر: تشجيع القطاع الرسمي على إعادة النظر في منظومة التأمينات، أن تكون هناك عقود غير هشة وسليمة.
رابع عشر: الاستثمار في التدريب وتطوير المهن لأن التدريب وتطوير المهن يخلق بيئة عمل مناسبة وبالتالي يساعد في زيادة الإنتاج وتحسين الإنتاجية، وأن يكون أحد مؤشرات الأجر هو الارتباط بالإنتاجية.
خامس عشر: النظر لملف الأجور في إطار السياسات التكاملية وفي إطار منظومة كاملة من سياسات الاقتصاد الكلي وإعادة الهيكلة، وكل ما يتعلق بعالم العمل والعمال.
والأهم من كل ذلك هو خلق حوار اجتماعي حقيقي يشارك فيه كل الأطراف المعنية وكل ملف يخدم يخدم العمل العمالي.
