رحلة بحث عن “براح آمن” يتسع لأطفال التوحد

آية ياسر
آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة. صدرت لها ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين

“ناس كتير مش بيتفهموا حالة ابني، بيفتكروه ولد مش متربي عشان بيمسك أي حاجة تقابله وممكن يحطها في فمه.. محدش بيبقى عارف إن عنده اضطرابات حسية بسبب التوحد.. فيه ناس بتفتكره مختل وده بيألمني جدًا”.

أحيانًا تتمنى “فيروز محمد” لو كانت تمتلك هي وصغيرها “سيف” ذو الأعوام الستة المُشخَص باضطراب “طيف التوحد”، القدرة على أن يكونا غير مرئيين، كي يتجنبا مواقف التنمر وإساءات الآخرين لهما في الشارع والأماكن العامة.

يُعرّف اضطراب طيف التوحد بأنه حالة ترتبط بنمو الدماغ وتؤثر على كيفية تمييز الشخص للآخرين والتعامل معهم على المستوى الاجتماعي، مما يتسبب في حدوث مشكلات في التفاعل والتواصل الاجتماعي، ويتضمن الاضطراب أنماط محدودة ومتكررة من السلوكيات والأعراض التي تتفاوت في مستوى الشدة، يبدأ اضطراب طيف التوحد في مرحلة الطفولة المبكرة ويتسبب في نهاية المطاف بحدوث مشكلات على مستوى الأداء الاجتماعي، لا يوجد علاج لاضطراب طيف التوحد، إلا أن العلاج المكثف المبكر يفيد في تحسين معظم الحالات.

“(معلش أصله عبيط شوية)؛ هكذا قالت لي بائعة خضار في أحد أسواق حي الجيزة الذي نعيش فيه.. مثل هذه المواقف كيف أتحملها؟”؛ تقول في حديثها لمنصة “فكر تاني”.

تعتبر “فيروز” التعليقات المسيئة التي تصدر عن البسطاء سببها انخفاض التعليم والوعي وهي تستوعبها رغم الألم، لكن ما يزعجها حقيقة هي عنصرية أشخاص يفترض بهم الحصول على قدر عال من التعليم، يرفضون أن يقترب طفلها من أطفالهم في النوادي والحدائق، أو يطلبون منها عدم إحضاره معها إلى المتاجر وأماكن التسوق، فقط لأنه مختلف واختلافه يزعجهم.

شاطئ البحر.. براحًا آمنًا

في الوقت الذي يبرر فيه بعض الناس تصرفات الطفل “سيف” بكونه ما يزال صغيرًا، فإن “نادية حسن” لا تجد نفس القدر من التماس العذر لابنتها المراهقة “مريم” ذات الـ14 عامًا، إذ لا يرغب المحيطون في السماح لأطفالهم بمشاركتها اللعب في النوادي والحدائق، كونها كبيرة نوعًا ما من الناحية العمرية. “ينكرون كونها لا تزال تتمتع ببراءة الصغار في تصرفاتها، ويطلبون مني إبقاءها في المنزل، ويرفضون دمجها بالأماكن العامة، وهو ما يثير الحزن في نفس الأم ويدفعها للانهيار”.

لا تقتصر معاناة “مريم” ووالدتها، اللتان تعيشان في محافظة البحر الأحمر، على ما يلاقيانه بالشارع، بل وصل الأمر لرفضها في الحضانات بحجة أنها ستجعل الأطفال الطبيعيون يقلدون سلوكياتها وسمات التوحد لديها، بينما يسخر الأشخاص في الدوائر المحيطة من الأهل والأصدقاء منها وينعتونها بـ”الهبلة”، في وقت يدعي المتعاطفون من البسطاء أنها “بتاعة ربنا” وليست بحاجة إلى علاج.

تتضمن سمات أو أعراض التوحد قلة الاتصال بالعين أو عدم الاستجابة للاسم وعدم الاكتراث لمقدمي الرعاية، رفض العناق والإمساك به، يفضل اللعب بمفرده، عدم الكلام أو التأخر في الكلام، يبدو ألا يفهم الأسئلة أو التوجيهات البسيطة، لا يعبر عن عواطفه أو مشاعره، ويبدو غير مدرك لمشاعر الآخرين، التفاعل الاجتماعي على نحو غير ملائم بأن يكون متبلدًا أو عدائيًا أو مخرّبًا، صعوبة التعرف على الإشارات غير اللفظية، مثل تفسير تعبيرات الوجه للأشخاص أو وضع الجسم أو لهجة الصوت، ويعاني بعضهم صعوبة في التعلم، وبعضهم لديه علامات أقل من الذكاء المعتاد، في حين يتراوح معدل ذكاء أطفال التوحد الآخرون من الطبيعي إلى المرتفع ويتعلمون بسرعة، لكن تكون لديهم مشكلة في التواصل والتكيف مع المواقف الاجتماعية.

لا تجد “مريم” براحًا آمنًا يتسع لها سوى شاطئ البحر الأحمر ومياهه؛ هناك تسبح وتلهو بحرية أمام ناظري أمها دون تنمر أو تعليقات جارحة أو أحكام قاسية. 

أبشع صور التنمر

بالنسبة إلى “سونيا عفيفي”، وهي أم للطفل التوحدي “مؤمن” صاحب 14 عامًا، فإن المعاناة مضاعفة؛ كلاهما يتلقى نظرة التنمر ذاتها؛ “مؤمن” لفرط حركته بفعل توحده، وأمه لإصابتها بمرض شلل الأطفال.

“مؤمن” الذي قطع شوطًا كبيرًا في التأهيل الذي مكنه اليوم من الحديث مع الآخرين وتلقى الدروس وفقًا لنظام الدمج، لا يذهب إلى مدرسته بمدينة طنطا إلاّ في أوقات الامتحانات. يحفظ عدة سور من القرآن ويشارك والدته الصلاة والصيام، لكن عائلته الكبيرة لا تزال غير متقبلة لحالته وترفض الاندماج معه. تقول لـ”فكر تاني”: “صرت أتجنبهم ولا أرغب في زيارات عائلية.. لن أترك ابني وحيدًا.. أنا معه في هذا”.

“تاعبة نفسك ليه يا مدام وعايزة تعلمي ابنك؟!، اتقبلي الحقيقة إن ابنك متخلف عقليًا وعمره ما هيتعلم ولا هيفلح”؛ هذا ما قالته ممرضة في مستشفى الصحة النفسية بطنطا للأم، ممارسة أبشع صور التنمر بحق الطفل الصغير حين جاء للكشف الطبي والتقييم ضمن إجراءات الدمج في التعليم.

وغالبًا ما يواجه مؤمن ووالدته الاستهجان والاستنكار لسلوكياته وسوء الظن به. وبخه مالك إحدى السيارات وصرخ في وجهه مرة لمجرد أنه كان يحدق بشعار السيارة بسبب هوسه برسم العلامات التجارية للسيارات، ظنًا منه أنه ينوي تخريبها، وفي أي مكان عام تجد “سونيا” من يطلبون منها الإمساك بابنها لأنهم لا يتوقعون ما يمكنه فعله ويخشون أن يتسبب لهم في أضرار وتلفيات.

“سفينة نجاة في بحر التوحد”

يتعرض الأطفال ممن لديهم اضطراب “طيف التوحد” لكثير من التنمر والإساءات في الأماكن العامة بمصر، ومحاولات منع دمجهم في المجتمع، رغم أن المادة رقم (53) في الدستور المصري لعام 2014 أكدت على عدم التمييز بسبب الإعاقة، وجاء القانون رقم 10 لسنة 2018 مؤكدًا على حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الدمج الشامل، عبر استخدام كل الخدمات والأنشطة والمرافق العامة ووسائل التعليم، على قدم المساواة مع الآخرين في المجتمع، دون تمييز على أساس الإعاقة في شتى مناحي الحياة، من خلال السياسات والخطط والتدابير والبرامج والتوعية والمشاركة الفعالة.

رحلة الطفل “أنس” الذي تجاوز العاشرة من عمره مع التوحد، كانت مصدر إلهام لوالده “هاني زكي” جعلته يدونها بحروف من الوجع والأمل في كتابه “لست وحيدًا.. سفينة نجاة في بحر التوحد”.

إذ رغم أنه قطع شوطًا كبيرًا في العلاج والتأهيل لم تخلو رحلتهما هو وابنه من المضايقات التي يُرجعها إلى عدم إدراك غالبية الناس لحالة أطفال التوحد وطبيعة اضطرابهم، كما أنه يعتقد أن الشوارع والأماكن العامة ليست براحًا آمنًا لهؤلاء الأطفال بسبب عدم إدراك التوحديين، لمفهوم الخطر، لكنه رغم ذلك يصطحب ابنه للخروج إلى الشارع بصفة يومية ولا يسمح لتلك المواقف العابرة بتثبيط عزيمته، مؤكدًا أن الحل يكمن في التوعية.

وتوضح أمنية الصفتي، أخصائي تأهيل التوحد ومدير المركز العربي لتنمية المهارات، أن المضايقات التي يتعرض لها أطفال التوحد وذويهم تبدأ في نطاق الأقارب والأصدقاء خلال الزيارات نتيجة عدم تفهمهم لحالة الأطفال وخاصة إذا كانوا في المراحل الأولى من العلاج والتي يكون عمرهم العقلي وقتها أقرب للطفل الرضيع، وتمتد أشكال التنمر والمضايقات إلى الشوارع والمتنزهات والنوادي وقد تتسبب في حدوث مشاجرات بين الأهالي؛ حيث يتهم البعض ممن يفتقرون إلى الوعي بمرض التوحد وإلى الإنسانية والرحمة، الطفل بقلة الأدب والتخلف العقلي ويطلبون من ذويه حبسه بالبيت، لذا تكون بعض أماكن الـ”كيدز ايريا” التي لديها إجراءات تأمين عالية للأطفال أفضل للتنزه.

وتنفي الصفتي، لـ”فكر تاني”، أن يشكل أطفال التوحد خطرًا على غيرهم من الأطفال، باستثناء حالات خاصة وصلت إلى سن المراهقة دون علاج أو تأهيل ولا يزال عمرهم العقلي كالطفل الصغير، وهؤلاء ربما يقومون بسلوك عنيف لعدم قدرتهم على التواصل والتعبير عن أنفسهم.

الحق في الدمج المجتمعي

وبسبب ما يعانيه أطفال التوحد وذويهم في الأماكن العامة، فإن أخصائي العلاج الوظيفي والحركي أسامة الصمّاد، مدير مركز الشامل لرعاية الطفل بدمنهور ومدير مراكز التأهيل التابعة لوزارة الشباب والرياضة بالتعاون مع مؤسسة الشيخ زايد، كان قد تقدم بمقترح إلى المبادرة الرئاسية “حياة كريمة” في البحيرة، بتخصيص حديقة عامة في كل حي سكني لتكون للأطفال ذوي الهمم بها ألعاب وأنشطة آمنة بالنسبة إليهم، نظراً لحاجتهم الماسة للتنزه وممارسة الأنشطة للتنفيس عن أنفسهم وتخليصهم من السلوكيات الخاصة، وصعوبة القيام بذلك في النوادي والحدائق العامة لأن نظرات الاستغراب والاشمئزاز والاستنكار تلاحقهم بسبب سماتهم وسلوكياتهم ونوبات غضبهم ويتعرضون للتنمر والمضايقات والمواقف المحرجة هم وذويهم.

في حين رفضت الدكتورة مها هلالي، مستشار وزيرة التضامن الاجتماعي لشؤون ذوي الإعاقة، ورئيسة مجلس إدارة الجمعية المصرية للأشخاص ذوى الإعاقة والتوحد، فكرة إقامة قرى أو مدن لذوي التوحد لأن ذلك يتعارض مع حقهم في الدمج المجتمعي ويحول بين قدرة أفراد المجتمع على التعامل مع هذا الاضطراب، معتبرة أنها ستتحول إلى سجون يقضون فيها حياتهم، مشددة على أن الدمج حق أصيل لذوي التوحد بموجب المادة (10) من قانون 2018.

وتؤكد “هلالي” أن قلة الوعي بشأن التوحد وكونه أحد الإعاقات غير الظاهرة يجعل البعض يسيئون فهمه، أو يظنون أنه مرض معدٍ سيصيب أطفالهم إذا تم دمج أطفال التوحد معهم أو على الأقل سيقومون بتقليد سلوكياتهم، أو يعتقدون أن هؤلاء الأطفال سيؤذون أطفالهم لذا يرفضون تركهم يلعبون معهم.

الدمج بالتعليم حبر على ورق

وفي الوقت الذي يتم فيه قبول أوراق دمج الكثير من أطفال التوحد بالمدارس العامة، فإنه يكون دمجًا مع إيقاف التنفيذ، كما هو الحال مع الطفل “مؤمن” والطفلة “مريم”، واللذان يحضران إلى المدرسة فقط لتأدية الامتحانات النهائية دون أن يتمكنا من حضور الحصص الدراسة ومشاركة زملاءهم اللعب والأنشطة، في حين تتمكن بعض الأسر ميسورة الحال من إحضار معلمة “شادو” ترافق طفلها بالفصل الدراسي، لمساعدته على الاندماج والتعلم والتواصل مع زملائه ومعلميه، مقابل بضعة آلاف من الجنيهات شهريًا تتوقف على عدد سنوات الخبرة الخاصة بها.

ويشير مصطلح الدمج في التعليم إلى تعليم الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في الفصول العادية خلال فترات زمنية محددة استنادًا إلى مهاراتهم، وهذا يعني دمج فصول التعليم العادية مع فصول التربية الخاصة.

ولا تخلو سلسلة الإجراءات من بيروقراطية وروتين كما تحكي “أسماء محمود”، التي اجتازت إجراءات الدمج قبل عامين لابنها “شادي” الذي كان في التاسعة من عمره، ونجح في اختبار الذكاء بإحدى مستشفيات التأمين الصحي. تقول: “إحنا مجبورين نستحمل بهدلة الروتين احنا وأولادنا، هي لفة صعبة شوية ومتعبة”.

تضيف “أسماء” لـ”فكر تاني”: “في الأول دخلته مدرسة خاصة مكانش بيستفاد حاجة لأنه مش مركز مع الميس وبيعمل دوشة في الفصل ويشتت انتباه الأولاد والمُعلمة بتضايق وكترت الشكاوي فحولته دمج في مدرسة حكومية عشان بدفع مصاريف دراسية كبيرة على الفاضي وبوديه جلسات التأهيل وبتيجي له معلمة في البيت والمدرسة مش بيروحها غير على الامتحانات”.

وتشترط وزارة التربية والتعليم لقبول دمج الطلاب المصابين باضطراب طيف التوحد، بمدارس التعليم العام في مصر: استخدام إحدى أدوات تشخيص التوحد: کارز (30:36) – جليام (80: 110)، يسمح بقبول ذوي الإعاقة الذهنية البسيطة وبطئ التعلم بمدارس التعليم العام والفني الحاصلين على نسبة ذكاء لا تقل عن 60 ولا تزيد عن 84.

ويبدو أن كثير من أطفال التوحد لا يجدون براحًا آمنًا يتسع لهم داخل المدارس، رغم أحقيتهم في الدمج بمدارس التعليم العام وفقًا للقانون رقم 10 لسنة 2018 والقرار الوزاري 252 لسنة 2017 والكتاب الدورى رقم 3 لسنة 2019 بشأن قواعد قبول طلاب الدمج.

“فاطمة عبدالهادي”، واحدة من أولئك الأمهات اللواتي مررن بتجربة سيئة حين حاولت العام الماضي التقديم لابنتها “ريم”، المصابة بتوحد من الدرجة المتوسطة، والتي كانت وقتها دون الخامسة من العمر، في نظام الدمج لتقديم ملفها بالمدرسة، بسبب اختبار الذكاء الذي أٌجري لابنتها بطريقة تعتقد أنها غير منصفة على الإطلاق.

تقول لـ”فكر تاني”: “كان أسوأ يوم بالنسبة لبنتي، انتظار طويل وزحمة في المستشفى خلاها عصبية ومتوترة ودخلنا لأخصائية معندهاش رحمة، البنت فضلت تصرخ، ونتيجة اختبار الذكاء طلعت أقل من 60 واختبار كارز طلعها توحد شديد، وطبعًا ما نفعش تدخل دمج، بنتي فضلت بعدها أسبوع عياط ونوبات خوف”.

وتنصح أخصائية التخاطب، ياسمين العطار، أهالي أطفال التوحد بالتريث قبل محاولة دمجهم بالتعليم لحين انتهاء تدريبهم على مهارات التواصل البصري والإدراك والتقليد والطلب والانتباه والتركيز ومهارات رعاية الذات، وأن يكون الطفل مؤهل سلوكيًا لمرحلة الدمج ويتخلص من السلوكيات السيئة كالضرب، العض، الصراخ، البكاء الهستيري بدون سبب، فرط الحركة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة