الرغيف والطنطاوي وغزة ومدبولي.. أوراق مبعثرة

 

في الوقت الذي يفور فيه الشارع المصري غضبًا، جراءَ جرائم التطهير العرقي الإسرائيلية في غزة، وتُحكِم الأزمة الاقتصادية بالتوازي قبضتها على خُنَّاقه، وفيما تتراكم التحليلات بشأن خطورة العاملين الإقليمي والداخلي، مضت الحكومة قدمًا في إجراءين يزيدان الطينة بلة.

أولًا، أعلنت أن ما تسميه “تخفيف أحمال الكهرباء”، سيستمر حتى نهاية العام الجاري، فإذا بما كان وضعًا استثنائيًا يغدو القاعدة، وله مواقيت معلومة صارمة، لا تتأخر ولا تتقدم، مما يوحي بقدرة الحكومة على الالتزام المنضبط، متى أرادت، لكنه التزام بما “ينكد” على الشعب ويُذيقه العذاب البئيس.

وثانيًا، رفعت سعر الرغيف المدعم، من خمسة قروش إلى عشرين قرشًا، بنسبة 300% مرةً واحدة، لتزيد الحياة قتامة وجهامة.

فيما يتعلق بقطع الكهرباء، لا تبرير ولا اعتذار، فالمطروح؛ إما تحمُّل انقطاع الخدمة يوميًا، وإما مضاعفة الأسعار ثلاث مرات.. وتحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.

ثنائية السيء والأسوأ، وفي هذه وتلك، تعلو الصيحة الجهول: “أحسن من سورية والعراق”، ولا ينتبه “الهتَّافون الطبَّالون” إلى أن بلاد الرافدين التي كانت دُمِرت عن بكرة أبيها، استكملت سداد ديونها لدى صندوق النقد الدولي.

اقرأ أيضًا:بعيدًا عن الدولة.. شباب أداروا اقتصادًا ناجحًا

دعم الكهرباء يكبَّد الموازنة كذا وكذا، هكذا تقول الحكومة، ليست الأرقام مهمة، فالورق ورقهم، لكن المقولة تتهافت أمام مراجعة بنود الموازنة عام 2022، إذ كانت المخصصات لذلك صفرًا، ما يعني بداهةً أن حديث الحكومة عن الدعم، لا ينتمي إلى الحقيقة، فالمواطن يسدد ثمن الخدمة كاملةً، ويحصل عليها منقوصةً.

لا حاجة إلى إسهاب في شرح المساوئ الاقتصادية لقطع الكهرباء، والمؤكد أن مستثمرًا أجنبيًا يدرس ضخ أمواله في المحروسة، سيفكر ألف مرة، قبل الإقدام على تلك الخطوة، وأمامه بدائل أخرى، منها دول عربية كالإمارات، وأخرى آسيوية لن يُضطر فيها إلى الصعود على قدميه للطابق السابع، لختم أوراقه بخاتم النسر، لدى “الست عفاف”، فيدوخ دوخًا في دوَّامات البيروقراطية التي استوردتها مصر من الأنظمة الشمولية، وتمسَّكت بها رغم خلعها عباءة الاشتراكية منذ السبعينيات.

يُقال على سبيل تعليل الإنفاق المنفلت على “الكباري والجسور”، ناهيك عن القطارات الكهربائية والمعلَّقة وما نحو ذلك، إن مد شبكة طرق حديثة، سيوفر بنية تحتية جاذبة للاستثمارات، فماذا عن الكهرباء؟ أليست عصبًا رئيسيًا للصناعة؟

استنساخ النموذج العمراني الخليجي

لا أرانا نقول إلا مُعادًا، إنَّ الحكاية وما فيها أن هناك رغبة جامحة، لاستنساخ النمط العمراني للمدن الخليجية، بأبراجها الزجاجية الصمَّاء، ذات النمط “النيويوركي” الذي لا يشبه مصر حضاريًا وثقافيًا، ولا ينتمي إليها ولا تنتمي إليه، وأمام هذه الرغبة لا مجال للتريث.

اهتمام بقشور “مظهرية”، تبدو برَّاقة مثل السوليفان إذ يلتف على قطعة حشيش “مضروبة”، أو كلصق ورق حائط مزخرف، على جدار يريد أن ينقض.

استدعاء تجربة الخديوي إسماعيل، للتحذير من مخاطر الاستدانة، غدا متكررًا سخيفًا، والصيحات التي يطلقها مفكرون وباحثون وكتاب صحفيون، بضرورة كبح “شهوة القروض” التي تُخلَطُ بالخرسانة، والدعوات إلى الاهتمام بالبشر قبل الحجر، تذهب أدراج الرياح.

جودة التعليم تنهار، ومصر تتذيَّلُ المؤشرات العالمية، ومستويات الصحة راحت في داهية، والعجز عن الإنفاق بلغ درجة إتاحة المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص، بينما يمضي النهم المعماري، كقطار سريع على قضبان متهالكة.

لا إعلامي ممن يتقاضون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، يمكن أن يجأر بأن البلاد تضيع متى اضمحلت علميًا، وأن التنمية المنشودة التي تحتاجها مصر لانتشالها من “العوز”، لن يقدر عليها إنسانها متى كان مريضًا.

التقشف على “ناس وناس”، حتى إن قطع الكهرباء كان يستثني مناطق “الصفوة الاقتصادية”، فأولئك مقربون ولهم جنات وعيون، ولا ينبغي أن يتحملوا تبعات الأزمة الاقتصادية، لكن بالنسبة لـ”أولاد البطة السوداء”، فهم المطحونة عظامهم، ولنطحنهم أكثر.

حتى الظلم لم يعد موزعًا بالعدل والقسطاس، فتطفيف الميزان يتجلى في كل شيء، ومن ذلك مثلًا، أن نسب زيادة أسعار بنزين الفقراء، تقفز بمستويات فادحة قياسًا ببنزين، أصحاب السيارات الألمانية الفارهة.

ارتفاع سعر الرغيف المدعم لا يخرج من الإطار ذاته، فالمعروف أن الموسرين في مصر يأنفون من “خبز الفقراء” المصنوع من أردأ أنواع القمح، وأكثرها خطرًا على الصحة، فيما لا يجد المعذبون في الأرض عنه بديلًا لسد أرماقهم.

إنهم يزدردون “العيش دون غموس” لإسكات صرخات البطون، أو مع “عود جرجير وشيء من الملح”، أو مع “الجبنة القديمة”، أو حبيبات السكر و”السمن البلدي” قبل أن يقفز سعر الأول إلى حدود الأربعين جنيهًا، ويغدو الثاني من المستحيلات كالغول والعنقاء والخل الوفي.

يُسموُّنه “العيش” ويحلفون به وعليه: “والنعمة على عينيا”، لكونه وسيلتهم لاستمرارية حياتهم، في صراع بقاء غدا بالغ الضراوة، تحت وقع الأغنيات الحماسية، والهتافات الشوفينية، والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية.

ما تعوزه الكباري والجسور، يَحرُم على الجائعين المعدمين، والغاية أن نضع الطوب فوق الطوب، لإقامة منشآت بلا قلب، ولو كان الجوعى والمرضى يتأوهون تحتها.. ولماذا لا تذكرون الإنجازات؟

الاستخفاف بآلام الإنسان المصري بلغ درجة فظة، فالحاكمون بأمرهم يقررون ما يريدون متى يريدون كما يريدون، بغير أدنى اعتبار لما يعتمل في الصدور من غضب، وما في القلوب من نيران، وما في النفوس من مرارة وانكسار.

مع كل قرار، يدوس على رقبة الفقراء دوسًا، يتشدق إعلام “السبوبة” في برامج “قلة الأدب شو”، بأن القرار يصب في مصلحة المواطن، حتى غدت العبارة لدى المزاج الشعبي، ذات دلالات إباحية، وصارت تحمل من السخرية، بقدر ما تحمل من الرفض.

في الأنظمة الشمولية، كانت معادلات الحكم تتأسس على توفير المأوى والمأكل والعلاج والتعليم مجانًا، بغض النظر عن مستويات الجودة.

كان الحد الأدنى من كل شيء، وسيلة النظام السياسي للبقاء، ووسيلة الدولة للاستقرار، وكان ذلك مسوغًا لقمع المعارضين، وربما سوقهم إلى المشانق في النماذج الأكثر تطرفًا.

تلك ديكتاتورية امتلكت الحد الأدنى من العقلانية، فليس منطقيًا ألا يصرخ الناس تحت وطأة ضربات الجوع.

وفي دول الخليج النفطية، هناك معادلة أخرى، فالنظام السياسي يغدق على مواطنيه، ويوفر لهم رخاءً اقتصاديًا، وعيشة هنيئة، وتعليمًا متقدمًا وعلاجًا متطورًا، مقابل إغلاق أفواههم، فلا شأن لهم بالسياسة، ولا علاقة لهم بما يحدث في قصور الحكم.. طويل العمر “يطول عمره ويزهزه عصره”.

نحن إزاء حالة خارج سياقات النظريات السياسية، وتجافي الممارسات الواقعية في الشرق والغرب؛ جوع وتكميم أفواه معًا.

اقرأ أيضًا:“جربناها ونفعت”.. ما دلالات تشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفي مدبولي؟

الحوار الوطني والحريات.. جعجعة بغير طحين

فيما تنفي الدولة وجود معتقلين سياسيين، يعلم القاصي والداني و”الهاجع والناجع والنائم على بطنه”، أن جملة من بضعة حروف، تنتقد سوء الأوضاع الاقتصادية، على السوشيال ميديا، قد تزج بصاحبها في دوامات الحبس الاحتياطي؛ هذا الثقب الأسود الذي لن يخرج منه سنينًا، بخاصة مع رفض تعديل بنود قوانين الحبس، بحيث تتقلص مدته في الحد الأقصى إلى ستة أشهر.

مطالب الحوار الوطني، بتعديل القانون لم تجد صدى، فكان أن انسحبت القوى المدنية من دورته الثانية، ليغدو حوارًا بين النظام ومؤيديه، ممن تزدحم الفضائيات بهم، فيطنطنون طنينًا منفرًا، بأن الحوار إثرائي وإيجابي وتسوده روح التفاهم، فيما هو في واقع الأمر لا يعدو إلا أن يكون جعجعة بغير طحين.

ومع الحوار الوطني، وأزمات الكهرباء، ورغيف الخبز، كان لا بد من نشر الترهيب، فإذا بقرار حبس المعارض أحمد الطنطاوي، على خلفية تهمة تزوير توكيلات انتخابات الرئاسة، التي لم يستطع -لأسباب يعلمها الجميع- استيفائها.

وإذا كان حبس الطنطاوي لم يسترع اهتمام الجائعين المتعبين، إلا أنه حظي باهتمام لافت من المنظمات الدولية، فإذا بالأمم المتحدة تُصدر بيانًا للمطالبة بإطلاق سراحه، وتكفي جولة سريعة على عناوين الصحف الأجنبية، للوقوف على مدى الخسارة المعنوية التي تخسرها مصر جراء ذلك.

مع التململ الداخلي، يرتفع منسوب الرفض، لما يعتبره كثيرون تراجعًا للمكانة الإقليمية إزاء غزة، بخاصة بعد دخول قوات الاحتلال محور صلاح الدين، واستشهاد جندي مصري برصاصة إسرائيلية في الرأس.

الأوراق جميعها مبعثرة، والواقع المصري الراهن يخلو من الحدود الدنيا للحصافة السياسية.

خدمات في أسفل سافلين، وغلاء أهوج لم يستثنِ لقمة العيش، وتكميم أفواه وغلق آفاق السياسة، رغم الطنطنة بشأن الانفتاح على المعارضة، وبأن “اختلاف الرأي لا يفسد للوطن قضية”.

كانت الآمال معقودة على تغيير وزاري يتيح الفرصة للتكنوقراط أهل الخبرة، لتدشين سياسات جديدة فيها الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، فإذا بالتغيير شكلي، وإذا برئاسة الحكومة تُسند مجددًا للدكتور مدبولي، والمبرر “استكمال مسيرة الإصلاحات”، وهذه ليست نكتة.

جمود يضغط على الأعصاب، ويقدح النيران في الصدور، والواضح أن أحدًا في المطبخ السياسي، لا يملك الرغبة في ترتيب الأولويات، ورأب الشروخ قبل تعمقها.

الجبهة الداخلية المصرية ليست على ما يرام، في طرف إقليمي بالغ الالتباس، والأمور إجمالًا لا تحتاج عودةً إلى التاريخ لاستكناه الدروس، والنظر في التداعيات المحتملة.

هل ممكنٌ أن تستمر هذه الأوضاع إلى ما لا نهاية؟

ليت مسؤولًا في مواقع اتخاذ القرار، يجيب على نفسه أولًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة