بعد قرار لجنة تسعير المنتجات البترولية بزيادة أسعار المحروقات، يفكر “أحمد سعد” جديًا في بيع سيارته الألمانية موديل 1994. فالأمر يتحول إلى استحالة الإبقاء عليها مع محرك بقدرة 2000 سي سي، يطلق عليه “سفاح بنزين”. “بالتأكيد أي مشقة في التحرك بالمواصلات يوميًا بين مقر عملي في التجمع الخامس ومنزلي بحي الوراق في الجيزة أهون ألف مرة مما سأتحمله ماديًا في تفويل السيارة”.
أربك قرار لجنة تسعير المنتجات البترولية رفع أسعار البنزين، للمرة الثانية في 2024، الجميع. قفز لتر بنزين 80 من 11 جنيهًا إلى 12.25 جنيه، وبنزين 92 من 12.5 جنيه إلى 13.75 جنيه، وبنزين 95 من 13.5 جنيه إلى 15 جنيهًا، والسولار من 10 جنيهات إلى 11.50 جنيه.
يعمل “أحمد سعد” محاسبًا في إحدى شركات القطاع الخاص في منطقة التجمع الخامس. يقدر استهلاك سيارته من البنزين بنحو 500 جنيه بنزين كل أسبوع، بما يعادل 2000 جنيه شهريًا. هذا قبل الزيادة التي ستزيد بالتأكيد الضغط أكثر على ميزانيته الشخصية، كما يؤكد.
ويتوقع خبراء الاقتصاد حدوث موجة تضخمية في أسعار السلع، خاصة الغذائية منها، مع ارتفاع تكاليف السولار الذي يعتمد عليه المزارعون في الحرث والري والحصاد، فضلًا عن تكاليف النقل بين المزارع وحتى الأسواق.
“يفرض علي عملي نوعًا محددًا من الزي، وهذا بالطبع يعرضني لمضايقات مستمرة إذا ما قررت استقلال وسيلة مواصلات عامة كالميكروباص، لذا، فليس أمامي سوى التاكسي وسيلة آمنة إلى حد ما أو أن أشتري سيارة، والخياران كلاهما مر”.
تعمل “هالة محمود”، موظفة استقبال في شركة بالقطاع الخاص، وتعاني من انفلات أسعار التاكسي في أول يوم عمل بعد عطلة الأيام الثلاثة الماضية، فلا توجد تسعيرة ثابتة، كما تقول، وجميع السائقين أوقفوا العداد في مركباتهم، ويقدرون الأجرة وفقًا لأهوائهم، متعللين بارتفاع أسعار الوقود.
ارتفاعات غير مراقبة بتعريفة التاكسي
ارتفعت أسعار سيارات النقل الجماعي والسرفيس بنسبة 15%، بعد تطبيق قرار رفع أسعار الوقود. طلب سائق التاكسي من “هالة” 30 جنيهًا مقابل رحلة كانت حتى مساء الأربعاء الماضي، بـ 20 جنيهًا فقط، أي أن الزيادة في الأسعار وصلت إلى 50% دفعة واحدة. يشترك في رفع الأسعار غير المنضبط سائقو التاكسي والتوكتوك الذين لم يلتزموا بمعيار محدد، ولم يخضعوا لرقابة فعلية كما حدث مع سائقي الميكروباص.
خلال الفترة من نوفمبر 2016 إلى يوليو 2024، ارتفع لتر بنزين 80 من 2.35 جنيه إلى 12.25 جنيه، وزاد بنزين 92 من 3.5 جنيه إلى 13.75 للتر بمقدار 3 أضعاف و95 زاد من 6.5 جنيه لـ 15 جنيهًا، أما الأنبوبة فارتفع سعرها من 15 جنيهًا إلى 110 جنيهات، والسولار ارتفع من 2.35 لـ 11.5 جنيه.
مع قرار رفع أسعار المحروقات مارس الماضي، قررت “منة محمد” التخلص من سيارتها الملاكي. استبدلتها بـ”سكوتر” (موتوسيكل شبيه بالفيزبا)، للتحرك به في وسط القاهرة. تحملت عدم تقبل جيرانها في الحي الشعبي لحقيقة أن المرأة بإمكانها قيادة هذا النوع من المركبات، وتأقلمت مع نظراتهم كما تأقلمت مع ارتفاعات أسعار الوقود بالنزول في درجة الراحة بوسيلة انتقال أقل تكلفة.
تأقلمت “منة” لكنها بلا شك باتت عرضة لمضايقات سائقي الميكروباص والملاكي في الشوارع. تقول: “في إحدى المرات تعرضت لحادث في منزل كوبري، بعد أن اعترض سائق ميكروباص طريقي.. ترك الطريق كله وسار خلفي بأقصى سرعة وصدمني في منزل الكوبري وفر مسرعًا”.
الحكومة السبب في انخفاض الجنيه وارتفاع أسعار الوقود
تقول الدكتورة عالية المهدي، أستاذة الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، إن أسعار الوقود زادت حوالي ثمان مرات، وهو أمر يطرح تساؤلات حول تكلفة المواد البترولية مقارنة بالأسعار العالمية. وتضيف أن سعر الوقود العالمي لم يحدث به تغير ملموس خلال الأشهر الأربعة الماضية، وبالتالي، يمكننا عزو ارتفاعات الوقود محليًا خلال الفترة الأخيرة إلى انخفاض سعر صرف الجنيه، ما يجعل تحميل المستهلك هذه الزيادة قرارًا غير عادل، فانخفاض سعر صرف الجنيه تسببت فيه الحكومة بسياساتها التوسعية المنفلتة، ولم يتسبب فيه المواطن.
انخفص معدل التضخم للشهر الرابع في يونيو الماضي، مسجلًا 27.5% مقابل 28.1% في مايو، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. وكان السبب الرئيسي في التراجع سنة الأساس التي يتم القياس عليها، لأن ذروة التضخم كانت في النصف الأول من العام الماضي، وتحديدًا في شهر يونيو.
اقرأ أيضًا: التضخم يدخل “الدائرة الجهنمية”.. خبراء يحذرون من “السقوط الحر”
تقول “المهدي” إن كل زيادة بالأسعار بمثابة نوع من أنواع الضريبة غير المباشرة التي تفرض على المواطن حتى دون موافقة البرلمان. وتتساءل: “كيف نتوقع انخفاضًا بمعدل التضخم بحسب إعلان الحكومة بينما ترفع أسعار الطاقة طول الوقت؟”. وتضيف أن الطاقة تمس كل جوانب الحياة اليومية للمواطنين؛ من أسعار مواصلات إلى تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعي وتكاليف المعيشة. وهي ترى أن الحكومة تعلن عن سياسات بينما تنفذ ممارسات على عكس هذه السياسات تمامًا.
وتبلغ مخصصات دعم أسعار المواد البترولية في الموازنة العامة للعام المالي 2023/2024 نحو 119 مليارًا و419 مليون جنيه، بزيادة عن العام السابق لأكثر من 61 مليار جنيه. وفقد الجنيه المصري أكثر من 400% من قيمته ضمن إجراءات تحرير سعر الصرف التي اتخذتها الحكومة المصرية على مدار خمس مراحل زمنية. بدأت هذه الإجراءات في نوفمبر 2016 عقب الإصلاحات الهيكلية المرتبطة ببرنامج صندوق النقد الدولي، تلتها ثلاثة إجراءات متتالية في أقل من عام في مارس وأكتوبر 2022 ويناير 2023. تراجعت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي من حوالي 8 جنيهات قبل نوفمبر 2016، واستقرت لعدة أعوام قرب 15 جنيهًا، ثم قفزت إلى 31 جنيهًا في فبراير 2023، وصولًا إلى نحو 50 جنيهًا مع آخر تحريك لسعر الصرف في 6 مارس 2024.
رفع الوقود.. الحكومة تتراجع عن تعهداتها
بحسب مصطفى عادل، محلل الاستثمار والتمويل، فإن زيادة أسعار البنزين الأخيرة مخالفة للقانون؛ إذ أن الحد الأقصى للزيادة في الأسعار من قبل لجنة تسعير المنتجات البترولية لا يجب أن يتجاوز 10% عند كل مراجعة.
ويقول “عادل”، في تصريحاته لـ”فكر تاني”، أن اللجنة التي حمل قرار تأسيسها رقم 2764 لسنة 2018، وتصدر قرارات زيادة أو خفض أو تثبيت أسعار الوقود، رفعت أخيرًا الوقود بنسب تراوحت 13% و15%، وهو أمر مخالف لقرار تأسيسها.
الأمر ذاته تشير إلى النائبة سناء السعيد، عضوة مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، التي تقول إن الحكومة تعهدت أمام مجلس النواب منذ أقل من أسبوعين بعدم رفع الأسعار، وأنها ستعمل على خفض نسب التضخم، ولكن قرارها بزيادة أسعار البنزين والسولار سيؤدي إلى موجة تضخمية ستضرب كل الأسعار وتحرق جيوب المواطنين التي أصبحت خاوية.
وفي بيان لها، أشارت النائبة إلى أنه من غير المعقول أن يتحمل المواطن كل هذا التضخم الذي جعل معظم الطبقة الوسطى تحت خط الفقر، فالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لم يعد يحصي نسب الواقعين تحت خط الفقر، لأنه سيخرج لنا بـ”فضيحة”، على حد قولها.
اقرأ أيضًا: المصريون وبقايا الطعام.. الموت في وجبة منخفضة التكلفة
الدعم يضغط على الموازنة
في المقابل، يقول الدكتور أشرف غراب، نائب رئيس الاتحاد العربى للتنمية الاجتماعية بجامعة الدول العربية لشؤون التنمية الاقتصادية، إن الدعم يكلف ميزانية الدولة وإن الحكومة مضطرة إلى رفع الأسعار من وقت لآخر؛ تحقيقًا للتوازن المالي.
ويدافع “غراب” عن آلية تسعير البنزين والسولار في مصر في حديثه لـ”فكر تاني”؛ فيقول إنها مرتبطة حاليًا بالسعر العالمي للنفط الخام، خاصة وأن مصر تستورد نسبة كبيرة من احتياجاتنا من المنتجات البترولية ومشتقاتها المختلفة.
ويضيف أن قرار لجنة تسعير المنتجات البترولية جاء متأخرًا نظرًا لارتفاع أسعار النفط عالميًا خلال الفترة الماضية بنسبة كبيرة، إضافة لارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه بعد قرار تحرير سعر الصرف في مارس الماضي ما رفع سعر تكلفة استيراد المنتجات البترولية.
ويؤكد “غراب” أن ارتفاع سعر برميل النفط “سعر برنت” إلى حوالي 85 دولارًا للبرميل عالميًا يزيد العبء على الموازنة العامة المصرية للسنة المالية الحالية، خاصة وأن الدولة تستورد جزء كبير من احتياجاتها من المواد البترولية بما يصل لـ 100 مليون برميل سنويًا وفقًا للتقديرات، موضحًا أنه في موازنة عام 2021/2022 كان سعر البرميل 60 دولارًا، وهناك فارق كبير في الأسعار بسبب التوترات الجيوسياسية.