في ظل الإبادة وجرائم الحرب.. هل يحق لنا الأمل في مواجهة خرائب العالم؟
يعد سفر أيوب أحد أعقد النصوص الدينية، وقصته تعد هي النموذج الأكثر إلهاما في الديانات الإبراهيمية الثلاثة وتراث المنطقة الواسع، عن الصمود والصبر في مواجهة الاختبار الإلهي، وكان ملهما للتفكير في الشرور التي أحاطت بالمنطقة العربية بعد فشل ثوراتها، التي انتهت إلى أن جعلت الأوضاع أكثر سوء مما كانت عليه، وهو ما فعله كتاب "أيوب ثائرا.. سؤال المعاناة في الثورات العربية" الذي شارك فيه عدد من الكتاب والباحثين وحرره كل من إسماعيل فايد وفؤاد حلبوني.
يطرح الكتاب من خلال سفر أيوب القصة من زوايا متعددة، ويظل سؤاله الحقيقي حول معنى الإيمان بالخيار الأخلاقي رغم المعاناة، والعمل في ظل الهزيمة الكاملة، بعد ما أسفرت الثورات العربية عن معاناة وجوع وقتل وانتهاك وتشريد، أهوال لم يتحمل وطأتها الأحياء فقط، بل امتدت آلة الحرب التي لا تعرف الهوادة إلى الذاكرة التاريخية وعالم الأموات مخلفة مقابر جماعية، قرى محروقة، أبنية متهدمة، كأنها تتحمل وزر الشهادة على ما حدث.
وقد كتبت عنه من قبل، لكن بشكل إجمالي يناقش الكتاب ككل، لكن مع ما يحدث في غزة من إبادة جماعية ومجازر، أجد أنني أود التركيز والتوسع على فصل الكاتب السوري عدي الزغبي.
فأقرب المجازر في الوعي خلال السنوات الأخيرة كانت مجازر بشار الأسد في حق شعبه والذي رغم ذلك كان يملك من الوقاحة أن يدين مجازر الإسرائيليين لتبييض وجهه ويديه الملطختين بالدماء، بل إن البعض يربط صراحة بين إن إسرائيل لم تكن لتملك الجرأة على تنفيذها، لولا أن على مسافة قريبة منها، كان هناك مجزرة بشار الأسد.
ما يحدث لأهلنا في غزة، يقع بلا جدال ضمن مسألة الشر الذي تعرض له أيوب بلا ذنب منه.
يرى عدي الزغبي أن الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين من المسلمين، تعاملوا مع مسألة الشر من جوانب محددة: مسؤولية الله عن حرية الأفراد، ومصير مرتكبي الكبائر، وقد طرح هذا السؤال في بدايات القرن الثاني الهجري، من خلال تأمل ما فعله كبار صحابة الرسول من كبائر في الحروب المروعة، منذ الفتنة التي أعقبت مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وتنوعت الإجابات بين الحرية والمسؤولية الفردية عن الأفعال والقدرية، والمنزلة بين المنزلتين.
أما الشر الطبيعي، بمعنى الذي لم يرتكبه الأفراد بأنفسهم، ففسره علماء المسلمين كنتيجة مباشرة لإثم الخاطئين، أما الصالحون فسيُعَوَّضُون عن الشرور التي حاقت بهم في الجنة، ربما لأن تلك الفترة كانت فترة انتصارات وثقة على عكس الوقت الذي سجل فيه سفر أيوب عقب سنوات السبي البابلي التي تعرض فيها اليهود لعقابات وشرور مفرطة وغير مستحقة، بينما كان الشعراء أبا تمام وابن برد وأبو نواس، بل والمعري في نثره الساحر الدقيق، أكثر انتباها وحساسية للمصائب اليومية التي تحيق بالناس العاديين.
سؤال الشر لم يظهر عند السوريين في بدايات الثورة السورية، حتى بعد التعرض للإبادة بالكيماوي في عام 2013، بسبب وجود أمل في المستقبل والإيمان بانتصار العدالة بالنهاية، وحضور الأمل الذي يجعل تلك التضحيات ثمنًا مستحقًا لما هو آت، لكن في 2017، بعد أن هزمت روح المبادرة والعمل، وانتصر الشر المفرط بشكل ساحق، صار سؤال الشر محوريا وهو السؤال الذي جاءمشتركا عند المؤمنين والعلمانيين على حد سواء، فلم تعد المشكلة معضلة اختيار حول ما إذا كان الله كلي القدرة أو كلي الخير، بل صار السؤال أكثر تعلقًا بالإنسان، ما الذي يعنيه العمل في عالم يحكمه الشر، ويغيب عنه الأمل؟
علم الأخلاق لم يجد إجابات عملية، لكن الفلسفة الغربية المعاصرة قدمت في مسألة الشر الطبيعي، إجابات أكثر إثارة من ارتباطها بالإثم أو تعويض الصالحين المتضررين أو حتى كما رأى المتصوفة والبوذيين أن الشر مجرد وهم، فرأى جون ستيوارت مل أن الله كلي الخير، لكنه غير كلي القدرة، أما ديفيد هيوم، فرأى أن الله (أو القوة الخالقة للكون) لا تشغل بالها بسؤال الأخلاق مع اعترافه بوجود الشر في كل مكان في العالم.
الرؤيتان من حيث التأمل النظري قد يكون أحدهما صحيحًا، لكنهما لا يقدمان إجابات على الجانب العملي.
وهو ما انتبه إليه فولتير، الذي سخر بعنف من فلسفة ليبنتيز، المتفائلة حول الوضع الإنساني، وأن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، سواء عبر التأمل النظري أو عبر الكتابة الأدبية التي وصلت إلى ذروتها في عمله الأدبي الخالد كنديد، الذي يدور حول رجل لُقن فلسفة التفاؤل على يد معلمه، لكنه يعترض عليها لُيطرد ويبدأ رحلة مضنية تشبه في أحد تأويلاتها المتعددة إعادة كتابة ساخرة ومعاصرة لسفر أيوب، إذ تنتهي بالعجز عن إيجاد الأجوبة، وعدم التقليل من وجود الشر، والاعتراض على وجوده، لكنها تظل تؤمن بالعمل الصالح، رغم عدم الإيمان بضرورة النصر النهائي، إذ تنتهي الرواية وبطلها يزرع حديقته، مواصلا السعي رغم وجود الشر.
يشبه هذا النقد لفلسفة ليبنتيز، نقد الليبرالي إشعيا برلين لفلسفة التاريخ أو الحتمية التاريخية عند الماركسية، ورفضه للرؤية التي سادت الغرب منذ القرن الثامن عشر، بأن هناك حتمية نهائية وقريبة بأن الإنسان سيتوصل لصناعة جنة أو يوتوبيا على الأرض، أما اليسار كبرتراند راسل ونعوم تشومسكي، فقد اعتقدوا بضرورة السعي للاشتراكية دون الإيمان بحتمية النصر التاريخي.
هذا هو الحل العملي الأول، أما الثاني فقد كان لدى أبيقور: الذي رأى أن الإنسان الحكيم هو المبتعد عن السياسة، وهي الفكرة التي سادت لدى الفلسفات الثلاثة الكبرى في عهد الرومان: الرواقيين والأبيقوريين والشكاكين، والتي تختلف جذريا مع فلاسفة الإغريق، والذين ربطوا الحياة الأخلاقية مع العمل السياسي، نظرا لأن لطبيعة الإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف في مقابل المدن الإغريقية، حيث يعجز الفرد عن التأثير في الحياة السياسية.
ولاحقًا، طورت الأفلاطونية المحدثة المعتمدة على أفكار رئيسية لأفلاطون وأرسطو، تصورًا يرى أن أعلى مراتب الفلسفة هو التأمل النظري وهو ما تلقفه الفلاسفة المسلمون بجدية كاملة.
هل يحق للمرء إذن أن يتحدث مع السوريين\ الفلسطينيين اللذين فقدوا الكثير بعد الحرب، عن ضرورة العمل والإيمان بالخير أو حتى ضرورة الإيمان بحتمية النصر أو الجنة الأرضية أو السماوية الموعودة، يرى عدي الزغبي أن ذلك لا يجوز، ولا يحق لأحد دعوة من عانوا تلك الأهوال لتكرار التجربة.
ويظل عدي نفسه محتارا بين خيار فولتير الساعي لمواصلة العمل، رغم عدم الإيمان وبين الحكمة الأبيقورية التي تستبعد السياسة، ما ينقذه هو قصائد السياب الذي لا ينادي في مرضه الوطن أو الإنسانية أو التاريخ، بل المحبة، تحديدا زوجته وأبنائه.
في ظل عالم ينعدم فيه الأمل محكوم بالشر المطلق، يرى عدي في المحبة المقتصرة على فئة محددة، والأعمال الصغيرة من كل فرد منا، الحل الوحيد الممكن لإضاءة عتمة العالم والقلوب، وهو ما لا ينطبق على الحكومات العربية بالطبع التي تملك الكثير لتقدمه في المسألة الفلسطينية، كما كانت تملك الكثير لتقدمه في المسألة السورية، لولا أن عدداً كبيراً من الأنظمة العربية كان يرى في قمع الثورات بعنف حل جذري وغير مسبوق، وربما كان الأكثر عملية.
لكن ما توصل إليه عدي قد ينطبق علينا كمواطنين عرب خارج غزة، يرون في عجزهم الساحق عن إيقاف المجازر والموت، في ظل قمع حكوماتنا، حتى لحق التظاهر والصراخ، وتراكم الأفعال الصغيرة قد يحقق شيئا حتى ولو لم يوقف الموت، شريطة ألا يكون هدفه هو التخلي عن التشويش على الشعور بالذنب.
وقد رأينا على الأقل ما الذي فعلته مبادرات فردية بدأت صغيرة، لكن تأثيرها ظل واسعًا وممكنًا رغم كل محاولات التضييق، من بينها جهد عدد كبير من شباب يطلق عليه جيل زد، أو مواليد بعد الألفية، اللذين فاجئونا جميعا باهتمامهم الشديد بالقضية الفلسطينية، رغم كل محاولات التشويه والطمس في مناهج التعليم، من خلال قدرتهم على ترجمة محتوى يحكي الحكاية الفلسطينية من قبل حرب 7 أكتوبر، وكيف تمكن هذا الجهد من تغيير سرد الحكاية على النطاق العالمي، والذي أدى بدوره لحراك ومظاهرات ضاغطة على حكومات العالم الغربي.