إذا دخلت أي مبني لمحكمة أو نيابة أو حتى المباني الإدارية لوزارة العدل فإن أول ما سيلفت نظرك هذه الآية القرآنية المكتوبة بالخط العريض والواضح "العدل أساس الملك"!
لكن كيف يتحقق هذا العدل ويتم إرساء قواعده كي يكون هو الركيزة الأساسية لاستحقاق أي نظام الحكم في بلاده؟
من ضمن حقوق وأدوات كثيرة يجب أن تكفلها الدولة لإقامة نظام العدل، نهتم في هذا المقال بحق التقاضي، وهو ببساطة أن يستطيع أي إنسان ذو مظلمة أن يتقدم بهذه المظلمة إلى السلطة المختصة وأن يتم التحقيق في شكواه وصولًا إلى الترضية القضائية المناسبة التي تحقق العدل والإنصاف للجميع.
وفي مصر، يؤسس الدستور في مادتيه 97 و 98[1] أن كفالة حق التقاضي للمواطنين ولغير القادرين هو التزام على الدولة بضمان هذا الحق، بل وأيضًا هو أحد واجباتها في الخضوع لسيادة القانون، إذ يقتضي هذا الحق على الدولة أن تعمل على تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذًا ميسرًا[2]، لا تثقل كاهله بأعباء مالية متمثلة في ضخامة رسوم ومصروفات التقاضي، ولا تحول دون تحقيقه أيه عوائق إجرائية متمثلة في قرارات إدارية بيروقراطية جافة وصماء لم يأت بها أحدًا من سلطان!
إلا أنه ومع الآسف هذا ما تفعله الحكومة تمامًا، حيث تتفنن وزارة العدل في إصدار قرارات زيادة الرسوم على كل إجراء قضائي ممكن لزيادة مواردها، متجاهلة ما يمكن أن يفعله ذلك في زعزعة الاستقرار المجتمعي وزيادة البغضاء بين الناس، الذين قد يلجؤون إلى أخذ حقوقهم بأيديهم بدلًا من اللجوء إلى القضاء وبيع ثمين ما يملكون في سبيل ذلك.
يفرض الدستور على الحكومة أيضا عدم فرض أية رسوم أو ضرائب دون قانون، ونتيجة لذلك تكون كافة القرارات الإدارية المتخذة في زيادة الرسوم القضائية هي قرارات مخالفة للدستور ويجب إعمال الرقابة القضائية عليها عند القاضي الإداري المختص.
فمثلا؛ إذا نظرنا إلى مسألة الأحوال الشخصية - وهي أغلبها من قضايا النفقة والولاية التعليمية وغيرها من القضايا التي ترفعها الأمهات والسيدات في سبيل انتزاع حقوقهن المغصوبة، كي تستطيع مجابهة مصروفات المعيشة الغالية وكذلك حقوق صغارهن التي يمنعها عندًا بعض الأباء – فإننا سنجد أن قانون الرسوم القضائية[3] قد أعفى قضايا الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة من الرسوم التقديرية أو النسبية وقدرها برسم ثابت رمزي لا يتعدى الخمس جنيهات تيسيرًا على هؤلاء النسوة التي لا يملكن حولًا ولا قوة، إلا أن هذا القانون تم تعطيل العمل به، منذ صدور قرارات زيادة مصروفات التقاضي في محاكم الأسرة والأحوال الشخصية.
فإذا تقدمت أي سيدة لرفع قضية نفقة على سبيل المثال، فإنها ستدفع رسم التقاضي كما هو موضح بالقانون إلا أنها إذا أرادت استخراج صورة طبق الأصل من وثيقة زواجها، وطلاقها فإن كل واحدة منهما ستكلفها أكثر من 60 جنيه، وإذا أرادت أن تستخرج شهادات ميلاد لأولادها فإن كل واحد منهم سيكلفها أكثر من 40 جنيه، وإذا أرادت أن تقدم كل هذه المستندات في حافظة إلى المحكمة فإن عليها دفع رسوم ميكنة عن كل ورقة 10 جنيهات أو أكثر في بعض الأحيان، إما إذا أرادت أن تستخرج صورة رسمية من محضر الجلسة.. فهذا يا لطف الله، موال آخر! هذا بالإضافة إلى إضاعة يوم كامل في مباني النيابات والمحاكم لأن "السيستم واقع" أو أن "محضر الجلسة مترفعش على السيستم"!
معاناة كبيرة تخوضها السيدة التي تفكر أن تتقدم لمحكمة الأسرة لممارسة حقها الطبيعي واللصيق في التقاضي، تجعل كل سيدة ترتضي بحال بخس لا تستحقه، بل وإن تلك المعاناة تخضعها لابتزاز الطرف الآخر وتحكمه فيها دون مراعاة ممن يتخذون هذه القرارات على مصير تلك الأسر.
إن إقامة العدل وتحقيق القسط هو الركيزة الأساسية لأي تنظيم اجتماعي، وهو وسيلة مهمة لحماية هذا المجتمع من شر نفسه، فإن لجوء المواطنين لجهات القضاء وهم واثقين من تحقيق شكوتهم بكل شفافية ونزاهة خير للدولة من لجوء المواطنين لتخليص حقوقهم بأنفسهم.
[1] المادة 97.
التقاضى حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضى، و تعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعى، والمحاكم الاستثنائية محظورة.
المادة 98.
حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول. واستقلال المحاماة وحماية حقوقها ضمان لكفالة حق الدفاع. ويضمن القانون لغير القادرين ماليًا وسائل الالتجاء إلى القضاء، والدفاع عن حقوقهم.
القضية رقم 15 لسنة 14 قضائية المحكمة الدستورية العليا[2]
[3] المادة (49) من القانون رقم 90 لسنة 1944، بشأن الرسوم القضائية في المواد المدنية، "تجري على الرسوم المستحقة على مسائل الأحوال الشخصية الأحكام المقررة في القانون رقم 1 لسنة 1948، بأن يُحصل رسم ثابت قدره خمسة جنيهات، على قضايا الأحوال الشخصية أو قضايا الأسرة".