"صلوا على حضرة النبي يا اخواتي، معايا طقم الفوط التركي، فوط للتلميع فوط للتنضيف، جميع الألوان جميع المقاسات". كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباح يوم الإثنين عندما توقف المترو في محطة "المطرية"، سبع ثوان فقط هي المدة بين فتح الباب وإغلاقه، وهي المدة التي يبدأ فيها الناس تدافعهم دخولًا وخروجًا، ثم التكدس داخل العربة، التي بمجرد إغلاق بابها، تعود البائعات إلى الصراخ بصوت عال مكررين العبارات نفسها.
بملابس بسيطة وشعر معقود بغير اهتمام وفم ضاحك ملوث بالحلوى وقفت أمامي طفلة أقل من عشر سنوات وألقت على ركبتي مجموعة من فوط تنظيف الأسطح، تساعد أمها التي كانت تجول في باقي العربة تؤدي المهمة نفسها. أخبرت الصغيرة أنني أريد أشكالًا أخرى، فذهبت إلى آخر العربة ثم عادت ومعها أمها التي أمرتها بتجميع باقي أطقم الفوط من الركاب. وضعت السيدة أمامي حقيبة بلاستيكية كبيرة ممتلئة بالأقمشة، سألتها: لماذا الفتاة ليست في المدرسة الآن؟ قالت: "مدارس إيه احنا حِمل مصاريف مدارس ولا كتب اليومين دول؟ أنا مسجلة اسمها والله يا أستاذة بس أخواتها في إعدادي ودروسهم قاطمة وسطي... يا سعاااااد ياللا ننزل"، صاحت منادية على ابنتها التي انتهت من تجميع الأطقم في حقيبة بلاستيكية كبيرة حملتها وغادرت.
اقرأ أيضًا: الأسعار ورمضان والصوم الكبير.. اختبار مصداقية دولارات "رأس الحكمة"
لا تزال تداعيات الأزمة الاقتصادية تلقي بظلالها على البيوت والأسر المصرية التي تحاول أن تعيد تنظيم أولوياتها في بنود الإنفاق اليومي، في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، الذي لم تقابله زيادة في دخل الفرد، الأمر الذي دفع معظم الأسر المصرية إلى محاولة تقليل مصروفاتها اليومية والاستغناء عن بعض البنود التي تؤثر على ميزانيتهم المالية طوال الشهر.
"يومية" المدرسة مرتب موظف
"رفيدة" ربة منزل وأم لطفلين في المرحلة الابتدائية بمدرسة خاصة، تستيقظ في السادسة صباح كل يوم لتوقظ أبناءها وتحضر لهم الفطور استعدادًا للذهاب إلى المدرسة، تحكي لـ"فكّر تاني" عن الصعوبات التي واجهتها في الشهر الماضي.
"المدرسة بعيد عن البيت حوالي 3 شوارع، ولأن مصاريف باص المدرسة 7000 جنيه للطفل في السنة قررت أنا وزوجي إننا هنشترك في باص خارجي وكانت تكلفته في الترم الأول 2000 جنيه للطفل، وزادت التكلفة في الترم التاني بسبب ارتفاع الأسعار فمقدرناش ندفع".
يعمل زوج "رفيدة" بدوام كامل في شركة سياحة، ويتقاضى شهريًا 10 آلاف جنيه، بينما تتحصل هي من عملها على الإنترنت أقل من نصف هذا المبلغ.
"إيجار البيت والفواتير والجمعيات الخاصة بمصاريف المدرسة بتاكل أغلب المرتب، حاولنا نقلل من مصروفاتنا اليومية علشان نقدر نعيش، لكن اكتشفت إن المدرسة ليها ميزانية يومية مش قليلة؛ العيش والبيض والجبنة والعصير كلها أسعارهم زادت، يعني فطار الولدين بيكلفني في اليوم حوالي 50 جنيه والتوكتوك بيوصلهم المدرسة ويرجعهم بـ30 جنيه ولو فيه تصوير ورق كنشاط في الفصل نقفل ال100 جنيه في اليوم".
وفي الوقت الذي استبدلت فيه "رفيدة" باص المدرسة بـ"توكتوك"، لجأت "سارة" -وهي أم معيلة لثلاثة أطفال- أن توصل أبناءها إلى المدرسة سيرًا على الأقدام. تقول لـ"فكر تاني": "المدرسين الخصوصيين زودوا فلوس الدروس، كان لازم أعيد حساباتي ولقيت أن بند المواصلات كبير فقررت أروح شغلي بالمترو وأوديهم المدرسة مشي والمسافة دي بتاخد نص ساعة، بس طبعًا اللي بوفره فلوس باصرفه من صحتي وصحتهم".
يومان للمدرسة "كفاية"
في الوقت الذي تحاول فيه بعض الأسر إيجاد حلول لأزماتها المادية ليتمكنوا من استكمال العام الدراسي، رأى البعض أن الذهاب يوميًا إلى المدرسة أصبح شكلًا من أشكال الرفاهية، التي لا تتناسب أبدًا مع محدودي الدخل.
"جابر" أب لخمسة أبناء في مراحل عمرية دراسية مختلفة، يعمل كـ"عامل بوفيه" في إحدى المصالح الحكومية. يقول إنه الحل الوحيد أمامه الآن تخفيض عدد الأيام التي يذهب فيها أبناؤه إلى المدرسة خلال الأسبوع، بحيث لا تتعدى اليومين للمرحلة العمرية في الأسبوع الواحد توفيرًا لنفقاتهم اليومية.
"الامتحانات أهم حاجة، لكن لو على المذاكرة فأنا بخليهم يذاكروا في البيت ويراجعوا الحاجات المهمة قبل الامتحان بيوم مع زمايلهم، لكن الكبار بقه لازم ياخدوا دروس فلزمتها إيه المدرسة؟".
التعليم لمن يقدر
يشير الباحث الاقتصادي د. أحمد ذكر الله، في تصريحات صحفية سابقة، إلى نسب غياب كبيرة في المراحل العمرية الثلاث على مدار الشهرين الماضيين، في مجموعات عديدة من المدارس، ذلك لأن الأسر التي ترى ضعف المنظومة التعليمية منذ زمن بدأت بحساب مصروفات أبنائها اليومية في رحلتهم المدرسية، والتي يمكنهم توفيرها بالاستغناء عن الذهاب إلى المدرسة بشكل يومي والتعويض بالدروس والمجموعات الخصوصية.
"الموضوع له أبعاد في غاية الخطورة، لأن كده فيه أجيال جاية في مصر ما بتتعلمش خالص، الدروس بيقدر عليها اللي معاه فلوس، طيب واللي مش معاه؟ أصبح لا بيروح مدرسة ولا بياخد دروس"؛ يضيف "ذكر الله".
وقد شهدت الأسابيع الماضية عدة دعوات موجهة إلى وزارة التربية والتعليم برفع درجات الغياب من المدارس، منها دعوة "فاطمة فتحي" من مؤسسة "تعليم بلا حدود"، والتي ناشدت في بيان إعلامي نُشر على موقع "صدى البلد"، الدكتور رضا حجازي وزير التربية والتعليم، رفع الغياب في المدارس أو تقسيم الأيام على مدار الأسبوع تخفيفًا للعبء المادي والضغط النفسي على أولياء الأمور.
تؤكد "فتحي" أن معدل الإقبال على الذهاب إلى المدرسة مع بداية الفصل الدراسي الثاني انخفض بالفعل بسبب ما يحدث من ارتفاع بالأسعار، وأن ذلك يتطلب مرونة من الوزارة في قراراتها التي يجب أن تراعي الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الشعب المصري.
التسرب من التعليم إلى العمل
على صعيد آخر، يدفع الفقر عدد كبير من الأسر في محافظات مصر المختلفة إلى تحويل أبنائهم من جهة إنفاق إلى مصدر إيراد، بتسريبهم من التعليم إلى العمل.
"صادق" رب أسرة في بداية الأربعين من عمره يعمل ميكانيكي في ورشة سيارات في محافظة الجيزة، يقول لـ"فكر تاني" عن عمل ابنه ذي العشرة أعوام: "كان أهم حاجة عندي ان ابني يعرف يفك الخط، يقرا ويكتب ويحسب، وكان بيروح المدرسة، وبعدين بدأ يطلب فلوس يجيب حلويات زي زمايله وسندوتشات، والحال عالقد مش هينفع ده كل يوم، قال لي هاشتغل علشان يكون معايا فلوس، نزل اشتغل في الورشه ولما بقى معاه فلوس بطل يروح المدرسة خالص.. واهو كله علام".
ولا يختلف وضع الإناث عن الذكور في قضية التسرب من التعليم، بل قد يكون للذكور حظًا أوفر من الفتيات اللاتي يُحرمن من الذهاب إلى المدرسة "لأن منزل الزوجية أولى بها"، هذه الثقافة التي يغذيها انتشار جريمة تزويج القاصرات في العديد من قرى المحافظات، ويحدث هذا إما ليستفيد الأهل بمبلغ "المهر" أو للتخلص من عبء الفتاة ماديًا.
تردي الوضع الاقتصادي يرتد للتعليم
"أبويا خرج أختي من تانية إعدادي وجوّزها ابن عمي اللي بيشتغل في الكويت، وأخد المهر واشترى بيه بضاعة يبيعها، وأنا خرجت من تالتة ابتدائي وبانزل شغل مع أمي في البيوت علشان يكون معانا فلوس أكتر"؛ قالت "مريم" ذات الـ16 ربيعًا لـ"فكر تاني"، عن سبب عملها في المنازل في سنها الصغيرة.
تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والأحصاء، الواردة في بيانه الصادر بتاريخ 20/11/2023، إلى أن نسب التسرب من التعليم في المرحلة الابتدائية ترتفع عند الذكور (0.27%) مقارنة بالإناث (0.18%)، بينما تنعكس هذه الأرقام في المرحلة الإعدادية؛ فترتفع نسبة التسرب من التعليم عند الإناث (1.8%) في مقابل الذكور بنسبة (1.6%).
عن تفاقم الوضع، يؤكد الخبير الاقتصادي شريف الدمرداش، أن تردي الوضع الاقتصادي يرتد بطبيعة الحال إلى التعليم وفرص متلقيه. ويقول: "هذه نتيجة حتمية لارتفاع نفقات المعيشة. لقد أصبحت الأسر الفقيرة مجبرة على تحويل أبنائها إلى مصادر دخل ليعينوهم على نفقات الحياة، خاصة وأن سوق العمل لم يعد مهتمًا بالشهادات فقط بل تحكمة عوامل انتقائية أخرى، والمصري يعلم ذلك جيدًا، وبالتالي يرى الأغلبية من الفئة دون المتوسطة أن المدرسة غير مهمة والشهادة والتعليم لا نفع منه بقدر الاحتكاك مبكرًا بسوق العمل، إنها حلقة متصلة من تدهور النظام التعليمي الحكومي إلى تدهور مستوى المعيشة إلى تضخم في الأسعار".
التسرب من التعليم قضية دولة
تعرف "يونيسف" التسرب من التعليم بأنه عدم التحاق الأطفال بالمدرسة أو تركها دون إكمال المرحلة التعليمية التي يدرس بها بنجاح، سواء كان ذلك برغبة الطفل أو نتيجة لعوامل أخرى.
ويعاني المجتمع المصري من مشكلة التسرب من التعليم منذ عقود طويلة، وتعتبر من أخطر مشكلاته الاجتماعية لما يترتب عليها من ارتفاع معدلات الجهل والبطالة والفقر، بالإضافة إلى ارتفاع نسب الجرائم وبالأخص جرائم العنف مثل التحرش وعمالة الأطفال وتزويج القاصرات وغيرها.
وتعتقد د. صفاء المعداوي، وكيل وزارة التربية والتعليم السابق، أن خفض عدد أيام الدراسة أو رفع الغياب وتخفيف المناهج ليس حلًا جذريًا لأزمة التسرب من التعليم، وترى أن هناك دور كبير يقع على عاتق الأسرة في إدراك مدى أهمية المدرسة في حياة الطالب، وتقول لـ"فكر تاني": "ولي الأمر شايف أن تحصيل أبنائه لن يتأثر بعدم الذهاب إلى المدرسة في ظل وجود المراكز التعليمية المتخصصة والدروس الخصوصية، لازم يكون عند الأسر وعي بدور المدرسة في تنمية مهارات الطالب ونموه العقلي والفكري والجسدي كذلك، لأن في هذا العصر أصبح التحصيل الكلاسيكي غير كاف".
وتؤمن "المعداوي" بضرورة وجود استراتيجية واضحة للنهوض بالمؤسسة التعليمية؛ تشمل إعانة الطالب وذويه لتقليل التكلفة والمصروفات على غير القادرين، كما ترى ضرورة أن تكون هناك آلية مناسبة لمراقبة إتمام الأنشطة التي تنمي مهارات الطالب وترغبه في الذهاب إلى المدرسة.