“كنت أسقف وجالي شاب وأمه ست عجوزة مش قادرة تمشي وصممت تطلع سلالم وتوصلي عشان تحكي بنفسها مشكلة ابنها مع زوجته. وقت طويل أمه بتحكي والشاب متكلمش ولما خلصت، قولتله المشكلة فيك يابني أنت متعلق بأمك، وكل تفاصيل حياتك معاها.. وهنا نطق الشاب: هي مراتي جاتلك؟”
هذه القصة رواها الأنبا بولا مطران طنطا، في برنامج حواري على قناة مي سات التابعة للكنيسة، وهي أيضًا القصة التي بدأ بها كتابه عن أزمة العلاقات بين الزوج والزوجة في المسيحية بعنوان “ابن أمه” الذي يهدف لتوعية الشباب المقبلين على الزواج من ضرورة “الفطام” من أمهاتهم والاستقلال وتنمية علاقتهم مع زوجاتهم، بحسب الكتاب.
يكمل مطران طنطا قصته:” الأم طلبت تصريح بالزواج الثاني لابنها، ولكني أخبرته عدم إمكانية ذلك وعليه من تغيير نفسه. لم يهتم بكلامي ومرت سنين وجاني الشاب في ملامح أكبر يفكرني بنفسه، وراح اتجوز في لبنان لكن الجوازة فشلت. وقولتله أنت ابن أمك. وراجعلي يجدد طلبه بتصريح تاني بالجواز قولتله يعني أنت فشلت مرتين وبتطلب جوازة تالتة وهتفشل قالي: لأ مش هتفشل.. لأن أمي ماتت!”.
المطران الذي ترأس المجلس الإكليريكي (المجلس المسؤول عن فحص مشكلات الزواج والطلاق في الكنيسة) لما يقارب 30 عامًا، يُرجِع أزمات الزواج مؤخرًا إلى مشكلة “ارتباط” الشاب المسيحي بوالدته وذلك بسبب طريقة الحياة التي يعيش بها، حتى أنه انتقد “انغلاق” الشباب المسيحي على بعضهم البعض داخل “جيتوهات” مسيحية فقط.
يقول الأنبا بولا: يحفظ الذكور الآيات الخاصة بعلاقة الرجل والمرأة ومنها “أن يترك الفرد أباه وأمه ويلتصق بامرأته”، ولكنه يعود ويؤكد “أن جميع الذكور ممن تعلقوا بأمهاتهم يحفظون هذه الآيات عن ظهر قلب ولكن هناك أزمة يجب الاعتراف بها وهي انغلاق العائلات المسيحية على نفسها، بداية من التعليم، الشاب يدرس في مدارس مسيحية وأصدقائه من محيطه الكنسي حتى رحلاته واختيار الجامعة وشريكة الحياة وحتى المسكن بإشراف من الكنيسة في بيئة منغلقة”
ينهي الأنبا بولا قصته:” الاختلاط بالعالم المحيط والخبرات منعدمة ما يدفعهم للتعلق المرضي بأمهاتهم”.

أزمة “ابن أمه” حاضرة بالفعل
في بداية التعرف على زوجها، اعتقدت رانيا الفتاة الريفية متوسطة التعليم – لم تتجاوز 18 عامًا – أنه سينقلها معه للقاهرة لتتخلص حينها من سطوة والدتها حادة الطباع، ولكنها اكتشفت الفخ سريعًا، فالعريس (32 عامًا) الذي قبلته من المرة الأولى “كمُخلص” لا يزورها إلا – والكلام لها – :” مع ماما اللي بتتكلم وهو ساكت ولو ماما روحت وانتظر معاها بتديله مصروفه يركب مواصلات”. تحكي رانيا :” كنت صغيرة مبسوطة بالخطوبة وحياة المدينة اللي بختبرها للمرة الأولى ولكن يوم الخطوبة نفسه نزلنا نتصور، وهناك وقف زي الجماد مكانه مدفعش قيمة التصوير وسابني أدفع مش بخل منه هو قلة حيلة، لأن ماما مش سيباله فلوس”
رانيا بعد زواج “قاسي” دام 23 عامًا، على الورق فقط، كان نتاجه شابة وفتاة في مرحلة الجامعة، اضطرها ضعف الزوج للانفصال عنه واشتغلت كعاملة نظافة بمستشفى خاص، تحكي: “من يوم الصباحية أمه اتحكمت في نومي وأكلي.. وبهزار تعلق إني بنام وباكل كتير وجاية عليها بخسارة، في الفترة دي عرفت إني حامل ودي تغيرات المرحلة حسيت بالقهر خصوصًا إن جوزي كان بيقف قدامها زي الطفل حتي لما أخوه إتريق علي إني فلاحة وجاهلة مخدش أي موقف”.
أرقام وإحصائيات
لاتوجد إحصائيات رسمية حول عدد قضايا الطلاق والأحوال الشخصية للمسيحيين نظراً لرفض الدولة إصدار بيانات على أساس ديني. ورغم مناشدات عديدة لضحايا لائحة عام 1938 التي أُلغيت في عهد الراحل البابا شنودة الثالث والتي كانت تنص على 9 أسباب للطلاق، واختزلها البابا شنودة في علة الزنا فقط. المشكلة لم تجد حلًا حتى اليوم.
بلغت الاحتقانات ذروتها في نهاية عهد البابا الراحل، حتى أن عدد من المتضررين تظاهروا داخل الكاتدرائية في يوليو 2011 ما اضطر القائمين على تأمين الكاتدرائية بإطلاق كلاب الحراسة عليهم، الأمر تسبب في مرارة لدى المهتمين بالملف، ناهيك عن صورة المقر البابوي حينها أمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
يؤكد المستشار بيتر النجار المحامي المتخصص في الأحوال الشخصية، أنه لا يوجد إحصاء واضح بعدد وتصنيفات قضايا الأقباط بالمحاكم. ويضيف لـ “فكر تاني” أن العدد التقديري قد يتجاوز المليون.
بالعودة إلى رانيا، تقول “اتهمتني حماتي بسرقتها وحرضت ابنها ضربني بالحزام وأنا حامل ورماني في نص الليل بملابس النوم. طلبت شقة برا بيت العيلة ولما اتدخلت الكنيسة سكنت في شقة ملك أمه بعيد عن البيت كانت شبه العشة ورضيت بيها. وكانت بمكالمة تحرضه وألاقي كلامه متغير. شهور وأمه اشترت شقة فوق شقتي وجوزي بياكل عندها يرجع من الشغل عليها نسي مراته وولاده حتي مصروف البيت أصبح أقل رغم إن الولاد بيكبروا وطلباتهم بتكتر، حتي لو إبني تعب في نص الليل مكنتش بعرف أوصله. وفي مرة طلعت أخبط أستنجد بيه ينقذ إبنه، اتكلمت معايا وكأني بخطفه من حضنها، ولما دخلت أبونا في الكنيسة قالي مفيش فايدة جوزك مش هيتغير، متعلق بأمه وإنتي قبلتيه كدا يبقي تقبلي أو تنفصلي وطرح الانفصال لأن أمه رافضة وجودي أنا وولاده في البيت. وانتهي الأمر إننا اتطردنا في الشارع، صممت أقف من تاني اشتغلت وعافرت ومرت سنين مبيفكرش يسأل عن ولاده اللي كانوا أطفال. دلوقتي إتخرجوا وبيشتغلوا وهو لسة في حضن أمه”
في عام 2014، طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية بضرورة إصدار قانون للأحوال الشخصية للأقباط، وعلى الفور أرسلت وزارة العدل آنذاك مسودة لمشروع قانون إلي الكنائس الثلاثة للتشاور وإبداء الرأي فيها، وحتى اليوم لا أحد يعلم مصير هذا المشروع.
“ظاهرة التعلق بالأم خاصة بعد الزواج، قد تحدث للزوج أو الزوجة، لكنها بشكل عام تحدث أكثر للأزواج – بما تسمى عقدة أوديب- لدرجة الزوج يبحث عن زوجة مثل أمه في كل شئ طريقة حياتها وملابسها وطبخها وبعضهم يحرص علي الإقامة بالقرب من منزل الأم، أويجبر زوجته علي خدمة والدته، حتي إن البعض قد ينفصل بسبب تمسكه بخدمة أمه، والبعض قد يرفض الزواج من الأساس حتي لا يبتعد عن والدته” كما يقول دكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية موضحاً لـ”فكر تاني أن الأقليات عادة يميلون للعزلة وبالتالي هم أكثر ترابطاً وانغلاقاً علي ذواتهم وهو مايقلل من وعيهم واكتسابهم خبرات حياتية أوسع، سواء كانوا أقباط أو مرأة أو أقليات عرقية.
عن تدخلات الأهل
أما ياسمين “اسم مستعار” وتعمل صحفية تحكي عن خطيبها السابق “خدعني بقناع الاستقلال وإنه ساكن بعيد عن أمه ومعتمد علي نفسه” تقول ياسمين لـ “فكر تاني” :”عرفت إنه مديون وظروفه صعبة وافقت لإنه مستقل وأمه متخلية عنه، بعد وقت ابتدت تنصب شباكها علي إبنها بطريقة خطافة الرجالة.. اتغير معايا وظهر منه التطلب المادي والطمع ومحاولته التوقيع بيني وبين أهلي بحجة إنه خايف علي فلوسي منهم وبعدين يطلب مني أتعلم أعمل محشي وأنا ولاهو بناكله أساسا.. ولما سألته قال أصل أمي بتحبه. يعني الأكلة اللي طلبها مني عشان ماما وأتفاجئ أن كل كلمة بينا معاها.. كل خلاف حتي لما نخرج سوا كانت تتصل بيا وتقولي إنتي أخرتيه برا خليه يرجع عشان ينام.. وتعلق علي لبسي ووزني ومظهري وتسألني باكل كتير ولاقليل وعندي فلوس أد إيه. عندي دهب؟. وصلت بيها البجاحة تفتش في شنطتي قدامه عشان تشوف عندي دهب وتسألني عن ميراثي من أبويا وهورث من أمي دهب أد إيه.. هل يتخيل حد أن كل دا يحصل قدام خطيبي مدعي الرجولة وهو مش قادر يرفع عينه فيها ولا يوقفها عند حدها لدرجة قالي مرة لو أمي خبطت عليكي وإنتي بتغيري هدومك متزعليهاش وخليها تدخل، الألعن بقي طول الوقت هاتي لماما هدايا إتصلي بماما روحي لماما وكأني مخطوبة لماما مش لراجل وفي النهاية مامته ساومتني علي مرتبي ياخده بالكامل أو أسيبه وأمرتني أفسخ”.
الدولة أم الكنيسة؟

المحامية عزة سليمان رئيس مجلس أمناء مؤسسة قضايا المرأة تقول:”إن الدولة لم تتحرك بشكل واضح وملموس بشأن قانون الأحوال الشخصية للأقباط.. وحتى الآن لم نعرف أين مصيره وإلي أين وصل ونعاني من حالة تكتم شديدة.. حتي إن مسودة المشروع لم تُعرض علي أي مؤسسة أهلية ولم نشارك ولو في النقاشات رغم إننا نعمل وسط تلك الملفات ومطلعين علي جانب من الأزمة”
تضيف سليمان لـ”فكر تاني”إن المؤسسة شاركت في 2008 في أيام رئاسة البابا شنودة، مع الكنائس الأخرى بطاولة نقاشات بدعوة من المتنيح الأنبا بيشوي مطران دمياط، بشأن المطالب في قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين ولكن لم تكن النقاشات جادة، حتي إن قبل عهد الراحل البابا شنودة كان يوجد ما يسمى بالمجلس الملي ويضم قيادات مدنية علمانية تسعى للنقاش بشأن لائحة 38 باحثين في ثغراتها حتي تتوسع في أسباب الطلاق عن الـ”9″ أسباب الموجودة.
لائحة عام 1938 للأحوال الشخصية والتي كانت تأخذ بها المحاكم حتى عام 2008، تتضمن 179 مادة شملت كل شئون الأحوال الشخصية للمسيحي الأرثوذكسي، واشتملت اللائحة على 8 أبواب، منها ما يتعلق بحق الحصول على الطلاق:
مادة 50- يجوز لكل من الزوجين أن يطلب الطلاق لعلة الزنا.
مادة 51- إذا خرج أحد الزوجين عن الدين المسيحي وانقطع الأمل من رجوعه إليه جاز الطلاق بناء على طلب الزوج الآخر.
مادة 52- إذا غاب أحد الزوجين خمس سنوات متوالية بحيث لا يعلم مقره ولا تعلم حياته من وفاته وصدر حكم بإثبات غيبته جاز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق.
مادة 53- الحكم على أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس لمدة سبع سنوات فأكثر يسوغ للزوج الآخر طلب الطلاق.
مادة 54- إذا أصيب أحد الزوجين بجنون مطبق أو بمرض معدٍ يُخشى منه على سلامة الآخر يجوز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق إذا كان قد مضى ثلاث سنوات على الجنون أو المرض ويثبت أنه غير قابل للشفاء.
ويجوز أيضًا للزوجة أن تطلب الطلاق لإصابة زوجها بمرض العنة إذا مضى على إصابته ثلاث سنوات وثبت أنه غير قابل للشفاء وكانت الزوجه في سن يُخشى عليها من الفتنة.
مادة 55- إذا أعتدى أحد الزوجين على حياة الآخر أو اعتاد إيذاءه جسميًا بما يعرض صحته للخطر جاز للزوج المجني عليه أن يطلب الطلاق.
مادة 56- إذا ساء سلوك أحد الزوجين وفسدت أخلاقه وانغمس في حمأة الرزيلة ولم يجد في إصلاحه توبيخ الرئيس الديني ونصائحه فللزوج الآخر أن يطلب الطلاق.
مادة 57- يجوز أيضًا طلب الطلاق إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل بواجباته نحوه إخلالاً جسيمًا مما أدى إلى استحكام النفور بينهما وانتهى الأمر بافتراقهما عن بعضهما واستمرت الفرقة ثلاث سنوات متوالية.
مادة 58- كذلك يجوز الطلاق إذا ترهبن الزوجان أوترهبن أحدهما برضاء الآخر.
تصف سليمان تطورات مشهد الأحوال الشخصية قبل رحيل البابا شنودة :” لكن البابا الراحل غير تركيبة المجلس، وافقوا على مطالب البابا بقصر الطلاق على علة الزنا فقط، وصلوا بنا إلي قرارات مجحفة، ما تسبب في دفع البعض للسقوط فريسة تغيير الملة وبعضها كانت شهادات مزيفة، ثم أغلقوا هذا المتنفس فاضطر البعض للسفر إلى لبنان وقبرص للتحول لطائفة أخرى، وأصلا يتم رفض هذه الوثائق في مصر حتي اضطر البعض للتحول للإسلام وهنا تختفي بعض النساء بدعوي اختطافها وتعود مجدداً دون القبض علي الخاطفين ويخرج بعض المتشددين للمطالبة بالأخت “فلانة” وتشتعل النار أكثر ببث مقاطع للسيدة وهي تشهر إسلامها ولغط كبير. وكأن النساء هن ملك للكنيسة ولاتمتلك الدولة القدرة علي إصدار قانون يحميهن من هذا الاستغلال.”
الأزمة أكبر من “فطام” الزوج
ترفض سليمان ما يدعيه الأنبا بولا في كتابه “ابن أمه” الذي يقول فيه إن مشاكل الأحوال الشخصية تتعلق بتدخلات الأهل أو تعلق الأزواج بأمهاتهم معتبرة هذا نوع من التقليل والتسخيف من معاناة فئة كبيرة لاتستطيع إنهاء علاقة الزواج والحصول علي الطلاق وحقها الإنساني في الحياة بشكل طبيعي بعضهم في عمر الزهور ليُفني شبابه في المعاناة، لأن الكنيسة ببساطة لاتعترف بالمشكلة وهي غياب قوانين منظمة لعلاقات الزواج والطلاق والتمكين وغيرها للمسيحيين لحماية كل من قد يقع في عنف.

بينما يري كمال زاخر الكاتب والمفكر القبطي إن الأسرة المسيحية جزء من هذا المجتمع يحمل نفس صفاته وأمراضه، الأجيال الجديدة تأثرت بتراجع التعليم والإعلام والدراما. كما أن الإبن عادة مايكون مطارد من فكرة عدم الوفاء بأبويه والعقوق وتلك الجمل القاسية التي قد تدفعه للتقصير في حق الأسرة الناشئة بينما في الغرب لاتوجد تلك العقدة نظرًا لمبدأ الاستقلال من عمر 16 سنة.
ولفت زاخر لـ”فكر تاني” إلي ان ما أنتجه الأنبا بولا من كتيب هو إدانة لمنظومة التعليم الكنسي وفي ظل مناخ طارد للقراءة من سيقرأه وكم شخص سمع عن هذا الإصدار؟
يتساءل زاخر: “هل هكذا عالجنا المشكلة إن سلمنا إنها أساس الأزمة؟ وهنا يجب التشخيص السليم للعلاج الأنسب. ويشير زاخر إلى أهمية مراجعة كل ما يخص مدارس الأحد وأسقفية الشباب والخدمات والتعليم والمركز الثقافي وأدوارهم جميعًا، مع الأخذ في الاعتبار أن المشورة نشاط ترفيهي لاينتج عنه أي توعية حقيقية لأنها خاضعة لقرارات ورؤية كل أسقف.
يقول زاخر: “نشاهد عدد لاحصر له من الرسامات لأساقفة وقساوسة دون تهيئة حقيقية للتعليم ونجدهم جميعًا مسخ مكررين أشبه بـ “الفراخ البيضا”.
