ظنت "أم محمد" السيدة المسنة أن الوقت قد حان لتتمتع بقدر ضئيل من الراحة قبل مغادرتها الحياة؛ لكن القدر اختار لها مشقة أخرى، حين أجبرها الفقر على إعالة ثلاثة أطفال في سن الدراسة، بعد أن غادرهم والدهم موتًا، وتخلت عنهم والدتهم هربًا؛ لتخرج الجدة العجوز إلى الشارع ساعية -ضمن طابور بائعات جائلات- خلف بصيص أمل يقتات منه صغار.
مزج أول
منذ عامين تخرجت "مي" في الجامعة، بعد سنوات من الدراسة قضتها في ممارسة أعمال صغيرة في شركات متعددة. لم يكن ذلك ليشبع شغفها تجاه كسب المال والسعي وراء حلم طالما صاحبها منذ نعومة أظافرها. انطلقت الجامعية الصغيرة إلى سوق العمل الحر باحثة عن مأربها.
مزج ثاني
منذ ما يزيد عن تسع سنوات، تخوض "وردة" حربين؛ إحداهما مع الفقر والثانية مع تعنت الأجهزة الرسمية للدولة من ناحية، وتعنت قساوسة الكنيسة من ناحية أخرى. الجميع رآها غير جديرة بالمساعدة، إلى أن اضطرت بعد تقاعد زوجها، للعمل كبائعة جائلة لمنتجات ريفية وسط المنازل، على أمل أن يتحقق حلمها ذات يوم، وتنهي مهمتها مع أبنائها.
مشاهد متقطعة متقاطعة لا ينقصها إيضاح لبطلات حكايات واقعية امتلأت بهم أسواق وشوارع العاصمة المصرية القاهرة خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، وتنوعن ما بين عجائز خطت تجاعيد الزمن ملامحهن، وبين شابات يخططن لبدء حياة ممتدة.
ما بينهن جميعًا حلم مشترك لتغييب الواقع أو الانقلاب عليه، فرار يومي من شبح الفقر، وركون إلى الشارع لسد الاحتياجات الضرورية. لكن الجديد في حال هؤلاء خلال السنوات الأخيرة أن تتجه الجامعيات منهم إلى الشارع لتصريف أعمالهن بدلًا عن ممارسة وظائف مستقرة ورسمية.
اقرأ أيضًا: الإنترنت النسوي .. فرص عمل مناسبة للنساء
الفقر والعمالة المهمشة
وفق دار الخدمات النقابية والعمالية، هناك نوعين من العمالة في مصر؛ الأولى رسمية تخضع لقوانين العمل وتجد فيها العاملة شبكة أمان اجتماعي يحميها وفق نصوص القانون، لتحصل على الحد الأدنى من الأجور، ومكونات الأمان الوظيفي والمظلة التأمينية والحماية ضد العجز وغيرها. [1] بينما على النقيض يكون النوع الثاني، حيث العمالة غير الرسمية التي لا تتمتع بأية ضمانات اجتماعية رسمية، لكن في المقابل تستند إلى رأس مال اجتماعي في شكل علاقات وروابط غير رسمية، ربما توفر لها بعض الحماية المجتمعية، في مقابل دخل منخفض يستند إلى عدم الاستدامة الوظيفية.
تقول "وردة": "منذ تسع سنوات أعاني. لم يخيل لي أنني سأكون مواطنة منزوعة الحقوق، رغم تأدية كافة الواجبات. أحتاج لإجراء عملية في عينيّ ولم أوفق، فلا هامش للربح لتوفير مستحقاتها، وحينما لجأت منذ تسع سنوات إلى الحكومة لإجرائها رفضتني بقسوة".

تحكي "وردة" التي تعمل بائعة متجولة تقدم منتجات ألبان ريفية في حي حلوان جنوبي القاهرة -لمنصة "فكر تاني"- عن معاناتها مع المرض والتي استمرت نتيجة تقاعس جهات حكومية عن إنقاذها. وتضيف: "في العام 2014 وصلت تكاليف العملية إلى 20 ألف جنيه، توجهت إلى مستشفى قصر العيني ورفضوا بحجة أنهم لا يوفرون مثل تلك الجراحات، ثم لجأت إلى التأمين الصحي وكنت حينئذ معينة في إحدى مدارس الإرساليات وأحظى بتأمين صحي واجتماعي، فكانت الإجابة: لن نستطيع تحمل تكاليفها، ومنذ ذلك الحين أسعى لمحاولة الحصول على قرار على نفقة الدولة، كحل أخير؛ إلا أنني فشلت أيضًا".
رحلة بحث عن "تكافل وكرامة"
"حاولت الحصول على معاش تكافل وكرامة مرتين؛ في الأولى رفضت لأن زوجي مؤمن عليه، وفي الثانية رفضت بعد أن فاجئتني الموظفة مدعية أن النظام يظهر حصولي على معاش والدي المتوفي، ما يخرجني من قاعدة المستحقين للمعاش التكافلي"؛ تقول.
وفي حين يظهر "السيستم" الحكومي "وردة" ضمن كشوف المتقاضين للمعاشات، فهي تنكر حصولها على أية مستحقات منذ وفاة والدها منذ ما يربو عن 20 عامًا والتي تتقاضاه بالفعل والدتها فقط.
ووفق وزارة التضامن الاجتماعي، فقد حددت الجهات المستحقة لمعاش تكافل وكرامة (عدد المستحقين 5 ملايين أسرة)، بعد قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي زيادة قيمة المعاش بنسبة 15 في المئة في سبتمبر الماضي، وهم المسنين والأرامل والمطلقات والحاضنات واليتامى، وذوي الاحتياجات الخاصة.
ويتم تحديدهم بمراعاة انطباق بعض الشروط عليهم؛ وأبرزها: ألا يكون المتقدم للاستفادة من المعاش يعمل بأجر تأميني أكثر من 400 جنيه، أو يتقاضى معاش تأميني أو مساعدة ضمانية. كما يشترط أن تكون الأسرة المتقدمة لديها أبناء حديثي الولادة حتى سن 18 عامًا، على أن يكون الأبناء من سن 6 -18 بمراحل التعليم المختلفة. أيضًا أن يكون المتقدمون من المسنين بعمر يبدأ من 65 عامًا.
"الآباء لا يرون الفقر في حالتي"
تصف "وردة" ضيق ذات اليد، فتقول إن زوجها الذي كان يعمل كعامل يومية في شركة أوراسكوم قد تقاعد منذ شهرين؛ ما وضع أسرتهم في حالة مالية شديدة الضيق، وأجبرها على الاستدانة المستمرة لسد احتياجاتهم الأساسية فقط.
وتضيف -في حديثها لـ"فكر تاني": "أنا امرأة من الصعيد لم أحظ بالتعليم لأن الفتيات لا تتعلم لدينا، ورغم ذلك صممت على تعليم أبنائي الثلاثة، في مدارس تجريبية لتوفير أبسط حقوقهم التعليمية ومنحهم فرصة لمستقبل أفضل. لكني أعاني من توفير مصروفاتهم الدراسية، وحاولت لأكثر من مرة الحصول على معاش شهري أو مساعدات بسيطة من الكنيسة، لكن في كل مرة لم أوفق، فالآباء يرونني غير مستحقة فقط لأن مظهري جيد ولا يبدو عليّ التشرد". متساءلة عن نهاية معاناتها وأسرتها.
طالب البابا تواضروس أن تخصص نسبة 30 في المئة من ميزانية كل كنيسة للإنفاق على الخدمات المقدمة للفقراء في العام 2021، حيث أطلقت الكنيسة برنامجها للرعاية الاجتماعية. وتأسست قاعدة بيانات محكمة تضم كشوفًا بأسماء الفقراء منذ العام 2013، بموجبها توزع المعونات بنظام "كشوف البركة". [2]
بائعات جائلات.. الفقر غربة في وطن
تحتاج "أم محمد" إلى أن تقطع يوميًا كل مساء الطريق من القليوبية حيث محل سكنها إلى وسط القاهرة، لتتجول وسط المقاهي في محاولة لكسب رزقها عبر بيع المناديل الورقية، وهي طريقتها في تحصيل الرزق منذ العام 2011، بعد أن ضاقت بها السبل، وانتهت علاقتها بعملها السابق، نظرًا لضعفها نتيجة تقدمها في السن من ناحية، ثم انخفاض دخول الأسر التي كانت تعمل لديهم كعاملة منزلية من جهة أخرى.
تقول لـ"فكر تاني": "تزوجت في تسعينيات القرن الماضي من زوجي الحالي، بعد زواج لم يدم مع آخر نتج عنه ثلاثة أبناء، وكان زوجي لديه أبناء من زوجته السابقة. ضممتهم جميعًا إلى صدري، ليصبح لدي 9 أبناء في أعمار مختلفة".
يكبرها زوجها بسنوات وقد تقاعد من العمل منذ العام 1994، بعد بيع شركة "البلاستيك الأهلية" التي كان يعمل بها. ما أجبرها منذ ذلك الوقت على العمل في المنازل، حتى قيام الثورة في العام 2011، حيث هاجرت بعض الأسر التي كانت تعمل لديها، فيما انخفضت دخول أخرى بحيث لم يعد في إمكانها استقدام عاملة منزلية.

اقرأ أيضًا: "بنت ولا ولد".. حينما تكشف مقابلات العمل أسوأ أشكال التمييز الوظيفي
"منذ ذلك الوقت قررت بيع المناديل، وأصبحت معروفة في وسط البلد. قابلت مضايقات عدة؛ لكن مع مرور الوقت بدأت في توطيد علاقتي مع الجهات الشرطية المسؤولة عن وسط البلد، وعادة لا اشتبك مع بائعات آخريات رغم محاولات سابقة لعرقلة عملي نتيجة التنافس".
"أم محمد" مسؤولة عن عائلة مكونة من 14 فردًا هم أبناؤها وأبناء زوجها وأحفادها، حيث توفي والدهم منذ ثماني سنوات وهربت والدتهم كي لا تتحمل مسؤوليتهم.
وما بين الضرورة والعجز، تقف السيدة المسنة التي شارفت على السبعين من عمرها وحيدة في خضم معركة الفقر الضارية، فيوم إجازة حسب وصفها يعني أفواه جائعة وتعطل عن التعليم بالنسبة لأحفادها الثلاثة. وقد عرض عليها من قبل بعض المجموعات المحترفة للتسول العمل معهم؛ لكنها رفضت وتقول: "أنا أعمل وسأظل أعمل مقابل أجر حتى اليوم الأخير في حياتي، لكني أرغب في الراحة، وأطالب الحكومة بتوفير معاش شهري حتى أستطيع التقاعد في أيامي الأخيرة".
"ما احناش بائعات جائلات"
لم تكن "مي" بائعة تقليدية، فهي خريجة جامعية، نشطت في عدد من الأعمال الصغيرة، وحاولت عبر عملها كمسوقة في الشارع حسب وصفها أن تغير الصورة السلبية المأخوذة عن البائعات الجائلات. كان بإمكانها العمل ضمن إطار مؤسسي لكن بعد تجارب خاضتها قررت أن تبدأ مشروعها الخاص من الشارع، عبر بيع منتجات نسائية مصنوعة في المنزل.
لم تتوقف الفتاة العشرينية عند هذا الحد؛ بل استطاعت استكمال دراستها الموازية والتي قد تؤهلها مستقبلًا للعمل في مجال الميديا والفنون، فقد بدأت في تعلم المونتاج والإخراج التليفزيوني. وهو حلم طالما سعت لتحقيقه.
تقول "مي": "بالطبع قابلت صعوبات في الشارع، وتعرضت لأخطار عدة بدءًا من استهجان بيعي منتجات نسائية على المقاهي، ومرورًا بالتعرض لانتهاكات جسدية ولفظية تصل إلى حد التحرش، وصولًا إلى الملاحقة الأمنية في بعض الأحيان أو محاولة فرض إتاوات للسماح لي بمواصلة عملي، وكلها أمور تعرقلني بعض الشئ لكني مستمرة في المحاولة".
الفقر المُطارد دائمًا
الملاحظ أن جميع من قابلناهم من بائعات جائلات قد تساءلن عن آلية لحمايتهن من مخاطر الملاحقة الأمنية وضمان وضعهم تحت مظلة تأمينية. وقد عبرن عن عدم تأكدهن من وجود نقابة للباعة الجائلين تنظم أعمالهن.
يجيب المحامي الحقوقي محسن بهنسي قائلًا: "من حق أي مجموعة عمل وفق قوانين التضامن تنظيم مؤسسة/ نقابة لحماية أعمالهم، وبالطبع لم تدشن نقابة للباعة الجائلين بعد، لكن السؤال الملح هو: هل تعترف الدولة من الأساس بهم كمجموعة عمل؟".

ويضيف أن الدولة لا تعترف بوجودهم رغم عملهم ضمن صفوف العمالة غير المنتظمة [3]، وتلاحقهم الجهات الأمنية من حين لآخر بشكل قاسي، كما أجهضت محاولات سابقة قدمت لاستصدار قوانين لتنظيم أحوالهم، أبرزها مشروع القانون الذي قدمته النائبة البرلمانية هالة أبو السعد في العام 2021، لتنظيم أحوال الباعة الجائلين؛ لكنها لم تحصل على الموافقات المطلوبة لمناقشة المشروع.
ورغم المحاولات؛ إلا أنه ينتقد توجهات البعض والتي تهتم برؤية الدولة وضمان حقوقها دون النظر في حقوق تلك الفئة المهمشة من الأساس. حيث لم تهتم تلك الأطروحات بمحاولة توفير مظلة تأمينية لهم أو تخصيص مساحات لممارسة أعمالهم دون ملاحقة شرطية. ويشير إلى ملاحقتهم عبر قانون التسول وإشغال الطريق وتصل العقوبة إلى الغرامة والحبس. مضيفًا: "يتعرضون لانتهاكات عدة أبرزها استغلالهم في أمور سياسية لحسابات تخص السلطة، مثل حشدهم في التظاهرات في مواجهة المتظاهرين، في نوع من الاتفاقيات الضمنية التي تبيح لكل من وافق عليها الاستمرار في عمله؛ رغم عدم قانونية أعمالهم".
مختتمًا: "بعض الجهات المسؤولة تساهم في تضخم ظاهرة الباعة الجائلين لفرض إتاوات غير قانونية والحصول على مكاسب قد تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات شهريًا في كل منطقة، ما يعد نوع من الانتهاكات الممنهجة الممارسة ضدهم أيضًا، والتي يجب أن تتوقف نهائيًا، لكن كل ذلك مشروط باعتراف الدولة بهم ثم السماح لهم بتنظيم عمل نقابي يوفر لهم بيئة عمل آمنة، كما تتعرض النساء لأنواع أخرى من الانتهاكات التي تصل إلى حد الانتهاك الجسدي والاغتصاب للنساء بلا مأوى". مطالبًا عبر منصة "فكّر تاني" تبني مبادرة لتوفير بيئة عمل آمنة وقانونية لهم، والضغط لفتح ملف الانتهاكات التي تتعرض لها تلك الفئة وطرحه على الرأي العام المصري.
وقد كشفت جولتنا في شوارع القاهرة ما يشوب النُظم القانونية من مواطن ضعف تزيد بدورها من الآثار السلبية على البائعات الجائلات؛ خاصة في ظل انعدام فرص الحصول على مساعدات صحية وضعف الحماية الاجتماعية المقدمة لهن، وما ترتب عليها من آثار سلبية مضاعفة، لكون الأغلب منهن يشغلن وظائف غير آمنة ويعشن في مستويات قريبة من مستوى الفقر. ليظل السؤال مطروحًا: من يحمي المرأة الفقيرة المتجولة التي لا تتخطى ثروتها عشرات الجنيهات؟ ومن يحميها من الانقطاع المفاجئ عن العمل نتيجة تعرضهن لمداهمات الشرطة والبلدية؟ ومتى تتأسس نقابة للباعة الجائلين وهم فئة مهمشة، لتنظيم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية؟
[1] وفق الموقع الرسمي لوزارة التضامن الاجتماعي، فإن مظلة التأمين الاجتماعي هي مجموعة القوانين التي تنظم التأمينات الاجتماعية للعاملين المدنيين وتتمثل في: القانون الخاص بالعاملين لحساب الغير سواء كان هذا الغير الحكومة أو القطاع العام أو القطاع الخاص ( القانون رقم 79 لسنة 1975)، والقانون الخاص بالتأمين على العاملين لحساب أنفسهم من أصحاب الأعمال ومن فى حكمهم كالطبيب والمهندس والمحاسب ( القانون رقم 108 لسنة 1976)، ثم القانون الخاص بالتأمين على العاملين المصريين فى الخارج غير المؤمن عليهم داخل البلاد (القانون رقم 50 لسنة 1978)، وأخيرًا القانون الخاص بالتأمين على العمالة غير المنتظمة أو ما يطلق عليه التأمين الشامل ويتمثل بصفة أساسية في التأمين على عمال الزراعة، العمالة المنزلية، الباعة الجائلين، صغار المشتغلين لحساب أنفسهم ( القانون رقم 112 لسنة 1980). أيضًا هناك القانون الخاص بالتأمين على أفراد القوات المسلحة (القانون رقم 90 لسنة 1975). للإطلاع على كافة القوانين المنظمة يرجى الدخول على الرابط: https://www.moss.gov.eg/ar-eg/
[2] أوصى البابا بتوزيع إيرادات كل كنيسة على النحو التالي: 30 في المئة لخدمة الرعاية الاجتماعية، و30 في المئة للإدارة والمرتبات و30 في المئة للمباني، و 10 في المئة للطوارئ، للمزيد عن فقراء المسيحيين في مصر يرجى مطالعة الرابط: https://assafirarabi.com/ar/
[3] هناك تعارض في بعض الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة بشأن حجم العمالة غير المنتظمة في مصر؛ فحسب وزيرة التضامن نيفين القباج فإن عددهم يزيد عن 8 ملايين عامل، بينما وفق وزير القوى العاملة حسن شحاته، في مطلع العام الجاري فقد وصلوا إلى 2.6 مليون عامل؛ بينما صرح إيهاب عبد العاطي، المستشار القانوني للوزير، في ديسمبر 2022، أن أعداد العمالة غير المنتظمة، وفقًا للتعريف الإحصائي، تصل إلى 10 أو 11 مليونًا في مصر، مؤكدًا أن المعروفين منهم 3 ملايين فقط. للحصول على معلومات يرجى مطالعة الرابط: https://tafnied.com//