سمعت بتأمل قبل أيام تصريح للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش، يقول فيه إن عدد الضحايا المدنيين في الحرب علي غزة غير مسبوق مقارنة بجميع النزاعات التي اندلعت منذ استلام مهام منصبه في عام 2017. والمتأمل لهذا التصريح يجده خطيرًا لأنه يكرس لغياب أي حماية للمدنيين في حرب قائمة بالفعل. كما يرسخ لفكرة يرددها البعض بأن الادعاء بتطبيق القانون الإنساني في غزة مجرد مُزحة. لكن الأخطر من ذلك هو الانحياز الذي أبداه الغرب منذ بداية هذه الحرب مُسُتندين إلي الرواية الإسرائيلية عن الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر 2023. والضوء الأخضر الذي منحوه إياها لارتكاب جرائم حرب مٌحتملة.
لكن السؤال الذي توقفت عنده، هل تخاطر الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بإعلان وفاة القانون الإنساني؟ تبدو الإجابة علي السؤال مٌركبة ولا يمكن اختصارها في جملة أو اثنين، فالمتابع لتصريحات القادة الأوربيين يجدهم يٌطالبون إسرائيل بضرورة احترام القانون الإنساني، لكنهم يدركون أن إسرائيل لن تفعل ذلك.
اقرأ أيضًا:العرب وفلسطين.. كيف يخرج الجميع منتصرًا من حرب غزة؟
وقد حذر جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوربي من أن الحصار على غزة يتعارض مع القانون الدولي لكنه في الوقت نفسه يدافع عن حق إسرائيل المٌطلق في الدفاع عن نفسهًا، إن هذا التناقض الذي يبدو في الرؤية الغربية للحرب على غزة يُفسر المأزق الذي تعيشه هذه الدول خاصة مع التظاهرات الشعبية في الدول الغربية التي ترى تناقض المواقف الغربية في غزة مقارنة بمواقفها إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، وباي النزاعات في اليمن وسوريا وليبيا.
ولمن يختلط عليه الأمر، فالقانون الإنساني هو أحدث فروع القانون الدولي، ويتمثل في اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1977 وتلك الاتفاقيات الأربعة تشكل في مجموع موادها 400 مادة وهو ما يمثل 80% من أحكام القانون الإنساني المعروفة حاليًا. أما الـ 20% الآخرين، نجدهم في لوائح الحرب البرية الملحقة باتفاقيات لاهاي.
وثمة اتجاهان في الغرب يجادلان بشأن قيمة القانون الإنساني ومدى تطبيقه في الحرب علي غزة. الأول: هو إن إسرائيل تمثل حالة خاصة وإن الصراع بينها وبين الفلسطينيين ذات طبيعة معُقدة. فحتى إن لم تقدم علي تطبيق أحكام القانون الإنساني، فإن ذلك لا يعني التخلي أبدًا عن هذه الأحكام. أما الثاني وهو الاتجاه السائد الذي يرى أن القانون الإنساني هو من ثمار مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي أسست للنظام الدولي الحالي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط فيه، ويطالب بالضغط علي إسرائيل لتطبيقه في غزة، بل ويوصي مؤيدو هذا الاتجاه بضخ مزيد من التمويلات لصالح تطبيق هذه المبادئ في مناطق النزاعات والتوتر حتي لا يفقد شركاؤهم من أصحاب المصلحة إيمانهم بهذه المبادئ.
ومن وجهة نظري إن الاتجاه الثاني هو أكثر عقلانية، فعلي الرغم مما نعيشه اليوم من أزمات، لكنها لا تُقارن بحجم الأهوال التي شهدها العالم قبل اعتماد اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، وأستدعي هنٌا ما ذهب إليه الكاتب الكندي ” ستيفن بينكر” والذي خلُص في كتابه ” جانبنا الملائكي- The Better Angels of Our Nature” إن وتيرة العنف الذي عرفناهًا منذ الحرب العالمية الثانية بدأت في الانخفاض وإن ضحايا الحروب باتوًا أقل، نعم يٌمكن أن نٌرجع هذا الانخفاض للقانون الإنساني. حتى الأمم المتحدة وإن كانت ضعيفة وبقرارات مبتورة في أحيان كثيرة لكن لا يمكن إنكار أدوارها في تخفيض وتيرة العنف وتهدئة بعض النزاعات في أفريقيا وآسيا وحتي في القارة الأوربية.
يٌخبرنا القانون الإنساني أنه بما أن الحروب ستقع لا محالة. يٌمكنا تخفيف الأضرار الناجمة عن هذه الحروب بتنحية المدنيين جانبًا وألا يكونوا هدفًا للأعمال العسكرية اتباعًا لمبادئ التناسب والضرورة، ولذلك فالالتزام بهذه المبادئ لم يعد ترفًا لكنه ضرورة للدول الغربية قبل أي تكتل جغرافي آخر، لأن هذه القوانين اُنشأت في الأصل بعد حروب كان الغرب هو ضحيتها.
وأستطيع أن أرجح أن إسرائيل نفسهًا ستكون متضررة إذ تخلت عن مبادئ القانون الإنساني وذلك لأن حلفاءها من الدول الغربية لن يكون بمقدروهم دعمهًا باستمرار إذا ظلت تٌخالف مبادئ القانون الإنساني خاصة إذا تواصلت التظاهرات الشعبية في الدول الغربية الرافضة لجرائم إسرائيل، ويتجلى ذلك في تبدل مواقف بعض الزعماء الأوربيين مثل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي قال إن “لا مبرر في قصف إسرائيل للمدنيين في غزة”.
ببساطة تدرك الدول الغربية أنهم لن يكونوا قادرين علي لوم أطراف النزاع في الكونغو الديمقراطية أو منطقة الساحل أو في السودان أو أي نزاع يتجدد في الشرق الأوسط إذا ظلوا صامتين بشأن انتهاك القانون الدولي الإنساني في غزة.