في مصر المحروسة، ثمة “أكليشيهات” صحفية وسياسية، ينحتها بهاليل السلطان، أو السلطان ذاته، في مرحلة ما، فتشيع بين العامة، كما لو كانت كتابًا مُنزّلًا، لا يأتيه الباطل من فوق ومن تحت.
من ذلك، مصطلح “ديموقراطية التحسس”، في عهد عبدالناصر، وكان يعني أن الرئيس يحس مطالب الجماهير، فيصدر القرارات التي يرومون من دون أن يفصحوا عنها، فالمهم ألا تنبس الشفاه بحرف، ولِمَّ؟ ما دام الرئيس يتحسسُّ، وربما “يبين زين ويوشوش الودع”.
السادات الذي كان يميل دائمًا إلى الظهور بصورة “الحكيم البليغ”، كانت له مصطلحاته التي يبتكرها، بطريقة فيها الكثير من الكوميديا، منها مثلًا وصفه مظاهرات 18 و19 يناير بانتفاضة الحرامية، وتسميته انفتاحه الذي “جاب الخراب مشمول”، وفق تعبير العبقري الراحل أحمد فؤاد نجم، بالإصلاح الاقتصادي، وإطلاقه عبارة “صديقي هنري كسينجر”، على وزير الخارجية الأمريكي آنذاك.
لكن “بطل الحرب والسلام” لم يكن محظوظًا كسلفه، إذ كانت النزعة اليسارية ذات زخم فوّار، فإذا بالمظاهرات تُسمى حتى الآن بانتفاضة الخبز، والانفتاح “سداح مداح”، في حين وصفه كسينجر ذاته في مذكراته، بالمهرج على مسرح السياسة الدولية.
اقرأ أيضًا:هل يمكن تأجيل حقوق العمال؟
أما المرحلة الراهنة، فليس فيها مصطلحات، يمكن أن تُنتسب إلى رأس السلطة شخصيًا، كما أن النخبة أو الأذرع الإعلامية ليسوا خلاقين مبدعين، بل هم كعساكر الأمن المركزي، يُنفّذون الأوامر بغير عقل، وإن كانوا لا يدخرون جهدًا، في محاولة الابتكار والتجويد، فيحققون نجاحًا متميزًا في الفشل.
على أن ذلك لم يمنع ظهور مصطلحات “رسمية” تتصل بمعاش الناس، فإذا برفع الأسعار على المواطن، الذي كان محدود الدخل، فصار “ممصوص الدم”، يغدو “تحريك الأسعار”، والأنكى أن هذا التحريك يستهدف مصلحته.
نعم.. إن كثرة الفلوس قد تحدو بالناس إلى المهالك، فقد يأكلون لحمًا طريًا مما يشتهون، واللحوم ترفع كوليسترول الدم، ما يسبب انسداد الشرايين، والحكومة تخاف علينا، لكننا لا نفهم “العلم الحقيقي”.
والمثير أن هذا التحريك قد يغدو، ليس صبًا في مصلحة المواطن فحسب، بل من الإنجازات المسكوت عنها، والتي ينبغي أن يذكرها الإعلام لكونها من “محاسن المرحلة”، لا محاسن الأموات، وإنَّا لله وإنا إليه راجعون.
ما إن دخل علينا العام الجديد، برجله الشمال غالبًا، حتى باغتتنا قرارات التحريك المباركة في خدمات الكهرباء والمترو والإنترنت، وسرعان ما بررتها الحكومة الرشيدة، على لسان رئيسها لا فُضّ فوه، بأن الموازنة تحمَّلت خلال العامين الماضيين الكثير من الضغوط، وآن الأوان لأن يتحمل المواطن بدوره.
وكان الثلث الأخير من العام الفائت، قد شهد أزمات نقص السجائر التي لا تزال تُباع بمزاج التجار، والسكر الذي “ذاب” من الأسواق، ليبلغ سعر الكيلوجرام خمسين جنيهًا، قبل أن يتوّفر فجأة بسبعة وعشرين جنيهًا، ولا يبدو أنه سيتراجع، هذا ناهيك عن مؤشرات التضخم إجمالًا، التي جعلت اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك والألبان والبيض والفول والعدس والبصل والثوم والخضروات إلى آخره، حلمًا من خيالٍ فهوى.
بعبارة أخرى، إن المواطن الذي داخ دوخًا جراء طوفان الغلاء، وتحمّل صابرًا محتسبًا رفع أسعار كل حاجة، من حاجاته، لم يؤدِ دوره في نظر الحكومة، والظاهر أنها ترى أن الدلع أفسده، وعليه إذن أن يخشوشن لأن النعم زائلة، والأهم من الخبز، أن نبني الدولة، والمعلوم بداهةً أن البناء يتطلب حديد تسليح، وقد بلغ سعر الطن نحو خمسين ألفًا من الجنيهات، و”أنا ما عنديش عشان أديك”.
وبما إن الحكومة ترى المواطن كذلك، فالأرجح أن هوجة الغلاء لن تتوقف، وعلينا أن نستقبل بالترحاب والحبور، والسعادة والسرور، نوبات غلاء أخرى، بغير امتعاضِ واعتراض، فذلك قد يقذف بصاحبه في غيابات سجن حديث، من السجون الفاخرة التي شُيدت بسخاء حاتمي، خلال السنوات العشر الماضية، وتعد بدورها من إنجازات المرحلة.
بعيدًا عن الهزل، يبدو أن صناع القرار، في أبراج عاجية، لا يسمعون أنّات الناس، ولا تبلغهم صرخاتهم، والأرجح أن أحدًا لم يفكر في مراجعة أولويات الإنفاق، التي أوصلت الدولار إلى هذه الذروة السعرية، وهذا الشح، إلى درجة أن سعره في السوق السوداء، يبلغ حوالي ضعف سعره الرسمي، إلا إذا وجدت سبيلًا لشرائه من الإعلامي الفلتة، والاقتصادي الفذ، والعبقري الذي لا يفْري فَرِيَّـه، يوسف الحسيني، الذي بشّر بأن “الأخضر” سيكون أوفر من الملح في الملّاحات، ولا نقول أرخص من البصل، الذي كانت تُضرب به الأمثال، قبل أن يبزَّ التفاح الأمريكي غلاءً.
استمرار السياسات ذاتها، وعدم إيجاد وسائل لتشجيع الاستثمارات، ورفع أسعار الخدمات، وزيادة الضرائب التي تخرج من رحم الضرائب، في إطار ما يمكن أن نسميه سياسة “الشعب مصدر الدخل”، التي يؤكدها تقرير لوزارة المالية، إذ يكشف عن أن حصيلة الضرائب ساهمت بنسبة 85% من إجمالي الإيرادات، من يوليو حتى سبتمبر العام المنصرم، يعني ببساطة ومن دون فذلكة، أن الغد لا يحمل بشائر انفراج، بعد أن “طفح الناس الدم”.
إن ما تعوزه البطون الجائعة يُحرّم، وينبغي أن يكون محرّمًا على الإنشاءات الخرسانية، فالحجر ليس أهم من البشر، وأي إصلاح اقتصادي يؤدي إلى “تسويد العيشة”، هو محض تعذيب وتنكيل يجب وقفهما على الفور.
على أن جذب الاستثمارات، يبدو صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا، بالنظر إلى تراجع الشفافية من جهة، ومناخ الحريات الخانق من جهة أخرى، وليس اكتشافًا لم يأتِ به الأوائلُ، أن أي إصلاح اقتصادي، يتطلب أولًا إصلاحًا سياسيًا، وهو الأمر الذي تتململ السلطة من مجرد الحديث بشأنه، إلى درجة أن ملف سجناء الرأي، يسير “للخلف دُرّ”، رغم الوعود بحلحلته قبيل جلسات “الكلام” في الحوار الوطني.
وعلى ذكر الكلام، فإن طبيعة الأشياء تقضي بأن الناس تحت وطأة الحاجة، سيتكلمون وسينتقدون وقد ينزلقون إلى الحدة اللفظية، والمنطقي أن وسائل التواصل على الشبكة العنقودية، ستمثل متنفسًا لتفريغ الغضب، أو “الفضفضة” فهل ستلاحقهم الأجهزة الأمنية بقائمة التهم المبسترة على غرار الانتماء لجماعة محظورة ونشر أخبار كاذبة؟
سيكون معنى ذلك أن الدولة التي أسفرت سياساتها الاقتصادية عن تجويع الناس، تحبسهم لأن الجوع “الكافر”، قد دفعهم إلى الصراخ، ألمًا أو غضبًا.
الارتكاز إلى أن تشديد القبضة الأمنية، وترهيب الناس سيكفل ألا يكون لهم حس ولا خبر، والرهان على أن حفظ الأمن سيتأتى بوسائل خشنة، رهان خاسر قولًا واحدًا، والذين راهنوا عليه من قبل، لم يحرزوا أي مكاسب، ذلك أن الصمت الطويل، والخوف الثقيل، أشبه ما يكونا بعود ثقاب مشتعل بجانب عبوة بنزين، وما من ضمانات لعدم اشتعال النار.
الحل واضح، وخارطة الطريق للخروج من “حالة العوز”، ليست ملتبسة أو ضبابية، وما ينقص هو الإرادة لتغيير قائمة الأولويات، بما يعزز التوجه نحو اقتصاد حر، لا تنافس فيه الدولة القطاع الخاص، مع التسامح مع الآراء المعارضة، ليس كمنحة أو منَّة، إنما كضرورة حتمية، بل والاستماع إلى الأصوات التي قد تعارض، لكن ولاءها لهذا الوطن لا يقبل التشكيك فيه.
صفوة القول، إن الناس غاضبون، وإن بدوا هادئين، لكنهم قد يرضون فيسكن الغضب، إذا ما لمسوا تحسنًا ولو طفيفًا في مجالي الاقتصاد والحريات، وفي الصدارة من ذلك حرية التعبير، التي بلغت أسفل سافلين بذريعة الحرب على الإرهاب، فإذا بأصحاب الرأي الآخر في إرهاب، إذ ماذا يفعل الإرهاب أكثر من أنه يجعلك تخشى التعبير عن رأيك؟ كما يقرر أديبنا الكبير يوسف إدريس.
المرحلة لنخبة التكنوقراط من أهل الخبرة، لا أهل الثقة، وليست كذلك للصوت الواحد، ولا لـ”بطّلوا هري يا مصريين”.. والمؤكد أن مصر لا تعاني عجزًا في الخبراء، وما من شكٍ في أنهم مستعدون للتشمير عن سواعدهم لخدمة الوطن، مهما اختلفوا مع نظام الحكم.
أية خارطة طريق أخرى للمستقبل، قد تُفضي بالبلاد والعباد، إلى متاهة في هذا الوقت الحرج، حيث تشتعل الجبهة الشرقية، جراء الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة، وما يطنطن به قادة الاحتلال بشأن مخططات تهجير الغزويين إلى سيناء، وفي الوقت الذي تتبعثر فيه أوراق السودان جنوبًا، وسط دعوات مختّلة لتسليح المدنيين، وكذا في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة فشل مفاوضات سد النهضة، جراء التعنت الأثيوبي، ما يفتح الاحتمالات على اضطرابات غير معروفة الأبعاد.
إن اللحظة الراهنة تتطلب حتميًا، وعلى الفور، رأب صدوع الجبهة الداخلية، فالإصلاح السياسي والاقتصادي الآن.. قبل ألا يكون هناك آن.

رائع كالعاده