في مقال سابق تسائلت وماذا لو هزمنا غزة؟ وقلت إن هذا الاحتمال على مأساويته هو الأقرب للمنطق المادي البحت، حيث يمكن نظريًا أن يستمر القصف بشكل متواصل حتى قتل أغلب أفراد المقاومة وإنهاك قواها طالما لا توجد لها أي خطوط إمداد يمكنها تعويض ما تتكبد من خسائر بشرية ونقص في الذخائر والأسلحة، ولكن يشاء الله أن تظهر قدرته في دعم المقاومة حتى صار الحديث عن النصر هو الأكثر واقعية. وفي هذا المقال أطرح السؤال الذي صار ضروريًا الآن.. وماذا لو انتصرت فلسطين؟
لا أعتقد أن هذا السؤال كان مطروحًا بشكل حقيقي قبل طوفان الأقصى، لأن أقصى ما كان يمكن تمنيه هو أن تسمح إسرائيل ببعض من حرية التنقل للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة في الضفة أو تزيد قليلًا من دخول البضائع إلى غزة.
وأغلب الظن أن جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين بمن فيهم السلطة الفلسطينية نفسها، قد تأقلمت على أن القضية الفلسطينية قد وصلت لحالة من الاستقرار على وضع ما قبل 7 أكتوبر، حيث الفلسطينيون ضحايا للأبد وإسرائيل دولة احتلال، بلا أفق لإنهاء هذا الاحتلال.
وأغلب الظن أيضًا أن التطرف المتصاعد والمتغطرس في صفوف المجتمع الإسرائيلي وصولًا إلى وجود رموز اتهمتها المحاكم الإسرائيلية نفسها بالإرهاب، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اعتمد على القوة المطلقة لإسرائيل أن تفعل ما تشاء، فتستولى على منازل وأراضي الفلسطينيين بالقوة، وتطردهم وتبني المستوطنات دون أي سند من شرعية إلا شرعية القوة ودون أي رادع حقيقي وبدعم دولي غير محدود.
ولكن ومع ما نرى من وقف لإطلاق النار، وفق شروط المقاومة، وتحول الرأى العام العالمي لمساندة الحق الفلسطيني بشكل لم يره جيلي من قبل، وخاصة مع وقوف الكثير من اليهود في العالم ضد الإجرام الصهيوني بشكل يرد على الحجة الأساسية لقيام إسرائيل، وهي حماية اليهود من الاضطهاد في العالم، وزيادة معدلات التخلف عن الجندية في جيش إسرائيل، بل وتزايد رفض العديد من الشباب الإسرائيلي الخدمة في الجيش الصهيوني، رفضًا لما يرتكبه من جرائم في حق الشعب الفلسطيني.
ضع ذلك مع انقسام المجتمع الإسرائيلي الشديد وفشل قيادته السياسية في توحيده خلفها، مما يشي بضرورة ظهور قيادة جديدة بتوجه قد يكون أكثر تطرفًا أو اعتدالًا، يبدو أن المستقبل لم يعد "مفروغًا منه" كما كان من قبل، ويبدو أن نهاية "الدولة الصهيونية" أصبحت أمرًا قابل للتحقق في حياتنا وربما أسرع مما نتصور.
فماذا بعد الانتصار.. ماذا عن الإسرائيليين؟ 9 ملايين شخص يحملون الجنسية الإسرائيلية، هل يجب التساؤل عن مصيرهم في حال سقوط دولة الاحتلال؟ أعتقد أن هذا التساؤل يحمل جانبًا أخلاقيًا مثيرًا للجدل، كما يحمل جانب عملي، ويجب التأمل فيه قبل التسرع في إصدار أحكام عقائدية لا تحمل هم التحقق في أرض الواقع كما كان الوضع قبل "طوفان الأقصى".
وربما يجب علينا قبل ذلك أن نقر بعض الحقائق البديهية، والتي ظهرت بوضوح في هذه الحرب، فكما أن ليس كل يهودي صهيوني، بل أن بعض ألد أعداء الصهيونية من اليهود أنفسهم، وليس كل يهودي إسرائيلي، فعدد اليهود في العالم 15 مليون، منهم فقط حوالي 7 مليون داخل إسرائيل و6 داخل الولايات المتحدة. وأيضًا ليس كل صهيوني يهودي، فالعالم، والعالم العربي ليس استثناءً، ممتلئ بصهاينة لا ينتمون للديانة اليهودية، ولكن يؤيدون كل ما تفعله إسرائيل بكل ما يملكون من قوة ومال.
ولكن أيضًا ليس كل إسرائيلي يهودي، فهناك 2 مليون إنسان يحملون الجنسية الإسرائيلية وليسوا يهودًا، وليس كل الإسرائيليين - وهذه هي المفارقة الأصعب في استيعابها والبناء عليها - صهاينة، ولدينا في جدعون ليفي الصحفي الإسرائيلي المناهض للاحتلال وللصهيونية مثال، ورغم أن عدد هؤلاء غير معلوم وربما يكون غير مؤثر بشكل كبير حتى الآن، إلا أنه من المهم، إذا كنا فعلًا نتطلع لحل القضية الفلسطينية بدلًا من إبقائها معلقة للأبد، أن نسأل عن مصير هؤلاء في المستقبل.
وقد قمت بإجراء تصويت على موقع "إكس - تويتر" عن التصرف مع اليهود في حال انتصار الفلسطينيين عليهم لتخرج النتيجة كما هو متوقع بأن أغلب المصوتين يروون أن الحل هو طرد 7 ملايين يهودي ليعودوا من حيث أتوا.
وهذا الحل يغفل أن نسبة من هؤلاء أصلًا جاءوا من الدول العربية، فهل سيسمح لهم بالعودة إليها؟.. ولكن دعنا نقول إنه بالفعل قد يقوم العديد من يهود إسرائيل باختيار الخروج منها كى لا يعيشوا في ظل نظام حكم جديد ينشأ بعد نهاية الدولة الصهيونية، ولكن ماذا لو اختارت عدة ملايين منهم التمسك بالبقاء في البلد الذي ولدوا فيه؟ (70% من يهود إسرائيل ولدوا فيها)، فهل يصبح التصرف الأخلاقي تجاههم هو طردهم بالقوة؟
صحيح، أن ما بني على باطل فهو باطل، وأن وجودهم في الأصل جاء على أساس اغتصاب أرض فلسطين، ولكن لا يمكن إنكار أن هناك مجتمع من اليهود وغير اليهود قد نشأ بالفعل على تلك الأرض. ويمكنني القول إن السعي لـ"تطهير" أرض فلسطين من اليهود يضعنا في نفس الخانة الأخلاقية التي يوجد فيها دعاة الصهيونية و"تطهير" الأرض من الفلسطينيين.
بل، ويمكنني أن أتجرأ وأقول أن السعى لتفكيك هذا المجتمع وتشريد أعضاؤه بدلًا من السعى لكبح جماح طموحه في التوسع ورغبة حكوماته المتطرفة في الفصل العنصري يخالف ما قامت به المقاومة نفسها من التعامل بشكل راقي وعقلاني مع من قبضت عليهم من مدنييه، أجبر العالم على احترامها وكسب الكثيرون في صف القضية الفلسطينية التي يجب - في رأيي المتواضع - أن تنتهي بإحلال العدل لكل أطرافها، وليس لتمزيق شعب لصالح آخر.