التنمر الأسري.. يوم قُتلت بـ”لسان” أمي

آية ياسر
آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة. صدرت لها ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين

كان قلبها يخفق بشدة، تجر خلفها حقيبة سفر، تدخل مطار الملكة علياء الدولي بالعاصمة الأردنية عمان، متجهة إلى الطائرة التي ستحملها بعد دقائق قليلة، إلى مطار القاهرة الدولي، لتستقل بعدها قطار الصعيد إلى مدينة أسيوط. هناك ستبدأ حياة جديدة في عامها الثامن عشر، تاركة خلفها ماض حزين مٌثقل لا تريد أن تتذكر فيه أمها وجدتها وما حدث.

“هدير جمال” ذات العيون البنية الواسعة والشعر الداكن المائل إلى السواد، والبشرة القمحية المائلة للبياض، والأنف والفم الكبيران، والجسد المائل إلى النحافة، لم ترق أبدًا لأمها، ذات الأصول والملامح الشامية، لمجرد أنها ولدت بملامح مصرية خالصة ورثتها عن عائلة أبيها المصري.

عنصرية قاسية مورست على “هدير” من أقرب التاس إليها، وتنمر ذاقته منذ سنوات طفولتها الأولى، على يد والدتها ونساء عائلتها، لأنها لا تملك مثلهن عيونًا مدورة خضراء كالقطط، أو فمًا وأنفًا صغيران، وشعرًا ذهبيًا كالشمس، وبشرة ناصعة البياض كالدقيق الأبيض، وجسد مستدير، وأصابع عريضة وقصيرة.

“ماما كانت أكتر حد بيتنمر عليا في طفولتي وتسئ لشكلي، كانت شايفة إن شكلي مش حلو وإن أنا رفيعة ومش شبه البنات اللي حواليا، والحقيقة مش عارفة هي كانت شايفاني كدة فعلًا ولا قاصدة تكسر فيا حتة إن أنا أبقى معجبة بنفسي وشايفة نفسي بنت؟”؛ تتساءل “هدير” التي توشك أن تتم عامها السابع والعشرين.

اقرأ أيضًا: العنف المنزلي والأسري إلي أين؟

يُعرف التنمر بشكل عام بأنه سلوك عدواني متكرر يهدف للإضرار بشخص آخر عمدًا، جسديًا أو نفسيًا، بينما يعتبر التنمر الأسري بأنه أحد أشكال العنف المنزلي، وعادة ما يكون الهدف النهائي للمتنمر هو الهيمنة والسلطة والسيطرة، ومن أشكاله: مناداة الطفل/ الطفلة بألقاب معينة منذ صغره، ولاسيما التي تحمل مضامين سلبية تمس اللون والشكل والأسلوب، مما قد يؤثر على نمو الطفل، عاطفيًا وجسديًا واجتماعيًا، ويؤدي إلى اضطرابات في الأكل وضعف احترام الذات وأزمات نفسية، وقد يصبح أطفال الآباء العدوانيين أنفسهم آباءً عدوانيين في المستقبل.

اغتيال ثقة الأبناء

لأن “هدير” نشأت مغتربة في الأردن قبل أن تعود إلى مصر؛ فإن دائرة المعارف الخاصة بها كانت محدودة للغاية، واقتصر عالمها على أبويها ومعلميها وزميلات دراستها؛ ولم تجد في هذا شيئًا من الإطراء يعوضها عن قسوة وتنمر أمها، وتلك القناعة السلبية التي غرستها في عقلها منذ سنواتها الأولى، بأنها ليست جميلة الشكل ونحيفة وغير مقبولة، وأن حب والدتها لها مشروط فقط بتأدبها وتفوقها الدراسي على قريناتها، وهو الأمر الذي عجزت عن تحقيقه، فعاشت طفولة غير سعيدة.

“السخرية التي تُمارس من الآباء على أطفالهم لمجرد الضحك أو للتنفيس عن الغضب هي أقرب طريق لفقدان الأطفال الثقة في النفس بالكبر”؛ تقول استشاري الصحة النفسية والتربوية، الدكتورة أسماء حفظي، والتي تضيف أن هناك من الأمهات من هن غير سويات نفسيًا، يشعرن بالغيرة من بناتهن، ويتعمدن إفقادهن ثقتهن بأنفسهن، وإزعاجهن بالتعليقات السلبية لأسباب أخرى غير التنمر، كحثهن على فقدان الوزن الزائد أو الاهتمام بشعرهن وبشرتهن، أو حتى القيام بالأعمال المنزلية، وهو أسلوب خاطئ يدمر نفسيتهن.

“ثقتي في نفسي كانت صفر، ما عنديش ثقة في نفسي بجنيه، كلمة بتوديني وكلمة بتجيبني، طول الوقت خايفة ومتوترة، ومش عارفة اللي بعمله صح ولا غلط؟، ماليش كلمة، ماليش رأي”؛ تحكي هدير.

وتبين الاستشاري النفسي أن الطفلة التي تشعر بأنها محبوبة في أسرتها تصبح واثقة من نفسها وقوية الشخصية قادرة على مواجهة المجتمع، أما اللواتي لا يحظين بهذا الشعور فإنهن يصبحن ضحايا محتملة لشريك حياة مؤذي أو اختيارات خاطئة لشركاء عاطفيين مسيئين، لمجرد أن يسمعن كلمة إطراء أو مديح لشكلهن.

إرث التمييز العنصري والتنمر

“أنتِ هتقارني نفسك بيهم يا عبدة؟!.. أنتِ سودا وهما بيض”؛ نحو ربع قرن مضى ولا تزال كلمات الجدة العنصرية الأشد قسوة من الرصاص تطارد “إيمان عبدالله”، التي أتمت عامها الثلاثين مؤخرًا، لا تزال تتذكر كل ما عانته وتحاول الآن التمرد عليه بمساحيق التجميل.

كانت “إيمان” تعد عمرها على أصابع يدها حين قالت لها جدتها التي حفرت التجاعيد أخاديدًا في وجهها، تلك الكلمات، بعد شجار طفولي بينها وبين أشقائها وأبناء وبنات خالتها. شعرت حينها بانكسار قلبها، وتضاعف حزنها أن والدتها كانت حاضرة وهي تسمع أمها المصرية الريفية السبعينية تتنمر بابنتها وتهينها، ولم تدافع عنها بل أخذت تضحك هي والبقية.

يقول د‏.‏سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية، إن هناك معايير للجمال مرتبطة في العقل الجمعي المصري ببياض البشرة، لذا غالبَا ما يتم التنمر بصاحبات البشرة السمراء، كما يعتبر جمال المرأة في شعرها، فيسخرون من صاحبات الشعر المجعد، مبينًا أن التنمر بين أفراد العائلة عادة ما يأتي على هيئة مزاح قد يرتبط بسن معين، لكن تكراره بشكل زائد يسبب إيذاءً نفسيًا ومشكلات أسرية، وأحيانًا يأتي كنوع من الانتقام وتصفية الحسابات بين أفراد العائلة، مشيرًا لارتباط التنمر العائلي بالمستوى الثقافي والبيئة الاجتماعية.

لم تكن تلك المرة الأخيرة التي تؤذيها فيها بالقول، فالجدة التي لم تتلق أي نصيب من التعليم، نقلت عدوى العنصرية إلى خالاتها ثم أقران “إيمان” في العائلة وجيرانها في الحارة الواقعة بأحد أحياء القاهرة الشعبية.

“يا سودا يا كارتة، يا معفنة يا عبدة، مش هتلاقي حد يتجوزك، هو أنتِ حد يبص لك؟ سمعت الكلام ده كتير من ستي وخالاتي وكانت أمي بتضحك وتسكت، ومع الوقت بقيت فاقدة الثقة في نفسي وبتمنى أحس إني محبوبة وشكلي حلو”؛ تحكي “إيمان”، التي لم تتخلص من تنمر نساء العائلة حتى بعد زواجها وإنجابها لأنثى انتقل إليها تلقائياً إرث التنمر.

الدكتورة أسماء حفظي، تشير إلى أن العادات المرتبطة بتوقير كبار السن تجعل الأمهات يتغاضين عن تنمر وسخرية الجدات وكبار السن في العائلة من بناتهم وأولادهم، مما يفقد الأطفال ثقتهم بأنفسهم، مضيفة أن العلاقة بين الأم المتنمرة أو المتغاضية عن السخرية من ابنتها يسيطر عليها التجنب والغضب وغياب لغة الحوار، لافتة إلى وجود أشكال عديدة للتنمر الأسري بعضها غير مباشر، كأن تحاول الفتاة صاحبة الشعر المجعد تصفيف شعرها مثل قريناتها فتسخر منها أسرتها وتصفها بـ”المنكوشة”، أو تكون لديها مشكلة ما بأسنانها فيسخرون من ضحكتها ويطلبون منها غلق فمها، وأحياناً تواجه المراهقات سخرية أسرهن من التغيرات الجسمانية التي تحدث لهن بسبب البلوغ.

اقرأ أيضًا: ولا يزال العنف قائمًا والازدواجية بادية.. كيف تفاعلت نسويات مصر مع حملة الـ 16 يومًا؟

“يوم فرحي سمعت خالاتي بيقولوا مش عارفين اتجوزها على أيه ده أحلى منها؟، خسارة فيها هي حد يبص لها.. الغريبة إنهم كانوا بيضحكوا في وشي ويرقصوا لي ويزغردوا!، وبعد ما خلفت وربنا رزقني ببنوتة قالوا عليها سودا وشعرها أكرت طالعة لأمها”؛ تضيف “إيمان”.

ويرى أستاذ علم الاجتماع أن بعض النساء أكثر ذكورية من الرجال في مجتمعنا المصري، وأن ضحايا القهر الذكوري يلجأن إما لتجنب تعرض بناتهن للشيء نفسه أو تكرار الأمر بحذافيره معهن، ويتشبعن بالثقافة الذكورية ويضطهدن النساء بمعايير الذكور؛ فتتحول إلى جسد أنثى بعقل رجل وتصبح ألد أعداء المرأة. 

بنت المليحة فضيحة

على النقيض من “إيمان” وهدير” ولدت “سالي علي” ببشرة بيضاء وملامح جميلة ورثتها عن جدتها تركية الأصل، لكنها رزقت بطفلة ذات بشرة سمراء، لا تشبه أمها، وهو ما جعل والدة زوجها تتنمر على ابنتها منذ ولادتها وتنعتها بأوصاف سيئة وتُفضَل عليها بقية أحفادها.

“كنت لسة والدة في المستشفى وحماتي شافت بنتي فقالت إيه ده دي سودا ووحشة؟، طالعة لمين؟.. وقالت إنها مش هتلاقي حد يتجوزها وتقعد تخدمنا، ولما ماما اتضايقت من كلامها قالت لها هي أكيد مش طالعة لنا، أنا وبناتي زي القمر، كانوا هيتخانقوا بسبب شكل بنتي اللي ما بقالهاش ساعتين في الدنيا، وفي الآخر قالوا هي بنت المليحة فضيحة”؛ تتذكر “سالي” كيف حملت لها غرفة المستشفى التي مكثت بها بعد الولادة ذكرى سيئة، لم تتخلص من آثارها إلى اليوم، وهي ترى جدة أطفالها لا تهتم بصغيرتها الأقل جمالًا بينما تغدق على أقرانها الحب والاهتمام والهدايا.

وتوضح الدكتورة إيمان الليثي، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة القاهرة، أنه في البيئات الأقل ثقافة يظهر التنمر، كما يرتبط ببعض المقولات والأمثال الشعبية، مثل: “بنت البطة السودا، بنت المليحة فضيحة”، مشيرة إلى أن الأب أو الأم في مصر قد يطلقان لقبًا مضحكًا على ابنهما أو ابنتهما بغرض المزاح مثل: “أم ضب، أو أم كدش”، لكنهما يغضبان حين طفلهما أحد بذلك ويرفضون تنمر الغرباء بأولادهما وبناتهما.

كما تربط الليثي بين التنمر الأسري وبين الثقافة والموروثات المصرية المتعلقة بالسخرية والضحك والتي تعود جزورها إلى مصر القديمة؛ حيث اعتاد المصري على مر التاريخ أن يسخر ويتندر على مشكلاته وعيوبه بشكل كوميدي، وابتدع الفراعنة فن الكاريكاتير فقاموا برسم ملكة بونت، الواقعة في شرق إفريقيا، على جدار معبد حتشبسوت، بشكل كوميدي فجعلوا لها مؤخرة ضخمة وبطن كبير مترهل.

محاولة التعافي

بعد تسع سنوات من تركها منزل أسرتها وسفرها إلى مصر، خرجت رواية “قمر نيسان” التي ألفتها “هدير جمال” إلى النور، حاملة معها الكثير من الشجن جن والمشاعر، وباتت الكاتبة الشابة تشعر بشيء من الرضا عند نفسها وتوقفت عن البحث عن إثباتات من الآخرين مكتفية بنجاحاتها الشخصية، ومستعينة بالكتابة للتعافي من الأثر النفسي لتنمر الأم الذي لاحقها لأكثر من عشرين عامًا وجعلها فاقدة للثقة بالنفس، معتبرة الجمال الشكلي أمر نسبي.

في حين قررت “إيمان عبدالله” اعتزال ما يؤذيها ويؤذي ابنتها، رافضة أن تشرب الصغيرة من الكأس نفسه، فواجهت جدتها وخالاتها المتنمرات ووضعت خطوطًا حمراء في علاقتها بهن، تحول دون تلقي ابنتها أي إساءة لشكلها، وهو الأمر نفسه الذي فعلته “سالي علي” مع والدة زوجها التي تنمرت بابنتها، فاعتذرت الأخيرة مبررة تصرفاتها بأنها أرادت المزاح لا أكثر، وأنها تحب حفيدتها على أي حال.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة