في العام 2013 حينما كان لا يزال نائبًا للرئيس الأمريكي قال جون بايدن: "لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نخترع واحدة"، واليوم وبعد مجزرة مستشفى "المعمداني" في قطاع غزة، جافظ بايدن الذي بات رئيسًا للولايات المتحدة، على نبرته الداعمة رغم كل الانتقادات الأخلاقية، نافيًا أن تكون تل أبيب ارتكبت عملية القصف الذي أسقط أكثر من 500 شهيد بينهم أطفال ومئات المصابين الآخرين، مشيرًا بأصبع اتهام إلى المقاومة، متجاهلًا عدم تمكن دولة الاحتلال من تقديم دليل واحد ينفي مسؤوليتها عن هذه الجريمة التي ترتقي إلى جرائم حرب.
أظهرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عبر سنوات طوال دعمًا لا محدود لدولة الاحتلال ووجودها وضمان تفوقها على جاراتها في الشرق الأوسط، ازدادت وتيرته في عهد الرئيسين ترامب وبايدن، الذي أعلن أن زيارته الحالية إلى تل أبيب "لكي يعرف الناس في العالم بأسره أن الولايات المتحدة تقف مع إسرائيل"، مشيرًا إلى أنّ بلاده تريد أن تتأكد من امتلاك إسرائيل ما تحتاجه للرد على هجمات حركة حماس، التي اعتبر أنها ارتكبت ما وصفها بفظائع في إسرائيل.
من تهم التطرف للتبني
دعم تاريخي فرض ولا يزال يفرض تساؤلات عن أسبابه وتأثيراتها الممتدة على القضية الفلسطينية ووضع غزة الآن، والتي استعرضتها الصحفية الأمريكية نيكول ناريا في تقرير بموقع "فوكس - Vox" الإلكتروني، تحت عنوان: " كيف أصبحت الولايات المتحدة أقرب حليف لإسرائيل؟".
تقول "ناريا" إنه على الرغم من الخلافات السياسية التي أدت في بعض الأحيان إلى توتر العلاقات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبايدن، فقد أكد اندلاع الحرب على غزة من جديد أن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تزالان مترابطتين بإحكام كما كانتا دائمًا.
ففي الأيام الأخيرة، أكد المسؤولون الأمريكيون دعمهم الثابت لإسرائيل - دبلوماسيًا وماليًا وعسكريًا. وكان بايدن، الذي وصف حكومة نتنياهو اليمينية بأنها تضم أعضاء هم الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، واضحًا في خطاب ألقاه في البيت الأبيض في وقت سابق من هذا الشهر، قال فيه: "نحن نقف مع إسرائيل... وسنتأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه لرعاية مواطنيها، والدفاع عن نفسها. والرد على هذا الهجوم".
وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي ظهر إلى جانب نتنياهو قبل أسبوع: "قد تكون قويا بما يكفي للدفاع عن نفسك، ولكن طالما أن أمريكا موجودة، فلن تضطر إلى ذلك أبدا. سنكون هناك دائمًا بجانبك".
158 مليار دولار
طوال هذه الحرب التي شنتها على قطاع غزة انتقامًا لعملية "طوفان الأقصى"، تجاهلت إسرائيل كل قواعد الحرب فيما يخص سلامة المدنيين وتجنبيهم الاستهداف. ومع ذلك، واصلت الولايات المتحدة مساعداتها غير المشروطة لها، والتي بلغ مجموعها 158 مليار دولار منذ الحرب العالمية الثانية - وهو أكثر مما قدمته الولايات المتحدة لأي دولة أخرى، كما تقول "ناريا"، التي تشير إلى أنه بينما قال المسؤولون الأمريكيون إنهم لن يرسلوا قوات إلى إسرائيل، تظل الولايات المتحدة أيضًا منخرطة بعمق في دعم الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن.
كما أرسلت واشنطن حاملات صواريخ موجهة ومقاتلات من طراز إف-35 بين معدات أخرى، في وقت تتوقع الصحفية الأمريكية أن يأذن الكونجرس بتقديم مساعدات إضافية أيضًا.
تاريخ طويل للمساعدات العسكرية الأمريكية ساعدت هذه الدولة الصغيرة جدًا مقارنة بجيرانها على تطوير قدراتها العسكرية، ولا تزال تمثل حصة كبيرة من الميزانية العسكرية الإسرائيلية، كما تقول "ناريا"، التي تؤكد أنه بمرور الوقت، أصبحت المساعدات الأمريكية أقل أهمية من الناحية العملياتية بالنسبة لإسرائيل التي طورت قدرتها الإنتاجية العسكرية الخاصة، وإن كان هذا لم يوقف الولايات المتحدة عن مواصلة مساعداتها كدليل على دعمها الحازم لإسرائيل، حتى في مواجهة المعارضة العالمية لانتهاكات إسرائيل بحق الفلسطينيين.
حرب 67.. نقطة التحول
تعود "ناريا" -في تقريرها بـ"فوكس"- إلى تاريخ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بدءًا من دعم إنشاء دولة يهودية بعد الحرب العالمية الثانية، مرورًا بعقود أولى من الوجود الإسرائيلي، الذي لم تكن خلالها الرابطة ملحوظة بشكل خاص بين الجانبين، وصولًا إلى فترة الرئيس السابق جون ف. كينيدي الذي جعل إسرائيل في موضع اهتمام أكبر، ووصف العلاقات معها بأنها "خاصة"، تقوم على الالتزام المشترك بحق إسرائيل في الوجود بسلام في عام 1962
وتشير الصحفية الأمريكية أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لم تدخل مرحلة الازدهار الحقيقية إلا في أعقاب حرب عام 1967 ضد مصر وسوريا، بعد تمكنها من هزيمة تحالف كامل من الدول العربية، مع خسائر قليلة نسبيًا وقليل من المساعدة من القوى الخارجية واحتلال مساحات واسعة من الأراضي الجديدة، بما في ذلك غزة والضفة الغربية.
تقول "ناريا": "كانت الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء النفوذ السوفييتي في المنطقة وكان الصراع مرشح التوسع إلى معركة بالوكالة في الحرب الباردة إذا تصاعدت أكثر. لكن إسرائيل وضعت حدًا سريعًا لهذه المشكلة - وجعلت من نفسها حليفًا جذابًا في وقت كانت الولايات المتحدة منشغلة بحرب فيتنام ولم يكن لديها الرغبة والقدرة اللازمة للتدخل عسكريًا في الشرق الأوسط".
ويقول جويل بينين، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد: "الأمر الأساسي في حرب 1967 هو أن إسرائيل هزمت العرب في ستة أيام دون أي مساعدة عسكرية أميركية على الإطلاق.. هذا جعل الولايات المتحدة تقول: هؤلاء الرجال جيدون. نحن في حالة من الفوضى في فيتنام. دعونا نكون متصلين بهم. وتطورت الأمور تدريجيًا مع مرور الوقت".
الثمانينيات الذهبية
في الثمانينيات والتسعينيات، بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل التعاون في مجال البحث والتطوير وإنتاج الأسلحة. وفي عام 1999، وبينما كان الرئيس السابق بِل كلينتون يعتزم تعزيز السلام الدائم بين إسرائيل وجيرانها العرب، وقعت الولايات المتحدة أول مذكرات من ثلاث مذكرات مدتها عشر سنوات تلتزم فيها بتقديم المليارات من المساعدات العسكرية سنويًا.
بينما بعد هجمات 11 سبتمبر، ساعدت هذه الأموال في تحفيز التقدم في تكنولوجيا المراقبة الإسرائيلية واستخبارات الإشارات، والتي بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، "كانت على الأقل جيدة مثل الولايات المتحدة، وفي بعض الحالات أفضل منها"، كما يشير تقرير "ناريا".
وفي عام 2011، نفذت إسرائيل نظام القبة الحديدية – وهو نظام دفاع صاروخي جوي قصير المدى يستخدم تكنولوجيا الرادار لتدمير الصواريخ التي تطلقها حماس والجماعات المسلحة الأخرى. يستخدم النظام أجزاء مصنوعة في الولايات المتحدة، ويتم تمويله جزئيًا من قبل الولايات المتحدة.
وحاليًا، تتلقى إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة 3.8 مليار دولار من الولايات المتحدة سنويًا بموجب مذكرة موقعة في عام 2019. ويمثل ذلك حوالي 16% من إجمالي الميزانية العسكرية لإسرائيل في عام 2022.
تنقل "ناريا" عن مايكل حنا، مدير الولايات المتحدة لمجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة تركز على منع الصراعات، أن "هذه العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز تطور القوات المسلحة الإسرائيلية". ومن ثم تعزيز تفوقها على جيرانها العرب في المنطقة.
"كان علينا أن نخترع واحدة"
تقول "ناريا" إن المسؤولين الأميركيين ينظرون منذ فترة طويلة إلى إسرائيل باعتبارها قوة استقرار في الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى إبعاد الاضطرابات التي من شأنها أن تهدد القدرة على الوصول إلى إمدادات النفط الإقليمية التي تظل أميركا تعتمد عليها.
ففي البداية، عملت إسرائيل كقوة موازية للنفوذ السوفييتي، لكن هذا الخط من التفكير استمر حتى بعد الحرب الباردة. وأصبح الأمر أكثر انتشارًا بعد أحداث 11 سبتمبر، عندما تم اكتشاف أن بعض مرتكبي الهجوم كانوا مواطنين من المملكة العربية السعودية، التي اعتبرتها الولايات المتحدة حليفًا رئيسيًا آخر في المنطقة.
ومع تشككها في قدرتها على الاستمرار في الاعتماد على السعوديين، اعتمدت الولايات المتحدة بشكل أكبر على إسرائيل بناءً على تصور مفاده أن لديها المزيد من القيم والمصالح المشتركة. ويتضمن ذلك التزامًا مشتركًا بالديمقراطية، على الرغم من أن خطة نتنياهو غير الديمقراطية لإصلاح القضاء الإسرائيلي وضعت هذا الأمر موضع التساؤل مؤخرًا.
"إنه ليس مجرد التزام أخلاقي طويل الأمد"؛ قال بايدن، نائب الرئيس آنذاك، في عام 2013: "إنه التزام استراتيجي". وأضاف: "إن وجود إسرائيل مستقلة وآمنة على حدودها ومعترف بها من قبل العالم هو في المصلحة الاستراتيجية العملية للولايات المتحدة الأمريكية. كنت أقول... لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نخترع واحدة".
رغم كل شيء
تقول الصحفية الأمريكية إن دعم إسرائيل كان أمرًا شائعًا سياسيًا بشكل لا يصدق في الولايات المتحدة، مدعومًا بتمويل جيد لجماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل في واشنطن. ومع ذلك، فقد تضاءل هذا الدعم العام بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، لا سيما بين الديمقراطيين، الذين دعموا الفلسطينيين بشكل هامشي على الإسرائيليين في استطلاع أجرته مؤسسة جالوب في مارس 2023 للمرة الأولى.
ويزعم البعض أن الفوائد المترتبة على علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل لا تبرر ثمنها الأخلاقي والحرفي. وكما أشار ستيفن والت، أستاذ الشؤون الدولية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، في مجلة فورين بوليسي، فإن إسرائيل لم تدعم الولايات المتحدة في حربين ضد العراق، بل إنها طلبت حماية الولايات المتحدة من هجمات صواريخ سكود العراقية في حرب الخليج الأولى. علاوة على ذلك، كتب قبل حرب غزة: "لقد دمرت عقود من السيطرة الإسرائيلية الوحشية الحجة الأخلاقية للدعم الأمريكي غير المشروط".
ولكن يبدو أن صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة قد تقبلوا أن الأمر لا يتعدى تكلفة الحفاظ على هذه العلاقة الخاصة، التي ليست ذات طبيعة عسكرية وسياسية فحسب، بل إنها شخصية أيضُا، وفق ما تقوله "ناريا".