في المنامة، انعقدت قمة عربية لا تسمن ولا تغني من جوع، لا ترد عدوان ولا تلوح باستخدام كروت ضغط، تكتفي بترديد شعارات والتأكيد على إدانات، دون أن تبلور موقفا صلبًا واضحًا عمليًا ملائمًا للحظة وطبيعتها ومخاطرها، وتعيد التمسك بخيارات أكل عليها الدهر وشرب دون أن تتقدم خطوة واحدة للأمام.
وفى رفح، تواصل قوات الاحتلال الصهيوني محاولة فرض جنون رغبات وأوهام قادة الحكومة الصهيونية المتطرفة على العالم أجمع، رغم كل التحذيرات وتحركات الرفض ومحاولات التوصل لصيغ وقف الحرب العدوانية المجرمة المستمرة لأكثر من 7 شهور.
وفى غزة، وفى كل أراضي فلسطين المحتلة، يتابع الشعب الفلسطيني الباسل الصامد كل ما يجري حوله، من قتل وتدمير وإبادة، في ظل عجز عربي، وتواطؤ دولي، والدعم الأمريكي الواضح رغم تغليفه بعبارات الرفض والاستنكار، واستمرار الانقسام السياسي الفلسطيني، وتشكل ملامح نكبة جديدة في الذكرى السادسة والسبعين لنكبة 1948.
اقرأ أيضًا:ماذا يحدث على الحدود المصرية؟
(1)
ما يجري في فلسطين، في غزة، والآن في رفح، ليس نقطة البداية، وليس أول جرائم الكيان الصهيوني، وليس فصل منقطع عن مسار متصل منذ 1948 وما قبلها، وإذا كان البعض يراه نتيجة مباشرة لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر دون أن يرى المشهد بشكل أوسع وأعمق، فإنه في واقع الأمر يرسخ الرواية الصهيونية التي تعتبر أن ما يجري (رد فعل) وليس فعلًا أصيلًا مستمرًا متواصلًا على مدار عقود.
قد تتفاوت وتتباين التقديرات بخصوص ما جرى في 7 أكتوبر، الذى يظل عملًا مقاومًا مشروعًا بامتياز، ويظل فصلًا بالغ الأهمية من فصول النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وتبقى آثاره فيما هو مقبل أعمق وأوسع مما هو مطروح الآن من مشاهد وتفاعلات، لكن يظل طبيعيًا التفاوت والتباين في التقدير السياسي لتوقعات وتحليل نتائجه وآثاره مقارنة بما جرى بالفعل في ظل وضع دولي بالغ البؤس والوضاعة، ووضع إقليمي بالغ الهشاشة، ووضع داخلي فلسطيني بالغ الانقسام.
لذا، فإن الانحياز للفعل المقاوم في 7 أكتوبر شيء، والتقدير السياسي له والتباين فيه شيء آخر.. لكن كلاهما مختلف تماما عن تبني منطق أنه ما تسبب في كل ما يجرى الآن، الذي حتى وإن تم اعتباره من البعض رد فعل، فإنه رد فعل لا يتناسب على الإطلاق مع الفعل.
من هنا، فإن كل هجوم أو رفض لما جرى في 7 أكتوبر، أو تطوع مجاني بإدانته، أو تصريح علني باعتباره سبب ما يجري الآن، مثلما جرى مؤخرا من رئيس السلطة الفلسطينية في القمة العربية، ومثلما جرى مرارا على ألسنة مسئولين رسميين عرب، ومثلما كان سائدا في الإعلام الدولي كصك غفران مبدئي واجب البدء به، يعبر عن رؤية بالغة الانحطاط والبؤس ومحاولة لمداراة الخيبة والعجز في مواجهة العدوان الصهيوني، مهما تكررت الإدانات وبيانات الشجب وتصريحات الرفض لما يقوم به الكيان الصهيوني.
ومع ذلك، يظل الفارق كبيرًا أيضًا، بين الانحياز لمقاومة 7 أكتوبر، ولكل فعل مقاومة، وبين اعتبار ذلك صك دعم وتأييد مطلق ودائم أو تطابق في المواقف والرؤى – حتى فيما يتعلق بقضية الأمة الرئيسية من المواجهة مع العدو الصهيوني - سواء لحركة حماس أو لغيرها، لكن هذا حديث لا يمكن أن يكون أوانه الآن في ظل حرب مستعرة وعدوان همجي وعجز عام عن صده أو وقفه أو ردعه دوليًا وعربيًا.
اقرأ أيضًا:رصيف أمريكي بساحل غزة وتوتر متصاعد على معبرها المغلق
(2)
التطور الأخير في السيطرة الصهيونية على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، والتمهيد المتواصل والمستمر، سواء على مستوى التصريحات أو على مستوى التحركات بخصوص استكمال العملية العسكرية في رفح، رغم كل التحذيرات الدولية والعربية، والمصرية على وجه الخصوص، ورغم ردود الفعل التي توضح تصاعد الغضب والخلاف مع ما يجري، إلا أنها لا تبدو كافية لردع مجانين الحكم في الكيان الصهيوني، الذين يتصورون أنهم قادرون على فرض إرادتهم وتصوراتهم للنهاية، وقادرون على سحق وإنهاء والقضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، وقادرون على ترتيب وضع جديد في إدارة غزة يلقي بالتبعات على أطراف دولية وإقليمية غيرهم.
على مدار أكثر من سبعة شهور، جربت حكومة اليمين الصهيوني المتطرف هذه الطريقة وللأسف أفلحت، في كل مرة كان يتصور أن هناك حدًا للجنون والإجرام كانت تتجاوزه وتبلغ مراحل تالية له، وردود الفعل كما هي لا تتجاوز الشجب والإدانة، وتتصاعد سياسيًا وإعلاميًا ما يبدو أنها خلافات أمريكية صهيونية على الشكل والتفاصيل، وينتظر المراهنون على تدخل أمريكا أن توقف الجنون الصهيوني دون نتيجة.
بغض النظر عن التحليلات حول مدى قدرة إدارة بايدن على وقف ما يجري من عدمه، وإذا كان حجم الخلافات عميقًا بالفعل أم يجري المبالغة فيه لامتصاص الغضب والحفاظ على التوازنات والمواءمات اللازمة، فإن هذا لا ينكر حقيقتين مؤكدتين، أولهما أن الوضع في المنطقة وربما في العالم كله لم يعد كما كان، ولم تعد أمريكا – تحت قيادة إدارة بايدن أو غيره – قادرة على فرض إرداتها بهذا الشكل المباشر، صحيح أنه لا تزال أمريكا لديها كروت الضغط الأكثر والأهم تأثيرا، وصحيح أنها لا تزال الراعي الأول والأهم للكيان الصهيوني، لكن في المقابل فإنها لم تعد سيدة العالم التي تأمر فتطاع دائمًا وأبدًا، وخاصة مع وجود مجنون على رأس الحكومة الصهيونية يدافع عن ما يتصور أنه مستقبله ومستقبل حزبه وتياره السياسي بل ومصيره الشخصي، لكن الحقيقة الثانية والأهم أنه ليس هناك ما يدفع أي طرف أمريكا أو غيرها أن يستخدم حقا كروت الضغط والتفاوض ويسعى لفرض إرادته سواء في وقف الحرب أو غيرها، لأنه لا يوجد تهديد حقيقى ولو بالتلويح لمصالحه المباشرة، فإذا كانت الأطراف صاحبة المصلحة المباشرة تكتفي ببيانات الشجب والإدانة والتمسك بمبادرات السلام بل وبعضها يغوي الكيان الصهيوني بوقف الحرب وإقامة الدولة الفلسطينية مقابل تطبيع العلاقات، وكأن كل هذا المسار الممتد لعقود لم يكف لنكتشف طبيعة هذا الكيان وتركيبته وبنيته وسياساته وممارساته، فما الذي يمكن أن يردع نتنياهو وزمرته عن جنونهم، وما الذي يمكن أن يضطر أي إدارة أمريكية لاستخدام كروت ضغطها الفاعلة والمؤثرة بشكل حقيقي؟
الاتفاق مع 7 أكتوبر أو الخلاف معها، والاتفاق مع حماس أو الخلاف معها، لا ينفيان حقيقة مؤكدة: أن ما يجري الآن هو تهديد مباشر للأمن القومي العربي كله، وفرض لإرادة صهيونية سيكون لها توابعها وعواقبها، وردة الفعل المطلوبة ليست بالضرورة – كما يدعي البعض – خوض الحرب العسكرية المفتوحة، وإنما استخدام – ولو بالتلويح كمرحلة أولى شرط أن يكون جادا – كروت القوة العربية التي لا تزال قائمة ومتاحة وممكنة.
(3)
شيء من هذا التلويح المشار إليه، بدأ يظهر في الأفق مؤخرا في رد الفعل المصري بعد سيطرة الكيان الصهيوني على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، وبغض النظر عن مساحات الاختلاف والاتفاق مع الأداء المصري خلال الشهور الماضية، الذي بالتأكيد شهد إيجابيات لم تكن حاضرة من قبل، لكنه أيضًا شهد مساحات خلاف عميقة ومؤكدة قد يأتي آوان الحديث عنها لاحقا، لكن الموقف الآن يحتاج لما هو أوسع وأعمق وأسرع وأكثر تأثيرا، وحسنا فعلت مصر بأن أعلنت نيتها الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، وهو تحرك سياسي مهم حتى وإن كان متأخرا، لكن الأهم الآن أن يكتمل، وأن يكون خطوة ضمن مسار متصل لا مجرد حلقة منفصلة ومؤقتة.
ما جرى ويجري في غزة على مدار الشهور الماضية، وما يجري الآن وقد يجري في رفح تحديدا، يستحق بالتأكيد أن تتحول مصر من موقع (الوسيط) الذي قامت به على مدار شهور، بل على مدار عقود، إلى موقع (الانحياز) للقضية الفلسطينية، ولسنا هنا في حاجة لمن يذكرنا بالأدوار والتضحيات التي قدمتها مصر على مدار تاريخها للقضية الفلسطينية، ولا بالأوضاع الصعبة والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها مصر، لكننا نحن من بحاجة لنذكر أنفسنا ونذكر الجميع بأن ما يجري غير مسبوق، وهو يرسم بالفعل ملامح نكبة جديدة للأمة كلها لا لفلسطين وحدها إذا استمر الوضع القائم، وقد بدا واضحا دون أي شكوك الإفشال الصهيوني المتعمد لمحاولات وقف الحرب على مدار الشهور الماضية، والإصرار المستمر على مواصلة الحرب حتى القضاء على حماس، وهو وهم مطبق يتأكد يوما بعد الآخر، وهو من ناحية أخرى خطر حقيقي على مصر والأمة كلها أن يسمح للكيان الصهيوني بالتمادي في هذا حتى النهاية حتى وإن لم تكن نتيجته العملية قابلة للتحقق، فبعيدا عن الاتفاق والخلاف مع حماس، فوجود مقاومة للعدو الصهيوني أيا كان اسمها ولونها السياسي داخل الأراضى الفلسطينية عنصر هام وضروري، والسماح باستمرار محاولات القضاء عليها أو حتى الحد من قدراتها أو فرض سيناريوهات تضعها في مواجهة أطراف أخرى غير الكيان الصهيوني، كلها مخاطر حقيقية لا على القضية الفلسطينية وحدها، بل على المنطقة كلها وفي القلب منها مصر.
مجددًا، فإن هذا آوان أن تستعيد مصر دورها وموقعها الحقيقي والفاعل من فلسطين، ومما يجري فيها، ومما يجري على حدودها، وحده الأدنى هو خطاب رسمي بالغ الوضوح، لا فقط في الموقف، وإنما في التحركات التي ستترتب عليه، ونقطة البدء فيه هو إلغاء أو حتى تجميد اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، وهى خطوة في ذاتها ستمثل مؤشرا بالغ الأهمية والوضوح على تحول كبير يمكن أن يغير الكثير من المسارات، لا من حيث توسيع الحرب كما يتصور البعض، بل ربما من حيث الاضطرار الأمريكي والصهيوني لوقفها، وفرض معادلات جديدة بالغة الأثر بعكس ما يتصور كثيرون.
(4)
ما سبق كله، يعنى باختصار أن مشاهد وترتيبات جديدة يجري صياغتها الآن، تحدد شكل ومستقبل هذه المنطقة كلها، والسماح باستمرار ما هو جاري، والتعامل معه بنفس الأدوات والتصورات التي حكمتنا وقيدتنا لعقود لم يعد مجديا، وما سبق كله أيضا لا يمكن أن يتغاضى عن حقائق ماثلة تبدو في إعادة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني لصدارة الأجندة الدولية، وتحول كبير جرى ولا يزال يجري في مواقف حكومات وأنظمة، وليس آخره التصويت بالغ الدلالة في الأمم المتحدة على قبول عضوية دولة فلسطين حتى وإن أعاقته أمريكا لاحقا كما فعلت سابقا في مجلس الأمن، ولا الاستعداد المتزايد من دول عديدة للاعتراف بدولة فلسطين، ولا ما هو أهم من المواقف الرسمية التي قد تبقى تراوح مكانها، من دعم وتضامن شعبي عالمي بالغ الأثر والأهمية، حتى ولو لم يكن في أثره المباشر في الوقت الراهن، ففي تأثيره على الوعي العام ورؤية الشعوب لطبيعة القضية الفلسطينية والموقف من الاحتلال الصهيوني على عكس ما تم ترسيخه على مدار عقود، وجزء من هذا ينعكس دون شك على الداخل العربي وخاصة الأجيال الجديدة، حتى وإن لم تكن لديها المساحات الكاملة والكافية للتعبير عن موقفها في ظل طبيعة السياسات التي تحكم أغلب الدول العربية، لكن المؤكد أن تغيرا جوهريا ونوعيا جرى في الشهور الماضية، وستكون له آثاره بالغة الأهمية فيما هو مقبل.
وفى ظل هذا السياق، فإنه لا بد من التفكير الجاد في مبادرات عربية فاعلة لا تقتصر على الشجب والتنديد والإعراب عن الغضب، وإنما تكتيكات ومبادرات مؤثرة بالفعل وبما يسهم في اكتساب المزيد من الدعم والتأييد الشعبي دوليا للقضية الفلسطينية ويفرض على الجميع ضرورة وقف المشهد الحالي والترتيب لمستقبل مختلف، وكذلك لا بد من الاقتحام الجاد لقضية الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي لا تبدو له حلولا ممكنة في ظل القيادات الحالية من كل الأطراف وهو ما يحتاج لبلورة قيادة فلسطينية جديدة واضحة في انحيازها لحقوق الشعب الفلسطيني ولخيار المقاومة بكافة أشكالها وقادرة على فرض أجندة جديدة وخطاب متجدد يلقى قبولا واحتراما من كل الداعمين الحاليين والمحتملين للقضية الفلسطينية.
وإذا كان هذا آوان التفكير في تغيرات جوهرية في مسار التفاعل المصري مع ما يجري الآن، والتقدم لفعل مختلف نوعيا عما كان قائم طوال الفترة السابقة، فإنه بالضرورة هذا آوان واجب فيه فتح مساحات حقيقية وجادة وواسعة للمصريين وقواهم السياسية والنقابية والمجتمعية للتعبير عن حقيقة موقفهم من فلسطين وشعبها، فالحضور الشعبي بالغ الأثر في دعم أي موقف رسمي مقبل أو تقويمه، واستمرار التغييب الحالي بقدر ما يضعف أي مواقف ممكنة فإنه كذلك يعمق غضبا وكبتا قد ينفجر في مساحات مختلفة، ومع ذلك وقبله فإنه من الأوجب والأكثر سهولة ويسرا اتخاذ قرار سياسي واضح بالإفراج الفوري عن كل من سبق القبض عليه وحبسه احتياطيا في قضايا متعلقة بدعم فلسطين وغزة على مدار الشهور الماضية، وهو أمر ستكون له دلالة بالغة التأثير داخليا وسياسيا.