"الدكتور قال لي: عندك اكتئاب غير معالج هو سبب تدهور حالتي"
لوقت طويل كانت "يسرا" تعاني من الصداع النصفي. ظل يداهمها لشهور كضيف ثقيل مزعج، تكتم تهشيمه رأسها بالمسكنات. "مكنتش عارفة أعيش.. صداع طول الوقت وإحساس بأني مش قادرة أسمع صوت أي حد.. مش عارفة اشتغل ولا أكل.. محدش متعاطف معايا.. لا أهلي ولا جوزي.. كلهم بيقولوا دا صداع بطلي شكوى كفايا دلع".
مع اشتداد الألم، قررت "يسرا" الذهاب إلى الطبيب: "الدكتور قال لي إني عندي اكتئاب غير معالج، ساب أثر على جسمي كله وهو اللي عامل لي صداع وألم في كل جسمي.. الدكتور حذرني من تدهور حالتي.. قال لي مش عايز أشوفك هنا تاني روحي لمختص نفسي.. خرجت من عنده مش مصدقة إنه كشفني كدا، فعلا سمعت كلامه ووقفت مسكنات بالتدريج وروحت لطبيب نفسي وبدأت رحلة علاج".
تجربة "يسرا"، صاحبة عمر الـ 34 عامًا، لا تختلف كثيرًا عن نساء أخريات كثر اللاتي يعانين من الاضطراب الاكتئابي المستمر طويل الأمد، والذي يصل في بعض الحالات إلى عدم الرغبة في الاستحمام أو الخروج من الغرفة، ولهذا خصصت منظمة الصحة العالمية يوم 10 أكتوبر من كل عام، يومًا عالميًا للتوعية بقضايا الصحة النفسية، لتوضيح ما يشعر به من يعانون منه.
تقول "يسرا": "تحس كأن حد مكتفك.. مش قادر تاخد نفسك، وأفكار سلبية بتيجي في راسك كل ما تفكر أو تحاول تقوم.. مش عارف تستطعم الأكل ولا الخروجات ولا اللمة.. عايز تنهي حياتك وتخلص.. بتحس أن الانتحار الحل".
الحل في العلاج النفسي
أسباب الإصابة بالاكتئاب تكاد تكون معروفة ومحددة بـ: حزن، قلق، تجربة سيئة، ضغوط مستمرة، التعرض للعنف أو التحرش أو المضايقات المستمرة في الشارع. لكن من واقع التجارب التي تحدثنا مع أصحابها، المصاب بالاكتئاب لا يعرف سبب إصابته به، ويبقى تائهًا في دائرته لشهور وسنوات، لا يخلصه منها إلا قرار اللجوء لمختص ومعالج نفسي، كما فعلت "إسراء".
تقول: "فضلت تايهة شهور.. شوية اشتكي من ظهري، وشوية أصحى أيدي تعباني من غير سبب، روحت لأكتر من دكتور.. واحد منهم قال لي إن عندي اكتئاب غير معالج".
بعد جلسات مع المعالج النفسي، تم تشخيص إسراء - 27 عامًا، بمرض "فيبروميالجيا" الألم العضلي الليفي.
و"فيبروميالجيا" هو اضطراب يسبب ألمًا واسع المدى في البنية العضلية الهيكلية ويصحبه الشعور بالإرهاق واضطرابات النوم والذاكرة والحالة المزاجية. لكن يعتقد الباحثون أنه يزيد الإحساس بالألم عن طريق التأثير على طريقة معالجة الدماغ والحبل النخاعي للإشارات المؤلمة وغير المؤلمة.
تبدأ الأعراض غالبًا بعد وقوع حادث كالإصابة الجسدية أو الجراحة أو العدوى أو الإجهاد النفسي الشديد. وفي حالات أخرى، تتزايد الأعراض تدريجيًا بمرور الوقت دون أي سبب محفز. والنساء هن الفئة الأكثر عرضة للإصابة به.
"كنت قلقانة الصراحة قوي، لكن الدكتور قال لي إن غالبية الستات عندها اكتئاب بسبب القلق والخوف والتفاصيل المرهقة"؛ تقول "إسراء".
النساء.. الجنس المتوتر
حديث الطبيب مع "إسراء" عن إصابة النساء بالاكتئاب يتطابق مع آخر إحصائية لمنظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن النساء هن الأكثر تعرضا للإصابة بالاكتئاب "الاضطراب الاكتئابي" من الرجال.
ويقدر عدد المصابين بالاكتئاب بنحو 280 مليون شخص في العالم، بينما يزيد انتشاره بين النساء مقارنة بالرجال بنسبة 50%، فيما تعاني أكثر من 10% من النساء الحوامل والنساء اللاتي ولدن حديثًا من أعراضه أيضًا.
وهذه النسبة أكدتها أيضًا دراسة بريطانية نُشرت على موقع "BBC" أفادت بأن الاضطرابات النفسية أكثر شيوعًا لدى النساء منها في الرجال، بنسبة تتراوح بين 20% و40%، والسبب يعود إلى التوتر الذي تتعرض له النساء بسبب توليهن مهام عديدة وصعوبات ومخاطر يواجهونها في المنزل والعمل والمجتمع.
في دراسة نشرت بعنوان "الجنس المتوتر" على منصة "يو بي آي"، يفسر الدكتور دانييل فريمان الباحث في العلوم النفسية بجامعة أكسفورد، إصابة النساء بالاكتئاب بمعدلات أكثر ارتفاعًا من الرجال جراء المتطلبات المرافقة لأدوارهن الاجتماعية، إذ يُتوقع من المرأة أن تكون الراعية والمربية بالمنزل والعاملة، كما يطلب منها في الوقت عينه أن يكون جسدها رشيقًا ومظهرها مثاليًا.
اقرأ أيضًا: نحو فهم أعمق لمفهوم العاطفة عبر التاريخ
يضيف "فريمان" -في دراسته- أن ذلك يترافق مع تقليل أهمية العمل المنزلي الذي تقوم به النساء، وحصولهن على رواتب أقل مقارنة مع الرجال، وصعوبة أكبر في التقدم بالوظائف، بالإضافة لتوجيهات حول صورة المرأة المثالية، الأمر الذي يمثل ضغطًا نفسيًا يزيد مع الشعور بالإخفاق في أداء المهام الذي يقود في النهاية إلى اضطرابات نفسية خطيرة.
الوصم المجتمعي
تواجه النساء دومًا ضغوطًا مجتمعية، تزداد كلما كن منتميات لشعوب شرقية، تنظر إلى آلامهن باعتبارها "دلع" تركنه في الأغلب إلى مسألة الهرمونات والمشاعر. تعاني النساء في المجتمعات العربية من هذه الوصمة شهريًا مع كل قلق وتقلب مزاجي يصاحب الدورة الشهرية، فكيف هو الأمر إذا وصل حد طلب الاستشارة النفسية جراء الاكتئاب.
تقول "رباب": "لسنوات تجنبت خوض رحلة العلاج النفسي من الاكتئاب خوفًا من نظرة الناس لطالب العلاج النفسي خاصة لو كانت أنثى".
"رباب" صاحبة الـ 35 عامًا، واحدة من اللاتي تشير إليهم إحصائيات الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان في مصر، التي تؤكد أن أكثر من نصف مليون شخص يعانون من المرض النفسي، لا يتلقون المساعدة أو العلاج بسبب الوصم المجتمعي.
إلا أنها أخيرًا ومع ضرورة خضوعها للعلاج، تم تشخيصها باضطراب الشخصية الحدية: "كنت بشتري الدواء من مكان بعيد عن الشغل والبيت عشان مسمعش كلمة أنتي مدمنة ولا كلمة دي مريضة نفسية.. أنا أهلي طردوني من البيت لما عرفوا إني بروح لدكتور نفساني.. أبويا قال لي أنتي مجنونة هنقوم الصبح نلاقيكي دابحة حد فينا".