الإعاقة والعمل والحياة الكريمة

 

تاريخيًا، كان الأشخاص “ذوي الإعاقة” خارج عملية الإنتاج، وكان ينظر إليهم من الناحية الاقتصادية كمعالين مثل الأطفال وكبار السن، حيث كانت احتياجاتهم ترتبط بعلاقاتهم الاجتماعية والمساعدات الخيرية، وبالطبع كان يوجد استثناء من القاعدة حيث يعمل بعض ذوي الإعاقة في بعض الأعمال الهامشية مثل النظافة والخدمة، ظل هذا النمط سائد حتي نهاية الحرب العالمية، حيث كان من نتائجها المباشرة نقص حاد في العمال من جهة وعودة الآلاف من الجنود مصابين من جهة أخري.

السوق الأوروبي المتعطش للأيدي العاملة في ظل عملية إعادة إعمار أوروبا المهدمة، وحاجة المصانع للكثير من العمال. أحدث التحول الأهم في مجال الإعاقة بالقرن العشرين، فالرأسمالية عملت علي تغيير رؤيتها للإعاقة، وعملت علي الاستفادة من القدرات المتاحة لدى الأشخاص ذوي الإعاقة ودمجهم بسوق العمل من خلال عملية مركبة نظرية/ عملية تشبه كثيرا عملية جذب النساء لسوق العمل.

علي المستوي النظري تخلت أوروبا عن الرؤية الدينية والأخلاقية للإعاقة، وتبنت الرؤية الطبية التي ترى الإعاقة بمقياس القدرة الجسدية، أما عمليًا فقد عملت علي إنشاء مراكز التأهيل المهني، والتي تعد نقلة نوعية حينها في مفهوم التأهيل الذي كان يقتصر علي تعليم الشخص كيفية الاعتماد علي نفسه بأكبر قدر ممكن، أما التأهيل المهني فهو تمكين الشخص من القيام بعمل محدد حسب قدراته الجسدية.

اقرأ أيضًا:الإعاقة في الإعلام المصري.. إشكالية الرؤية والمساحة

بدأت إذا علاقة الإعاقة بالعمل من الاستغلال الرأسمالي قبل أن تصبح حقا معترف به من حقوق ذوي الإعاقة، وتتبنى المنظومة القانونية الدولية حق ذوي الإعاقة في العمل بداية من منظمة العمل الدولية وصولا لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وبالتدريج تبنت أغلب القوانين المحلية حق العمل لذوي الإعاقة حتي وأن حصرته في نسبة قليلة جدا.

الوضع في مصر لم يختلف كثيرا من الناحية النظرية، لكنه اختلف عمليًا بدرجة كبيرة، حيث بدء التأهيل المهني بشكل فعلي في مصر بعد حرب أكتوبر 1973. وصدور قانون تأهيل المعاقين 1975. والذي وضع الأساس القانوني لتأهيل ذوي الإعاقة للعمل، ونص علي تخصيص نسبة 5% من فرص العمل لهم، وهي النسبة التي لم تكتمل أبدا لأسباب عديدة منها قلة قيمة الغرامة المفروضة علي مخالفة النسبة، ورغم التغير الكبير بعد تصديق مصر علي اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وصدور قانون حقوق ذوي الإعاقة 10 لسنة 2018. إلا أن حق العمل لذوي الإعاقة مازال غير كافي بأي درجة.

العمل بالنسبة للشخص ذو الإعاقة مثله في ذلك مثل أي شخص آخر، هو مصدر الحياة الكريمة، فالدخل من العمل يفترض أن يكون المصدر الأساسي لتلبية الاحتياجات، ويحتاج دمج ذوي الإعاقة بسوق العمل إلي تغيرات كبيرة على المستويين الفكري والعملي، فالدولة مسئولة عن تغيير الصورة النمطية للإعاقة ومحاربة الاتجاهات السلبية ضدهم، ووضع الأسس القانونية التي تمكنهم من الوصول لحقوقهم، لكن تحتاج الحكومة نفسها لتبني رؤية تقدمية للإعاقة، والبعد عن التنميط.

الواقع يثبت عكس ذلك، فالحكومة تتعامل في مجال الإعاقة برؤى متناقضة تجمع بين الدينية والطبية والحقوقية، هذا المزيج الغريب يجب أن ينتهي علي الأقل علي المستوى الرسمي، أما علي المستوى الاجتماعي فمن الطبيعي أن تتعايش الرؤى المتناقضة لفترات طويلة، لذلك فالحكومات عليها أن تلعب دور رأس الحرب في مجال الإعاقة، عليها أن تفرض الرؤية الحقوقية، وتعاقب علي الانتهاكات التي يتعرض لها “ذوي الإعاقة”، وبالتأكيد عليها أن تعطي حق العمل أولوية قصوى، وأن تفرض علي كل مكان عمل أن يكون مؤهل لذوي الإعاقة وأن يستوفي النسبة القانونية منهم، ويحتاج ذلك بالطبع لإرادة سياسية واضحة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة