في خطوة جرى تأويلها على أنها تدعم سياسات التحول الرقمي والشمول المالي، تتماشى مع تنامي تحول الذهب إلى مخزن للقيمة في مصر التي تعاني أزمة اقتصادية عنيفة، افتتح وزيرا التموين والتجارة والصناعة أول ماكينة "ايه تي إم" لتداول سبائك الذهب الصغيرة، تصرف ما يصل إلى 8 منتجات مختلفة من السبائك الذهبية بحد أقصى 100 جرام للسبيكة، وهي بذلك تختلف عن نسخها العالمية التي تصرف حتى وزن 250 جرامًا من الذهب في المرة الواحدة.

تشبه صرافات الذهب الحديثة تلك "العربة المدرعة"، من حيث التأمين ضد المخاطر والسرقة، وهي تزن ما يصل إلى 560 كيلو جرام، ومُصممة لتحمل عمليات الاقتحام وحتى المتفجرات الصغيرة.
كما تعتمد الماكينة المصرية الجديدة على بطاقات الائتمان فقط، وليس لها فتحة لوضع النقود كما في بعض الدول التي تلحق بها ماسح هوية لإصدار فاتورة موثقة. وفي الحالة المصرية تحمل الفاتورة بيانات البطاقة الائتمانية التي تم الشراء بها.
دخول مصر هذه الخطوة، التي بدأت الانتشار عالميًا قبل عقدين، يأتي في ظل ارتفاع مستوى التضخم إلى 39% في شهر أكتوبر بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
إذ قدم الذهب نفسه كوسيط آمن للاستثمار، يحمي المدخرات من تآكل ارتفاع الأسعار. وبدأ المصريون في الإقبال عليه، خاصة السبائك الصغيرة والجنيهات التي لا تخسر في إعادة البيع مثل المشغولات.
ماكينات الذهب تثير المخاوف
"انتصار محمود"، ربة منزل، تقول لـ"فكر تاني": "زوجي يعمل بمطعم في السعودية.. كل الأموال اللي بعتهالي حولتها إلى سبائك صغيرة.. الدهب عمره ما بيرخص.. وهو حاجة للزمن نتسند عليها وفي أي وقت يمكن بيعه وتوفير سيولة لمشروع أو عشان نشتري شقة أو محل".
ارتفع حجم مبيعات الجنيهات الذهبية والسبائك بنسبة 173% العام الحالي، ووصلت إلى 18.6طنًا خلال النصف الأول من العام، مقابل 6.8 أطنان في الفترة ذاتها من العام السابق، بينما تراجعت مشتريات المشغولات نحو 8% إلى 14.8 طن مقابل 16.1 طنًا في الفترة المقارنة ذاتها.
رغم تعلق "انتصار" بالمعدن الأصفر، لكنها قالت إنها تفضل الشراء والبيع بالطريقة التقليدية في محال الصاغة: "الدهب غالي.. هل حد ممكن يآمن أنه يحط مبلغ كبير في الماكينة وينتظر خروج السبيكة.. طب لو حصلها زي الماكينة العادية.. وما خرجتش السبيكة!"
اقرأ أيضًا: علي مصيلحي.. وزير الأزمات من شهداء الخبز لضحايا "كوباية الشاي"
وارتفعت أسعار الذهب مجددًا لمستويات قياسية في الأيام الأخيرة، ليبلغ عيار 24 اليوم الثلاثاء 3194 جنيهًا وعيار 21، الأكثر انتشارًا بمصر، نحو 2795 جنيهًا، و18 نحو 2399 جنيهًا، بينما بلغ الجنيه الذهب (8 جرامات) 22360 جنيهًا.
لدى كثير من المصريين ذكريات غير لطيفة مع ماكينات الصراف الآلي بالبنوك، ما بين سحب مبلغ دون خروج أموال أو انحباس الكروت الائتمانية ذاتها في الماكينة وعدم خروجها، ويكون عليهم الانتظار عدة أيام حتى يتم إعادة تلك الأموال في حسابهم بعد الاتصال بخدمة عملاء البنك التابعين له.
كيف تعمل ماكينات الذهب؟
طبيعة ماكينات الذهب ليست بعيدة عن فكرة البطاقة البنكية في عملية السحب أو الإيداع، مع اختيار نوع السبيكة وحجمها عبر خيارات موجودة على الشاشة التي تعمل باللمس، لتجري الماكينة عملية محاسبية بضرب سعر الجرام في الوزن وإظهار المبلغ المطلوب على الشاشة.
تقوم ماكينة الذهب بتحديث أسعارها كل 10 دقائق بناءً على أسعار الذهب الفورية في البورصة العالمية التي تتغير باستمرار، وستبدأ شركة "ماستر جولد إيجيبت" التي تمتلك أول ماكينة ذهب في مصر بمول واحد، على أن يتم نشرها تباعًا في عدد من المولات الكبرى التي تشهد تأمينًا كبيرًا.

تقول "سلمى حسن"، موظفة في أحد البنوك: "تجربة كويسة.. لكن المشكلة إن التجربة تبدأ بماكينة واحدة.. الزحام هيبقى عليها عامل إزاي.. وأيه اللي يخلي مواطن يروح مشوار طويل عشان يتعامل معاها طالما ممكن أنه يشتري من أي محل ذهب كبير في أي مكان".
تضيف "سلمى" التي عملت فترة في الإمارات: "التجربة دي موجودة في الخليج من سنين طويلة.. وعنصر الأمان فيها جيد.. هي زي مكن الصرافة العادي بس الاختلاف في إنها أكبر في الحجم.. وإن الشيت فيها إجباري مش اختياري وده ضمان عشان يعرف المستفيد يبيع الذهب عادي لأي محل عادي زي أي فاتورة".
ماكينات الذهب.. فكرة ولدتها أزمة 2008
تعود أول ماكينة صراف للذهب في العالم لشركة GOLD to go التي صنعتها شركة Ex Orientale Lux AG (EOL)، وهي شركة معادن ثمينة مقرها ألمانيا، وجاءت صناعتها بهدف تسهيل تداول الذهب عبر الإنترنت، وزيادة طلب المستهلكين على الذهب في الارتفاع عالميًا بسبب الانكماش الاقتصادي في الأزمة المالية العالمية عام 2008.
الفكرة من نشر تلك الماكينات هي تغيير مفهوم شائع بأن الذهب استثمار للطبقات الثرية وتعميمه بين عامة الناس، وتم نشرها في 10 دول حول العالم مختلفة الأوضاع الاقتصادية، ما بين دول ثرية وأخرى فقيرة مثل بيرو وكولومبيا.

ولم تغب الفكرة ذاتها عن الماكينة المصرية التي ركزت على سبائك تحمل الهوية المصرية بصور توت غنخ أمون وكليوباترا، وغالبيتها خفيفة الوزن لتراعي القدرة الشرائية للأغلبية العظمى من المواطنين.
المصريون يثقون في الذهب من التضخم
يقول الدكتور ناجي فرج، مستشار وزير التموين لشؤون الذهب:"فكرة الماكينة جاءت بعد تلاحظ إقبال المواطنين على الذهب كوسيلة للاستثمار خاصة السبائك والجنيهات، لأنها لا تخسر مصنعية وقت البيع مثل مشغولات الزينة،والمصنعية تبدأ من 20 جنيهًا وتصل إلى 100 جنيه".
لكن مسؤول مصرفي -فضل عدم ذكر اسمه- يقول إن الأمر يحمل هدفًا على مستوى الاقتصاد الكلي، قائلًا: "توفير سبائك صغيرة يشجع المواطنين على الادخار.. بدلًا من شراء السلع الاستهلاكية يمكن للمواطنين شراء سبايك صغيرة من وزن 2 و3 جرام ما يقلل الطلب على السلع فيقل سعرها".
ومعروف أن التضخم يرتبط بعلاقة طردية مع الطلب على السلع وعلاقة عكسية مع الادخار، فكلما زاد الطلب على السلعة ارتفع ثمنها وكلما زاد الادخار قل المعروض من الأموال بالسوق فيقل التضخم.
وقررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي تحديد معدلات التضخم المستهدفة خلال الفترة القادمة عند مستوى 7%(±2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024، ومستوى 5%(±2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2026.
يضيف المسؤول المصرفي: "فيه ناس بتحرج تروج للجواهرجي تسأل عن سبيكة جرامين أو تلاتة، دلوقتي ممكن تشتري ببساطة من الماكينة حتى لو جرام واحد.. كمان المصداقية والأمان متوفر في الماكينات أفضل على عكس إمكانية غش الذهب في الصاغة بنسبة طفيفة من النحاس".
يؤكد ناجي فرح على ما قاله المسؤول المصرفي، من ناحية تعزيز الذهب للاحتياطي بشكل غير مباشر، وكان ذلك أحد أهداف السماح للمصريين في الخارج بإدخال الذهب دون رسوم جمركية، فكل طن ذهب يعادل 60 مليون دولار، موضحًا أن مصر لديها 125 طنًا من الذهب حاليًا، وتستهدف الوصول لـ 200 طن.