فوضى قوانين الإيجار وصناعة القانون

تناولنا في مقال سابق مشكلة قوانين الإيجار في مصر، وكيف غيرت الدولة توجهاتها في قضية السكن منذ الحرب العالمية الأولي، ثم عادت لتغيرها من جديد منذ التسعينات، وكيف خلقت الدولة حالة الفوضى تلك؟ يمكن إجابة السؤال برصد تطور قوانين الإيجار بمصر منذ أكثر من قرن، ويوجد بالفعل مجهود بحثي مهم في هذا السياق، لكنني أعتقد أن السؤال الأهم، والذي يكشف عن السبب الجوهري لمشكلات قوانين إيجار المساكن في مصر، هو كيف يصنع القانون؟ ولا أقصد بالطبع العملية الإجرائية؛ أي رحلة صدور القانون بداية من المقترح إلى مشروع القانون، ومناقشته حتى صدوره من البرلمان.

أقصد بصناعة القانون البنية الفكرية، والسياسية التي علي أساسها يتم تحديد الغاية من قانون معين والاسس التي تحكم صياغته، والمصالح التي يحميها.

القانون كأحد فروع علم الاجتماع، يبدأ من تبني أحدي نظرتين أساسيتين هما الفردية، والاجتماعية، الأولي تنطلق من الفرد لتصل للمجتمع، أي أن مصلحة الفرد هي التي تحقق مصلحة المجتمع، وهي النظرية التي قامت عليها الرأسمالية، وشعارها الشهير (دعه يعمل دعه يمر)، أما الثانية فترى أن مصلحة المجتمع هي التي تحقق مصلحة الفرد.

النظريتان متناقضتان بالطبع، ولمن شاهد الفلم العظيم “العقل الجميل” الذي حاز على الأوسكار 2001. بأهم مشاهد الفيلم، حيث يجلس البطل وسط زملائه ببار، ويفكر في مشكلته في دراسة الرياضيات، يلفت نظرهم وجود فتاة جميلة تجلس بالقرب منهم، ودار الحوار حول كيفية الوصول لها، في تلك اللحظة التي تبدو عادية جدا، يكتشف البطل أن فرصة كل واحد منهم للوصول لها أقل كثيرًا من فرصتهم مجتمعين، وهنا اكتشف خطأ المفكر “أدم سميث” الذي يعد مؤسس الرأسمالية، وكان يرى أن مصلحة الفرد تحقق مصلحة الاغلبية، واكتشف البطل نظريته الجديدة أن المصلحة الجماعية هي التي تحقق المصلحة الفردية، واستطاع إثبات ذلك رياضيًا.

يجسد هذا المشهد الفرق الجوهري بين الرؤى المتعارضة لمفهوم المصلحة، وينطبق ذلك تمامًا على صناعة القانون، فالدولة المصرية انحازت في قوانين الإيجار لمفهوم المصلحة من منظور مصلحة المجتمع منذ 1921 حتى 1996. فتوفير السكن بأمان للجميع مصلحة أهم من مصلحة صاحب العقار، واستقرار السكان أهم من القيمة الإيجاري، وصيغت قوانين الإيجار بمعايير واضحة مثل حساب قيمة مقابل الإيجار بحسب تكلفة بناء العقار، والحد من أسباب الإخلاء، واتسق القانون مع الرؤية الشاملة للدولة منذ الخمسينات في قضية السكن، فكانت الخطط الدورية للدولة تتضمن بناء المحافظات المختلفة لمساكن تخصص لفئات محددة منها الزواج الحديث، وغير القادرين، وتخصيص نسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، وكانت تلك المساكن تباع بسعر التكلفة، وبأقساط على مدد زمنية طويلة، وخلال تلك المرحلة كانت مشكلة السكن محدودة بدرجة كبيرة، وكانت الأسر قادرة نسبيًا على الحصول على سكن يناسب قدرتها المادية.

تلك المرجلة انتهت تقريبًا منذ التسعينات، فالدولة تخلت عن الرؤية الاجتماعية، وتبنت تدريجيًا الرؤية الفردية، وأن حاولت التمهيد لذلك لفترة طويلة نسبيًا في قضية السكن بالتحديد خشية ردود فعل واسعة. مهدت الدولة لذلك عبر الإعلام، ومفكريها لتروج لكون القانون المدني هو الأساس، وذهب البعض أن قوانين الإيجار خارج القانون المدني، مخالفة دينية، فالشريعة الإسلامية هي ما ورد بالقانون المدني، وحتى الآن يتبني كثير من رجال الدين تلك الفكرة، رغم أن القانون المدني المصري مستمد من القانون الفرنسي، ويعود أصله للقانون الروماني.

تخلت الدولة تدريجيًا عن دورها في توفير المساكن، فتوقفت المحافظات تدريجيًا عن البناء، وتولت وزارة الاسكان تنفيذ مشاريع محدودة مفترض أن تخصص لمحدودي الدخل، لكن واقعيًا تحولت الدولة إلى مقاول، وأصبحت المساكن التي تبنيها غالية الثمن جدًا، وتقترب كثيرًا من أسعار مساكن القطاع الخاص.

هذا التحول الكبير في الرؤية انعكس علي صناعة القانون، فلم يعد الاستقرار الاجتماعي هو الهدف، بل تمكين الرأسمال الخاص من تحقيق أرباح عالية، تلك الأرباح المفترض أن توفر في نهاية المطاف السكن المناسب لكل الطبقات، لكن هذا لم يحدث، وأعتقد أنه لن يحدث، ليس لتغير الرؤية فقط، بل لغياب أي تقييم موضوعي لقضية السكن، وتركها لفوضى السوق حتى أصبح الحصول على سكن صغير المساحة، حلم بعيد المنال للغالبية العظمي من الشعب.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة