التضامن اليهودي مع غزة

ربما كان من أكثر ما يدهش المتابع لهذه الحرب الاجرامية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني بحجة القضاء على حماس، هو التضامن اليهودي غير المسبوق مع القضية الفلسطينية. وأعتقد أن القارئ الذي سوف يصدم من هذه المقدمة ويستنكرها لم يتابع بكل تأكيد الحراك الغربي المضاد للحرب بل والمضاد لإسرائيل نفسها والذي يقوده بشكل كبير نشطاء يهود مناهضون للصهيونية في أكثر دول العالم تأييدًا ودعمًا لإسرائيل بل وداخل إسرائيل نفسها.

 

"ليس باسمنا" كان عنوان العديد والعديد من التظاهرات المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة وكان يقودها نشطاء يهود يرفضون أن تستخدم المحرقة النازية التي مات فيها أجداد وأقارب لهم لتبرير محرقة أخرى صهيونية قتل فيها وقت كتابة هذه السطور بعد شهر واحد فقط من بدايتها ما يزيد عن العشرة آلاف فلسطيني 40% منهم أطفال.

بعض هذه التظاهرات كان من الضخامة أن أكدت على تغير مستقبل تفاعل الغربيين مع القضية الفلسطينية للأبد. وبعضها كان عمليا لدرجة تعطيل تحرك بعض السفن المحملة بالأسلحة من الولايات المتحدة لإسرائيل.

ولدهشتي الشديدة تابعت الفيديوهات التي تصور اعتداء الشرطة الإسرائيلية على يهود متدينون يرفعون أعلام فلسطين داخل الأرض المحتلة، وما صدمني هو أنني لم يكن عندي علم قبل بداية هذه المحرقة بأن عددهم كبيرا لهذه الدرجة. بينما في الولايات المتحدة جرى القبض على عشرات اليهود الذين اعتصموا في إحدى محطات القطارات رفضًا للهمجية الإسرائيلية. وألقت الشرطة الإنجليزية القبض على مسنة يهودية لرفعها شعارات مضادة لإسرائيل.

وما أعجب أن تعتقل الشرطة شخصا بتهمة معاداة السامية وهو أصلا يهودي. ناهيك عن عشرات الفيديوهات التي يتحدث فيها شباب يهود ليعترفوا أنهم تربوا على الصهيونية ليكتشفوا أنها أيديولوجية مريضة قائمة على اغتصاب الأراضي وقتل أهلها، ثم يتبرؤون منها. وهذا مثلا فيديو لجندي صهيوني متقاعد يشهد بأن دولته التي خدمها وحارب من أجلها تسعى لتخريب كل أمل في السلام من أجل استمرار الاحتلال والهيمنة المسلحة على الشعوب المجاورة ويقول إنه لم يكن يتخيل في يوم من الأيام أن يقف مدافعا عن حقوق الفلسطينيين. ولكن كان الأهم والأخطر بالنسبة لي هو فيديوهات لإسرائيليين شباب يعلنون دخولهم السجن الحربي أكثر من مرة لرفضهم تأدية الخدمة العسكرية والمشاركة في جرائم الجيش الإسرائيلي.

قد يصيب القارئ الضجر من كل تلك القصص التي أرويها عن "أبطال" يهود قرروا الوقوف ضد الإجرام الصهيوني، خاصة أن ما يعانونه نتيجة لمواقفهم تلك لا يمثل شيء بالنسبة لما يعانيه أهل غزة، بل وأهل السودان واليمن وسوريا أيضًا. ولكن يا عزيزي أعلم أن أهمية أن يقف اليهود تحديدًا ضد مشروع يدعي أنه مشروع الدولة اليهودية فهذا يعني نهاية هذه الدولة لا محالة.

لقد ظل "المبرر الأخلاقي" – المزيف بالطبع -لإقامة دولة إسرائيل هو "حماية اليهود المستضعفين" في أوروبا. ولذلك فعندما يسقط ذلك المبرر بشهادة اليهود أنفسهم تسقط الحجة والمبرر لبقاء واستمرار هذه الدولة المصطنعة. وعندما يواجه اليهود تهمة معاداة السامية لوقوفهم ضد المجازر الإسرائيلية فذلك هو أبسط الطرق لكشف زيف هذه التهمة ونفاق مستخدميها.

وعندما تظهر الدولة الصهيونية على حقيقتها بأنها مجرد شركة استعمارية لنهب الأراضي وليست ملاذ ليهود العالم كما يدعون فإن ذلك يعني خروج العقلاء وأصحاب الضمائر والكرامة منها لتنتهي بأسرع مما نتصور.

وعندما نرى الرأي العام العالمي يتحول ليكتشف فجأة حقيقة الاحتلال وممارساته فلا يمكن أن نغفل دور أولئك الذين لابد وأنهم قدموا دعمًا لا محدودًا لإسرائيل يومًا ما ثم صدمتهم حقيقتها كمن يفيق من وهم محكم تم إدخاله فيه لسنوات. بل ويجب علينا –كل عاقل وصاحب ضمير – أن يحاول دعم هؤلاء في نضالهم السلمي ضد همجية الاحتلال ووحشيته، فأولئك هم الأقدر – حتى الآن على الأقل -على كسر الهيمنة الصهيونية على وسائل الإعلام ووسائل التأثير السياسي الغربية ولا يمكن التشكيك في نواياهم من الجانب الإسرائيلي بنفس الأسلوب الفج الذين يستخدمونه ضد كل من يعارض إجرامهم وأكاذيبهم.

من ناحية أخرى وعلى الجانب المقابل نجد على العكس من اليهود الذين قرروا أن "يتطهروا" من الجرائم الصهيونية بإعلان مواقف واضحة لا لبس فيها ضد استمرار المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، نجد أشخاص آخرين من بيننا يقررون أن يتطهروا من إنسانيتهم، فيقررون بلا أدنى خجل أو احترام لأي قيم إنسانية أو دينية أو وطنية أن يعلنوا تضامنهم مع المعتدي الإسرائيلي بأشكال تتشابه في خستها وإن اختلفت في درجاتها.

فهذه ناشطة صهيوعربية تدعي أن إسرائيل تحارب إرهاب حماس بالنيابة عن الدول العربية وتشجعها على المزيد من إراقة الدماء، وهذا إعلامي يدعي أن المقاومة هي سبب شقاء الفلسطينيين في موقف لا يمكن مقارنته إلا بأفلام الجواسيس القديمة. وهذا مواطن عادي يتجاهل دعوات المقاطعة ويصر على شراء منتجات تأكد من أنها تدعم الجيش الصهيوني بشكل مباشر. وإذا رأى الإنسان هؤلاء وهؤلاء ... ألا يحق له أن يشك في سلامة قواه العقلية؟

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة