على مدار أسبوع، تم الترويج لمشروع مدينة رأس الحكمة بالساحل الشمالي على أنه "المُنقذ" للاقتصاد المحلي من أزمة العملة الصعبة، تداولته وسائل الإعلام المحسوبة على السُلطة باعتباره بوابة تُفتح فيُضخ عبرها 22 مليار دولار دفعة واحدة، وقد ساهم وغيره من أنباء عن الأموال القادمة عبر صندوق النقد والدعم الأوروبي حتى قبل أن تدخل البنك المركزي في هبوط ملحوظ للدولار بالسوق السوداء.
اقرأ أيضًا: عن رأس الحكمة.. كيف نُزعت؟
رأس الحكمة.. بيع أم استثمار؟
بين "المزاعم" التي راجت -مع غياب المعلومة الرسمية عن تفاصيل المشروع- عن بيع المدينة، ونفي الحكومة، مع تأكيد رغبتها في تنمية رأس الحكمة بالشراكة مع كيانات عالمية ومحلية ذات قدرة تمويلية عالية، اتفق الجميع على أهمية هذه البقغة الساحلية الفريدة على الأرض المصرية.
يعرف المستثمرون الأجانب، الذين تفاوضهم الدولة حاليًا، أن رأس الحكمة مشروع غير عادي؛ فالشاطئ له سمات جيولوجية مميزة بأجمل منطقة بالساحل الشمالي الغربي، الذي يمتد من الكيلو 34 طريق الإسكندرية /مطروح وحتى الحدود مع ليبيا، بمسافة تمتد خمسمائة كيلو متر، وبعرض يتراوح بين خمسة كيلو مترات وخمسين كيلو مترًا تقريبًا تبعًا لشكل وامتداد مشارف الهضبة الميوسينية وهو عصر جيولوجي يعود لملايين السنوات.
"لماذا يشوب الغموض هذا المشروع؟"؛ يتساءل الدكتور رضا عبدالسلام، أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد والمالية العامة بكلية الحقوق جامعة المنصورة، الذي يرى أن تاريخ منطقة الساحل الشمالي منذ تطويرها مثير للتساؤلات وهذا منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأهم هذه الأسئلة يدور في فلك السعر الذي تم البيع به والمنتفعين من القلة الذين استفادوا من الساحل وغيره من المناطق الساحلية الواعدة بمصر.
على مستوى الجيولوجيا، تتسم "رأس الحكمة" بدرجة انحدار هينة جدًا باتجاه الشاطئ لا تتجاوز 12.5% لمسافة 64 كيلو، كما تتسم المنطقة بسرعة رياح وارتفاع أمواج هادئة إذ لا تتجاوز 1.1 متر في أعلى درجاتها خلال يناير "دون احتساب النُوات"، وتستقر طوال العام عند 90 سنتيمترا مهما كانت قوة الموج. كما تعتبر الأقل في مستوى المد إذ لا تتعدى 20 سنتيمترًا مقابل 70 سنتيمترًا في بورسعيد. وكذلك بالنسبة للجزر بمستوى 6 سنتيمترات لرأس الحكمة مقابل 34 سنتيمترًا في بورسعيد.
ويقول "عبدالسلام"، في حديثه لمنصة "فكر تاني"، إن المنطقة قريبة جدًا من أوروبا وتم التفكير في تطويرها منذ 1975 وأعُيد الحديث عنها مرة أخرى في 2020. لكن مع الأزمة الاقتصادية تم تأجيل المشروع قبل أن يتم الإعلان عن الاستثمارات الجديدة، وهو ينضم لغيره من الحائرين في سؤالهم: هل العقود تملك أم حق انتفاع؟، ويضيف: "لو كان انتقاع طويل الأجل يمكن التفكير فيه، لكن لو كانت بيع أراضي فلماذا لا يتم منحها لمستثمر محلي أو للمصريين العاملين بالخارج الذين لديهم حاليًا مشتريات في عدة دول مثل تركيا والإمارات.. أليس جحا أولى بلحم ثوره؟".
الدولار.. أولوية الدولة حاليًا
لماذا المستثمر الأجنبي؟.. هذا التساؤل بطل رئيسي في حكاية رأس الحكمة، وإن كانت الإجابة بسيطة عند البعض لا تتعدى كلمتي: الدولار السريع، في ظل الفجوة التمويلية الحالية التي تعاني منها الدولة.
فعلى عكس الآراء المطالبة بالمستثمر المحلي، يقول الدكتور صلاح فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، إن الأساس في تطوير رأس الحكمة حاليًا هو منح الأولوية للاستثمار الأجنبي لتوليد موارد دولارية سريعة. فالحكومة لا ترى المدينة من أي زاوية غير أن لديها التزامات كبيرة من أقساط وديون بينها أقساط قصيرة الأجل، وهذه المدينة قد تحل بعضها.
وبحسب بيانات رسمية، فإن إجمالي الالتزامات الخارجية على الاقتصاد المصري خلال العام الحالي بما في ذلك الأقساط وفوائد الديون بقيمة تبلغ نحو 42.3 مليار دولار،
يضيف "فهمي"، لـ"فكر تاني"، أن المشروع يتضمن مكاسب فيما يتعلق بسد الفجوة الدولارية التي تعاني منها الدولة، وكذلك في محاولة القضاء على السوق الموازية والحفاظ على التصنيف الائتماني، هذا بالإضافة إلى أهميتها الجغرافية ومكانها المتفرد الذي يجعلها مثالية لجذب المستثمر الأجنبي. لكنه لا يميل لفكرة مقاسمة الأجنبي في حصة من الأرباح. ويقول كان يمكن أن تكون الأرباح كلها من نصيب الدولة لو تولت هي بنفسها عملية التطوير مثلما حدث في العلمين الجديدة.
ويوضح: "المشروع يتضمن مكاسب كبيرة على مستوى السياحة والتشغيل. لكن لا يجب أن يتم حصره مثلما يحدث في هبوط الدولار بالسوق السوداء". مشيرًا إلى ضرورة تقديمه في شكله الكامل للحكم على مزاياه ومثالبه إن وجدت.
من يُمكنه إدارتها محليًا؟
أن يكون مشروعًا محليًا، هذا ما يطالب به الدكتور رضا عبدالسلام، الذي يقترح إنشاء شركة قابضة تُدار إدارة احترافية، يمكن الاستعانة فيها بأفضل العقول سواء أجنبية أم مصرية، برأسمال 100 مليار دولار؛ منها 60 مليار دولار من المصريين في الخارج، و20 مليار دولار من أجهزة الدولة، و20 مليار دولار للمستثمر الأجنبي مثل الإمارات. "يطلع منها شركات تابعة في القطاع السياحي مثل رأس الحكمة ووجود الدولة يوفر عامل الثقة".
اقرأ أيضًا: هل باعت مصر أجمل مدنها الشاطئية للإمارات؟
إلا أن هذا الطرح لمشروع تكون النسبة الأكبر فيه للمصريين في الخارج يثير أيضًا تساؤلات حول مدى قدرة هذه الفئة من المصريين، بعدما تم جذب مدخراتهم خلال الفترة الأخيرة في كثير من المشروعات غير الإنتاجية كـ"بيت الوطن" و"المقابر" و"السيارات" وغيرها، فضلًا عن جذب قطاع من مدخراتهم عبر تجار السوق السوداء الذين يمنحونهم سعرًا يزيد عن سعر العملة الرسمي 100% تقريبًا.
كيف يفكر المصريون بالخارج؟
بحسب البيانات الرسمية بلغت تحويلات المصريين في الخارج نحو 22.1 مليار دولار، خلال عام 2022-2023، مقابل 31.9 مليار دولار، خلال عام 2021-2022.
لكن "عبدالسلام" يقول إن قطاع من المصريين بالخارج لديهم شركات ورؤوس أموال واستثمارات في مشروعات عقارية بكثير من دول العالم، مضيفًا أنهم يريدون الاستثمار في مشروعات إنتاجية وأن تتم إدارتها بشكل احترافي يضمن أموالهم كما يحدث بدول الخليج، وليس بالطريقة التي اختبروها خلال السنوات الماضية.
ويؤيد هذه الفكرة، جرجس فرج الرئيس التنفيذي لشركة جي إف العقارية، في حديثه لـ"فكر تاني"، إذ يرى منطقة رأس الحكمة لا تقل في أهميتها عن قناة السويس، وأن التعامل معها باعتبارها مشروعًا قوميًا ضرورة لخدمة صالح هذا الشعب والحفاظ على مقدراته.
ويرى أنصار المستثمر المحلي أن مقترحهم يفيد الدولة أيضًا على المستوى الدولاري عبر بيع الوحدات السكنية للأجانب واستغلال قانون منح الجنسية مقابل شراء العقار، فضلًا عن استغلال حالة الجدل التي صاحبت المشروع كدعاية مجانية له.
المصريون في مشروع رأس الحكمة
ووفقا للتسريبات غير المؤكدة رسميًا إلى الآن، فإن عائلة ساويرس متواجدة بالفعل كشريك في التحالف الذي سيتولى إدارة مشروع "رأس الحكمة"، ومعها مجموعة طلعت مصطفى، التي أعلنت في بيان للبورصة الاثنين الماضي، بالفعل عن دراستها مشروع سياحي على مساحة 5.5 ألف فدان في الساحل الشمالي لكن دون ذكر اسم المنطقة بالتحديد.
وبحسب مخطط المدينة، من المقرر إنشاء 11 حيًا موزعة بين عدة مناطق سياحية شاطئية وبيئية ريفية، بينما ستتضمن منطقة الرأس مشروعات سياحية فاخرة، مع قطاعات أخرى تتضمن قرية بدوية وخدمات كالمطاعم والمحال التجارية، بالإضافة إلى إنشاء حوالي 10652 وحدة سكنية، و50 فندقًا سياحيًا ضمن مراحل تطوير المدينة.
هل يستحق المشروع الجدل؟
مع اشتعال حالة الجدل إزاء المشروع، يقول مسؤول بوزارة الإسكان -طلب عدم ذكر اسمه- إن تنمية المنطقة شبيه بالتنمية الذي حدثت بكثير من المدن، وكانت أيضًا بالدخول في شراكات مع رجال الأعمال المحليين وطرح أراضٍ للاستثمار الأجنبي، وفي النهاية العائد سيكون لمصر من حيث جذب المزيد من السياح الأجانب.
ويضيف المصدر أن الاتفاق سيتم توقيعه بين وزارة الإسكان المصرية وتحالف يضم مؤسسات وصناديق إماراتية في مقدمتها شركة إعمار، إلى جانب شركات عالمية ومحلية ويتضمن شراكات متنوعة بنظام الحصة العينية والنقدية، على أن يسدد التحالف نحو 22 مليار دولار كمقدم فقط، مع تسديد باقي المبلغ الذي يجري التفاوض عليه حالًيا خلال ما بين 5 أو7 سنوات.
وتأخذ عقود الشراكات بالحصص العينية عدة صور لكن أصلها ألا تكون الحصة "نقود" وفي حالة مشروع رأس الحكمة من المرجح أن تتخذ شكلًا سبق تطبيقه في عدة مدن بأن تحتسب الأرض كحصة الدولة بالمشروع، بينما يتولى المطور البناء، وأن يكون العائد مقسمًا بنسبة يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.
ومن بين أنواع تلك العقود "حق الانتفاع" باتفاق الدولة مع مستثمر على تطوير منطقة بعينها مع الحصول على حق الانتفاع بها لفترة زمنية طويلة وليس الملكية، على أن تحصل في المقابل على عائد مالي مقدم أو نسبة من ربح المشروع يتوافق مع تكلفة الاستثمار التي تحملها ومن بينها التشغيل والصيانة.
ويضيف المسؤول أن الشركات المصرية حاضرة في كل تفاصيل المشروع سواء التصميم أو الإنشاءات وسيتم تخصيص المساحات الخاصة لها من قبل هيئة المجتمعات العمرانية التي أصبحت لها الولاية على مساحات كبيرة بمنطقة الساحل الشمالي وليس محافظة مطروح.
وقبل ثلاثة أعوام، صدر قرار بإعادة تخصيص عدد من قطع الأراضي بالساحل الشمالي الغربي بإجمالي مساحة 707.23 ألف فدان، لصالح هيئة المجتمعات العمرانية الجديد، بدلًا من محافظة مطروح، في خطوة لاقت تأييدًا من المطورين العقاريين الذين اعتبروا أن الهيئة لديها قدرة أكبر على التعامل معهم بعيدا عن تعقيدات الجهات المحلية.
هل عائد تنمية رأس الحكمة مستدام؟
يقول الدكتور عاطف عبداللطيف، عضو جمعية مستثمرو السياحة بجنوب سيناء، إن العوائد المستقبلية لمدينة رأس الحكمة مقرونة بتصميمها وتطويرها بناءً على فكر جديد تمامًا مغاير لما تم انتهاجه خلال السنوات السابقة بالساحل الشمالي، وذلك بالتخلي عن "القصور" التي لا تعمل سوى الموسم الصيفي، وجعلها مدينة تنعم بالحياة طوال العام.
ويُجمع خبراء السياحة على أن تحقيق رأس الحكمة مستهدفاتها يتطلب أن تكون مختلفة عن "العلمين الجديدة"، التي أصبحت تجذب فئات وشرائح سياحية تعتبر من الفئات الاعلى دخلاً، وفئة رجال الأعمال ذوي الإنفاق العالي الذين افتتحوا أنشطة اقتصادية وتجارية بالمدينة التي حاولت الدولة عبر أنشطة المهرجانات أن تحافظ على نسبة الإشغال بها طوال العام، حتى أنها جعلتها مقصدًا للاجتماعات الصيفية للحكومة.
وتتعامل الحكومة مع المنطقة حاليًا باعتبارها مُكملة لمدينة العلمين الجديدة على أن تخلو من الأبراج وأن يكون أقصى ارتفاع لها 4 أدوار فقط "12 مترًا" مع مساحات مفتوحة وخضراء وساحلية تتراوح بين 85-88% من إجمالي المساحة، أي أن نسبة البناء لن تزيد على 15% في حدها الأقصى.
يضيف عبداللطيف: "لابد أن يكون هناك تنويعًا في درجات ونوعية الفنادق والقرى السياحية، وتوفير مساحات للسياحة الشبابية فهم الفئة الأكثر قدرة على التسويق حاليًا، مع الاهتمام بالسياحة الاستشفائية والعلاجية وتشغيل رحلات بحرية وسياحة يخوت من رأس الحكمة إلى قبرص وإيطاليا واليونان والعكس بالاتفاق مع تلك الدول.
والمعلن حاليًا أن يتضمن مخطط تطوير المدينة إنشاء مينائين اثنين على طراز عالمي، على أن تتم الاستفادة أيضًا من المطارات القريبة في العلمين وبرج العرب ومطروح في استقبال السائحين القادمين سواء برحلات مباشرة أو طائرات "شارتر".
تكلفة الفرصة البديلة
من بين التحفظات التي أثيرت حول المشروع تكلفة الفرصة البديلة، فبعض المساحات الملاصقة للمشروع تشغلها تربة صالحة لزراعة التین والشعیر في مناطق رأس الحكمة شرقًا وغربًا، وكذلك شرق علم الروم، وجنوب الحوالة.
فعلى امتداد السهل الساحلي، تقع العديد من القرى التابعة لمحافظة مطروح مثل (سيدى موسى وفوكة والحكمة وأبوالحجاج وزاوية عاشور ورأس الكنائس، وزاوية عيلة نواح، وزاوية هارون والحوالة والجراولة)، وتقطنها قبائل محلية استوطنت الإقليم أمام مصبات الأودية واستزرعوا المراوح الفيضية (طمي يتكون من تدفق المياه في المناطق الضيقة بين التلال والجبال).
لكن مسؤول الإسكان قال إن المساحات الزراعية لن يتم الإضرار بها، مشيرًا إلى أن مخطط المدينة يتضمن 7 قطاعات بينها قطاعين زراعي وبدوي ويتضمنان تنمية المناطق الزراعية بتخوم العلمين الجديدة ورأس الحكمة وتطوير آليات الزراعة بها، كما تقع المنطقة قرب مشروع الدلتا الجديدة الزراعي الذي يستهدف زراعة 2.2 مليون فدان.
وبحسب بيانات نقابة الزراعيين، فإن محافظة مطروح نجحت في زراعة 50 ألف فدان تين وزيتون خلال 10 سنوات، وزراعة 450 ألف فدان شعير مزروع على مياه الأمطار، فضلاً عن أن 86% من التين و19% من الزيتون المتوفر بالأسواق يأتي من مطروح التي تمتلك أيضًا 800 ألف نخلة مزروعة بها.