صارت الأوضاع في غزة دامية ومقلقة، فأصبح الشعب العربي قلقًا وداعمًا. واتجه الوعي لتوثيق ما يدور حولنا. يبدو الأمر وكأن هذه المرة مختلفة عما مضى فهناك تغيرًا ملحوظًا في الوعي العالمي، أعلام فلسطين ترتفع بأيدي تطالب بتحرير الأرض ومغادرة الاحتلال. يرى ادوارد سعيد المفكر الفلسطيني ومن أحد مؤسسي دراسات ما بعد الاستعمارية أن التاريخ يكتبه دائماً المنتصرون.
يسعى الوعي الإنساني هذه الأيام لتوثيق الأحداث في محاولة لتغيير الحكي، فبدلاً من نظرة الغرب وإعلامه لقتلى الفلسطينيين على أنهم مجرد أرقام بينما باقي الشعوب تراهم بشراً لهم قصص وصور وانعكاس للأوضاع الراهنة، عليهم وعلى جيرانهم كذلك.
هذه المجزرة وتقع على حدود مصر، فكان من المتوقع أن تنال مصر نصيبًا من الصواريخ الطائشة وهذا ما حدث في طابا ونويبع منذ أيام وبعدها تغير المشهد السياحي تماما. يعد شهر أكتوبر في كل عام بداية موسم السياحي الشتوي، حيث يتوافد السائحون من كل البلاد قاصدين الدفء والشمس خاصة وأنه بداية الشتاء القارص في أوروبا
في نهاية سبتمبر من كل عام يلاحظ بعض الانتعاش للسياحة، بعد فصل الصيف الذي تخوى فيه المدن السياحية من البشر وذلك نظرا لحرارة أجواء البحر الأحمر. عادة أول من يظهر في شهر أكتوبر السياح الاسرائيليون وهذا ما حدث هذا العام أيضًا، إلا أن تغير الوضع بعد السابع من أكتوبر فقد غادر معظمهم. ظل البعض من الاسرائيليين والغريب أنهم كانوا من المتدينين من اليهود الملتحين واليهوديات المحجبات والأغرب في المشهد هو علامات الهلع التي بدت ظاهرة بوضوح على وجوههم.
مغادرة سيناء
لم يستمر ذلك طويلًا، فقد رحلوا في خلال أيام أيضًا وخصوصًا بعد بيان دولتهم بمغادرة شبه جزيرة سيناء. ظل المصريون والأوروبيون يسافرون إلى سيناء وبدا وكأن الوضع مستقر حتى سقطت "قذائف" في طابا ونويبع، لم تتسبب في أضرار جسيمة سوى الرعب والهلع وإصابات خفيفة – واعتذر الجانب الإسرائيلي عنها بحكم أنها غير مقصودة- ترتب على ذلك إلغاء ما يقرب من 40% من حجوزات شهر نوفمبر وهذا حسب رواية بعض أصحاب الشاليهات.
بحسب الشرق بلموبرج، غادر ما يصل إلى 95% من السياح الإسرائيليين فنادق "طابا" المصرية المطلة على البحر الأحمر، عبر منفذ طابا البري، بعد دعوة إسرائيل مواطنيها إلى مغادرة سيناء، بحسب مستثمرين سياحيين ومسؤول حكومي تحدثوا مع "الشرق"، مفضلين عدم الكشف عن هوياتهم.
منذ ما حدث في طابا ونويبع بدت دهب كمدينة أشباح في معظم الأوقات، فعند خروجي إلى الممشى السياحي الساعة الثانية عشر ظهرا كان ما يقرب من نصف المحلات التجارية مغلقة مع نسبة إشغال طفيفة في المقاهي والمطاعم. ومع موجة الأجواء شبه الحارة هذه الأيام يلاحظ قلة الزوار للشواطىء وهذا نتيجة طبيعية لحجوزات لم يحضر أصحابها وقرروا خيارا أكثر أمانا لهم.
اقرأ أيضًا:القتل في حقيبة دبلوماسية
كان الإسرائيليون يتدفقون إلى سيناء كالطوفان خاصةً في مواسم الأعياد، كعيد الفصح في إبريل وعيد الغفران في أكتوبر فتبدو مدن جنوب سيناء وكأنها قطعة من تل أبيب، فالناس من حولك يتحدثون العبرية ويرتدون القبعات التي ترمز للدين وتتسلل من تحتها الضفائر الصغيرة وحتى بعض المقاهي قد تخرج منها أصوات الأغاني العبرية، وحتى النادل يحاول تحدث العبرية.
في مارس من العام الحالي توقعت صحيفة يديعوت احرنوت الإسرائيلية وصول عدد السياح الإسرائيليين الى سيناء بنحو 200 ألف سائح، أي بما يقرب من 13ألف سائح في اليوم. يفضل السائح الإسرائيلي نويبع ورأس شيطان ورأس أبو جالوم لرخص الأسعار وهو أول ما يجذبهم بالإضافة إلى الشواطىء البديعة.
غزة الأولى باهتمام المصريين
من زاوية رؤية العاملين المصريون في قطاع السياحة، فإنهم يعتبرون أن قلة الدخل وتدهور السياحة لبضع شهور لا يضاهى إراقة الدماء وقتل الأبرياء. بعض الناس هنا يحاولون النظر ولو لشيء واحد إيجابي فبعضهم قرر أن هذا العام بمثابة راحة من التعامل مع السائح الإسرائيلي الذي يعد أسوأ سائح في العالم والبعض يرى أن الأجواء في دهب ستكون أكثر هدوء وراحة نفسية دون الحاجة للتعامل مع بعض السياح الصاخبين.
في كل الأحوال شعر كل هؤلاء بمدى الأسى وقسوة الأقدار ونحن هنا في هذه الأجواء وهناك مجزرة تطهير عرقي على مسافة كيلومترات. من وجهة نظر شخصية فقد لاحظت أن من كان يروق لهم أموال السائح الإسرائيلي باتوا الآن على دراية كاملة بحقيقتهم فمعظم العاملين في السياحة وخاصة المقاهي كانوا شديدو الترحيب بالإسرائيليين بل وهناك من كان يوفر لهم قائمة الأسعار باللغة العبرية وقيامهم بتغيير قائمة الأغاني إلى أغاني عبرية.
كان عدد من العمال يتفاخر بنطق بعض الكلمات العبرية أو ببقشيش بالشيكل وغيره. كان مبررهم الوحيد هو كرم بعض الإسرائيليين وليس كلهم، فأنا في حياتي لم أر سائحا معه زوجة وثلاثة أطفال يشتركون في مشروب واحد سوى حاملي هذه الجنسية. يرى بعض أصحاب الفنادق أن السياحة الإسرائيلية في النهاية لا تمثل نسبة كبرى من إجمالي السياحة في دهب وأن الإسرائيليين في النهاية يقصدون نويبع وأبو جالوم، أكثر هدوء وبساطة.
يقول حسان صاحب مخيم دهب، إن السياحة الإسرائيلية فى النهاية لا تمثل نسبة أكثر من 2% حتى أثناء انتشارهم في دهب: أنا بطفشهم بس أنا مش معتمد عليهم أصلاً يمكن اللى كنسلوا وخافوا واحد ولا اتنين". بينما قال سليمان وهو أيضًا صاحب أكثر من فندق في دهب إن السياحة الحالية من الجنسيات الأوروبية تمثل نسبة عالية من الإشغالات لديه وأنه فى الأساس لا يعتمد على الإسرائيليين حيث يظهرون فى مواسم محدودة كل عام وتروق لهم أجواء أبو جالوم ونويبع وأن حتى في أوقات زيارتهم يمثلون نحو 2 أو 3 % لا أكثر. يقول سليمان: الأحداث مشحونة وصعبة. الله يهديهم بس الحمدلله الشغل كويس وما اتأثرناش كتير. البلد فاضية بس فى شوية ناس من المصريين والجنسيات الأخرى ونسبة الحجوزات اللى اتلغت مش كتيرة خالص.
فى سانت كاترين يفضل محبو تسلق الجبال من الإسرائيليين قضاء الإجازات وهناك لا يشعرون بأي مشكلة في إنفاق المال فيصطحبون الدليل البدوي وينطلقون في الصحراء. يقول حسين دليل بدوي في سانت كاترين: السائح الإسرائيلي هناك مختلف عمن يقصد السواحل فهو ملم بطبيعة الجبال والصحاري القاحلة وأغلبهم يقدّر اصطحاب الدليل ولكن الإسرائيلي الكلاسيكي الذي لا يفضل صرف المال يتجول منفردا بخريطته وهو أيضاً تفكير منطقى ولكن للجبال في سانت كاترين طبيعة ماكرة للغاية فقد يأتى سيل في وادي واحد وفي غير موسمه. يقال إن خرائط الجبال والأودية الأكثر دقة قام بتنفيذها الإسرائيليون أثناء احتلالهم سيناء ولذلك فهم دائماً الأقدر على فهمها والاهتداء بها دون دليل بدوي.
يرى حسين أن ما خلفوه وراءهم من عمل زهيد وقلة دخل لن يتم مقارنته بأزمة شعب يتم إبادته. حسين ابن قبيلة الجبالية ذات التاريخ الطويل في النبل والتفاني في خدمة دير سانت كاترين وصاحب الأصول المختلطة مع ندرة الأصل العربي فيها ولكنها قبيلة ذات مكانة مرموقة فهم الجبالية نسبة لجبل موسى
"طوفان الأقصى" غير نظرة العالم للقضية الفلسطينية
ظلت فلسطين محتلة منذ عام 1948 وظلت قوات الاحتلال تقتل المدنيين وتقصف بيوتهم وتسرق أراضيهم، وظل العالم يتابع وهناك من يؤيد وهناك من لا يهتم. هذه المرة نرى التأثير القوي لوسائل التواصل الاجتماعي وتأثير الكلمة في محو عقود من تأثير الكلمات المغلوطة وخاصة لدى الغرب وتأثير الإعلام اليمينى.
أرى الناس هنا لا يكترث أغلبهم بما يحدث في العالم ولا يسعون لمعرفة ذلك أو التأثر به أملا في دفع الطاقة السلبية بعيدا. اليوم هناك الكثير من الحديث والتفكير فيما يحدث خارج سيناء. العديد من الأجانب هنا ينقلون رؤية السكان المحليين وتجربتهم في معاصرة كل ما يحدث لذويهم في الخارج في محاولة لتغيير وعي اختلطت فيه الحقيقة بتزييف التاريخ.
كتبت هايلي, فتاة أمريكية تعيش في دهب لمدة ثلاثة سنوات وفى مصر لأربع سنوات فيما معناه: " يجب وقف إراقة الدماء هذه وجلاء المحتل عن الأرض. لقد عاصرت المصريين والفلسطينيين هنا لأعوام، هم أناس طيبون وودودون للغاية وقد اهتموا بى طوال الأعوام الماضية وهذا عكس ما يسمعه العديد من الإعلام الغربى".
وهناك صديقة أخرى اتصلت بأختها في أمريكا في الساعة الرابعة فجرا لتقول لها :" هل تعرفي أي شىء عن فلسطين؟
لا.. لأن الإعلام في بلادنا لم يخبرنا الحقيقة " قالت لى هذه الصديقة أن حياتها فى مصر ساعدتها على كشف الغبار عن العديد من القضايا ووجهات النظر التي قام الإعلام بتشويهها. حتى هنا في دهب هناك من يختلط بالإسرائيليين ويتم تشويش القصة الحقيقية داخل عقولهم فيشيدون بلطف الإسرائيليين وودهم وشراسة الفلسطينيين دون النظر إلى أن صديقه الإسرائيلى هذا على الأغلب قام بالخدمة العسكرية في الجيش وقد تكون يداه ملوثتين بدم الأبرياء.
على الأرجح ساعد خلو سيناء من الإسرائيليين على رؤية هؤلاء للحقيقة كاملة دون أي عوامل تشويه. التجربة الشخصية لأفراد شجعان قرروا خوض الحياة بمفردهم في أرض غريبة ونبذ المجتمعات السابقة لبعضهم ساعدهم على التعاطف وفهم المشاعر الإنسانية بالإضافة إلى قرب التجربة سواء كانت على بعد أميال أو حتى عن طريق التعاملات اليومية مع ذوي الأصول الفلسطينية هنا. بعض الأصدقاء من بدو الشمال وخاصة الجدات يتحدثن كثيرا عن أسفارهم لفلسطين عندما كان المعبر مفتوحًا وكان السفر والعبور متاح حتى أن هناك من ولد فى فلسطين.
يرى بعضهم أن من ولد في فلسطين فهو محب للحياة بشكل خاص. مرورنا كسكان سيناء بذاتية التجربة إلى هذا الحد منحنا الشعور الحقيقى بأن من يراق دمهم هناك هم أسرنا وذوينا بالفعل.
انطلقت حملة قوية لمقاطعة المنتجات الداعمة شركاتها للكيان الصهيوني، وهي حملة تعد الأقوى على الإطلاق حتى الآن. في البداية لوحظ عدم اهتمام الجميع بهذه المقاطعة، فبدأ القليل بلفت نظر أصحاب المحلات إلى مقاطعة البعض للعديد من المنتجات وحينها كانت ردود الأفعال من مالكي المحلات في غاية الويى والمصداقية.
قرر معظمهم التواصل مع الشركات المصرية لتوزيع المزيد من المنتجات في دهب وقد وصف أحدهم ذلك بدعم الإنسانية التي لن تفنى بمجرد التوقف عن استهلاك بعض المشروبات. في السوبرماركت كان هناك ذلك البدوي العجوز الذي لم يستطيع القراءة ولكنه ظل يسأل كل المعلومات عن منتج الجبن الذي أراد شراءه وعن البديل له وفي النهاية قرر عدم شراءه والعودة عند توفر البديل.
في النهاية يظل جزءً من المعركة قضية إدراك وإعمال وعى لذلك يسعى المحتل لتشويه الإدراك وطمس الوعي العالمي ولكن الأجيال الحالية على دراية كاملة بتوفر المعلومات والقدرة على التوثيق. وبصدد ذلك يقول المفكر العبقري ادوارد سعيد
" لا يمكننا النضال من أجل حقوقنا وتاريخنا ومستقبلنا دون التسلح بأسلحة النقد والوعي المخلص"