الحروب بشعة. نقطة
الحروب بشعة. تلك نقطة انطلاق أظن أننا يجب أن نتفق عليها. حتى وإن كانت مفروضة لزامًا لحماية وطن أو لدفع ظلم، لكن بلا جدال تبقى تحمل دماءً تراق ومعاناة وخوف وآلام ومشاهد ومشاعر لا يوجد إنسان طبيعي يوافق عليها إلا مكرهًا ومُرغمًا. لذلك حرصت الأديان كما حرصت القوانين البشرية على وضع أطر وأنظمة وقواعد تخفف حدة مأساتها، وتقلل توسعها وانتشارها وتحافظ - إلى حد ما- على أرواح المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في القتال. من وجدوا أنفسهم من بعد الشعور بالأمان، في حالة ترقب دائم للموت. وقد وصف شعور المقاتلين الله -عز وجل- اتجاه القتال "بالكره أو الكُره" قائلًا:
كُتبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) سورة البقرة.
والكره "بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،" والكَرْهُ" بفتح " الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. هذا القول معاذ بن مسلم. وعن المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.
اقرأ أيضًا:زيجات مؤجلة بأمر المأذون.. قاصرات إلى الأبد
وحينما نتحدث عن الحروب فدائمًا للأسف نتحدث عن حروب يصنعها بشكل أو بآخر الرجال ويدفع ثمنها بشكل أو بآخر النساء. بالطبع كالعادة أتحدث عن الأغلبية وليس الكل من الجانبين. وسواء مضطر لها أو معتدي. ولا حاجة للتأكيد أن تركيز الحديث عن النساء في أوضاع الحروب لا يُعني بأية شكل الموافقة أو التقليل من أهمية حقن الدماء في المطلق عن الجميع٬ رجال ونساء. عجائز وأطفال. بل حتى لعله في أوقات أكثر رفاهية كنا يمكننا أن نتحدث عن معاناة الحيوانات والنباتات. لكن التركيز على النساء ليس لسبب إلا لأن في الغالب عدد النساء المشاركات بشكل مباشر في الحروب قليل نسبة لعدد الرجال من جهة ومن جهة أخرى فإن النساء يمتلكن -رُغمًا عنهن- خصائص بيولوجية تجعلهن أكثر عرضة لتحمل مشاق الحروب والنزاعات بشكل مضاعف عن الرجال ناهيك عن أدوار اجتماعية تربط المرأة مسؤوليات والتزامات أوسع من الرجل تجاه الأطفال والعجائز في الأسرة على سبيل المثال.
أجساد معلقة على المشانق.. وأجنة تستقبل الموت
"معلّق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي –بالموت– محنيّة
لأنّني لم أحنها.. حيّة!"
أمل دنقل.. كلمات سبارتكوس الأخيرة
نتأرجح بين موت وموت. هكذا وصفت امرأة من غزة شعورها في تلك الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ ٧ أكتوبر من العام الجاري. الكلمات التي استدعت لذاكرتي أبيات الشعر لأمل دنقل عن مشانق الصباح. التي ربما زارتها رقابنا -نحن- مرات.
في تلك الحرب هناك مآسي نراها بوضوح في أشلاء ودمار وموت. لكن ربما تشاركوني الشعور بأن من مات محظوظًا، لو فكرنا في مأساة الأحياء. وكم من مرة تمنيت الموت وراحته فمهما كان أعتقد بأن الآخرة ستكون رحيمة بنا عن هذا التعلق على مشانق والتأرجح معلقين في الطرقات لا نحن أحياء ولا نموت ونرتاح. وكم من مرة تردد في قلبي قول العذراء في كتاب الله "القرآن": يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا - سورة مريم الآية 23
فبين نساء حوامل وأمهات وبين الاحتياجات الخاصة للنساء شهريًا في وقت الحيض. يتحملن فوق هذا مشاق ومأساة الحرب والتدمير والعيش في العراء والجوع والعطش والموت المفروض عليهن على مرأى ومسمع من العالم كله.
وفقًا لأرقام الإحصاء الفلسطيني وصندوق الأمم المتحدة للسكان في يوليو ٢٠٢١ قد بلغ عدد سكان الضفة الغربية المقدر حوالي 3.12 مليون نسمة، منهم 1.53 مليون أنثى، بينما قدر عدد سكان قطاع غزة لنفس العام بحوالي 2.11 مليون نسمة، منهم 1.04 مليون أنثى. أي أننا نتحدث عن حوالي ٣ مليون ونصف امرأة وفقًا لتقديرات عام ٢٠٢١ في قطاع غزة والضفة الغربية.
من بين الثلاث ملايين امرأة كشف صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين في العام الجاري، عن وجود 50 ألف امرأة حامل في قطاع غزة، لا يتمكن من الحصول على الخدمات الصحية الأساسية بسبب الحرب الجارية.
وأضاف الصندوق في بيان منشور له في بداية الحرب على منصة "إكس"، أن "50 ألف امرأة حامل في قطاع غزة لا يستطعن الحصول على الخدمات الصحية"، وفي وقت نشر التقرير كان من المنتظر أن يلد 5 آلاف و500 امرأة منهن خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول". مما يُعني أيضًا أن اليوم أصبح عندنا عدد أكبر من النساء الحوامل اللاتي وضعن أجنتهن -من نجين منهن من القصف الإسرائيلي على أية حال- وأن لدينا حوالي ٦٠٠٠ طفل رضيع تحت سماء لا تتوقف عن إمطار الموت بأشكاله المختلفة المرعبة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
كذلك صدر تقرير من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في الأسبوع الأول من الحرب يشير إلى أن ما لا يقل عن مليون شخص اضطروا إلى ترك منازلهم في أسبوع واحد فقط. وأضافت الوكالة وقتها في بيان على منصة "إكس"، "يستمر نهر من الناس في التدفق جنوبًا. لا يوجد مكان آمن في القطاع"، مشيرة إلى أن "غزة بدأت الآن تنفد من أكياس الجثث". وفي الوقت الحالي من الحرب فإن الاحتلال قد بدأ يلمح إلى هروب حماس إلى الجنوب! بمعنى آخر يبرر مقدمًا احتمالية شنه هجومًا على الجنوب حيث هرب المدنيين من القصف الجنوني!
وكانت الوكالة في وصفها لأوضاع الفارين من الحرب قالت "يُحرم كبار السن والأطفال والنساء الحوامل والأشخاص ذوو الإعاقة من كرامتهم الإنسانية الأساسية. هذا عار كامل".
لا تكفر بالحرية إنما بالديكتاتوريات
رأينا مئات الآلاف من المتظاهرين من البر الغربي "أوروبا وأمريكا" يدعمون حق الشعب الفلسطيني ويطالبون بوقف العدوان الإسرائيلي على مر الأسابيع الماضية. ومازالت المسيرات يخطط لها وتستمر، ومنشورات وملصقات توزع وتلصق وتيشيرتات يطبع عليها عبارات دعم للقضية. تلك هي الحرية التي لم نستطع أن نفعل مثلها في بلداننا، ونحن أقرب للقضية ونتشارك معهم الدم والألم. أما ما شهدناه من عهر سياسي خاصة في الأسبوع الأول فهي السياسات والمصالح العسكرية والاقتصادية وما تفعله وليست الحرية.
الحرية التي نعلق لأجلها على المشانق ورؤوسنا محنية -رُغمًا عنا- لأننا لم نحنها -طواعية- طيلة حياتنا.
"يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الأكبر:
لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكم.. مرّة!"
― أمل دنقل, كلمات سبارتكوس الأخيرة