لم يتوقعوا طول الإقامة
بمنزله الكائن بمنطقة المعادي -شرق القاهرة- يجلس “عادل الحسن” قبالة شاشة التلفاز متابعًا لأخبار الحرب، ومستجدات الأوضاع في وطنه، كسوداني أجبرته الظروف على النزوح إلى القاهرة.
لم يتوقع “الفنان التشكيلي” أن تطول فترة الإقامة، لكن بعد عدة أشهر تخللتها رسوم جديدة على إقامته، وتردي الأوضاع السودانية، لم يعد أمامه إلا التكيف مع الوضع.
يقول “عادل” – البالغ من العمر خمسين ويعول أسرة مكونة من 4 أفراد: “أرجو أن تتوقف الحرب، لأننا تأثرنا اقتصاديًا.. نحاول في القاهرة التأقلم عبر إنشاء عدة مشروعات، جميعها تنتمي إلى الحرف، لكننا نعاني”.
أكثر من 250 ألف نازح
وصل عدد النازحين منذ اندلاع الحرب إلى أكثر 250 ألف سوداني، بجانب 5 ملايين سوداني مقيمون في مصر قبل الأزمة الراهنة، وفق تقديرات رسمية.
ومؤخرًا، فرضت السلطات المصرية اشتراطات جديدة لدخول السودانيين، وألزمتهم بالحصول على تأشيرة مسبقة، رغبة في السيطرة على أنشطة غير مشروعة من بينها إصدار تأشيرات مزورة.
تقول “هدى عوض الله” 47 عامًا – المقيمة في منطقة المعادي – شرق القاهرة منذ نحو 5 أشهر: “أتيت إلى القاهرة بعد أن أمضيت نحو 12 يومًا في المعبر، وتركت اثنين من أبنائي عالقين لظروف التأشيرات والأوراق، وحتى الآن لا أعلم عنهم شيئًا لانقطاع الاتصالات”.
اقرأ أيضًا: الاتجاه جنوبًا.. سودانيون يدفعهم “الغلاء” إلى العودة لـ “الحرب”
تعيش “هدى” منذ إقامتها بالقاهرة على المساعدات، بدأت بتلقي علاج “الأنسولين” في مراكز الهلال الأحمر، وخضعت لعلاج نفسي بسبب قلقها على أبنائها. تقول “لا أترك مكانًا يمنح مساعدات للاجئين إلا وأطرق بابه”.
يقول أحمد آدم عطية مدير أحد المراكز الخدمية للاجئين السودانيين: “الوضع الراهن شديد الصعوبة.. التأشيرة أصبحت غالية جدًا.. الزيادة في الرسوم ناهزت 200 في المئة.. لابد أنهم لا يريدون استقبال المزيد من اللاجئين”.
ويضيف “عطية” في تصريحاته لإحدى وسائل الإعلام العالمية في يوليو الماضي: “وصلت تكلفة تأشيرة الدخول إلى نحو 10 آلاف جنيه، رغم أن غالبية النازحين من أحياء فقيرة”.
يقدم “عطية” عبر “مركز المعرفة والتطوير” الذي يرأسه في القاهرة، دعمًا لنحو 2800 مواطن سوداني في مصر.
التكيف مع الوضع
بدأ “عادل” – الذي يعمل فنانًا تشكيليًا – في إعداد رسوماته تمهيدًا لإقامة معرض للوحاته بالقاهرة التي طال بقاؤه بها. يسعى الآن إلى التكيف مع الأجواء، وتوسيع دائرة نشاطه بإقامة ورش تدريبية للمبتدئين. يقول: “أحاول مجاراة تصاعد نفقات الأسرة، والوضع الاقتصادي الراهن الذي نحياه”.
نجح عادل في إلحاق ابنيه بمدارس مصرية قبيل بدء العام الدراسي الجديد، حتى يستمر مسارهم التعليمي: “حافظت على بعض المدخرات وخصصتها لتعليمهما”.
وضعت الحكومة المصرية شروطًا لإلحاق الطلبة السودانيين بالمدارس الحكومية من بينها الحصول على إقامة ربع سنوية، على أن تكون التكلفة نحو “600 جنيه مصريًا”.
تعاني “نائلة إدريس” – 35 عامًا – المقيمة في مصر منذ نحو 6 أشهر، من ارتفاع تكلفة تعليم أبنائها الستة بمراحل التعليم الأساسي المختلفة، بعد أن نزحت من السودان إلى القاهرة دون أية متعلقات من بيتها، ولا مدخراتها.
تحكي عن إقامتها لمدة 5 أشهر في غرفة بشقة إحدى الأسر السودانية على سبيل الاستضافة: “أبنائي تأثروا نفسيًا منذ قدومنا إلى القاهرة. لم يخرجوا إلى حدائق، وليست لديهم حرية حركة داخل السكن.. لقد عانيت كثيرًا في إلحاقهم بمدارس مصرية لأنني بلا عائل، وليس لدي دخل يكفيني إلا بعض المساعدات المتقطعة، لذلك لجأت إلى العمل كخادمة في البيوت المجاورة”.
حسب تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، فإن جيلًا كاملًا من الطلبة السودانيين قد يحرمون من حقهم في التعليم على خلفية الحرب الدائرة حاليًا في بلادهم.
تضيف “نائلة” التي تخرج من بيتها في السادسة صباحًا وتعود في السادسة مساءً متأثرة بإرهاق شديد: “اضطر لفعل ذلك يوميًا، وأترك أبنائي بمفردهم لمدة 12 ساعة، لأجل توفير نفقة الطعام والسكن”.
تبلغ نفقات أسرة “نائلة” نحو 6 آلاف جنيه شهريًا، بواقع مائتي جنيه يوميًا. وعلى حد قولها: “فإن هذه التكلفة لا تغطي أنصبة الغذاء الصحي لأبنائها، ولذلك ليس بوسعها قبالة الإنفاق على الطعام، والشراب، والسكن، إلا التخلي عن أولوية التعليم في الفترة الحالية”.
26 ألف طلب معونة
يقول لوران دي بويك، مدير مكتب المنظمة الدولية للهجرة في مصر: “تلقينا 26 ألفًا و500 طلب معونة نقدية، ولدينا خطة واستراتيجية للوصول إلى 80 ألفًا”.
ويشير “دي بويك” إلى أن المصريين ودودون للغاية لكن هناك حدود لما يمكنهم القيام به. فحتى قبل تفشي فيروس كوفيد-19 كان حوالي ثُلث السكان المحليين يعيشون دون خط الفقر، وانخفضت دخول ما يقرب من ثلاثة أرباعهم منذ ذلك الحين حسب الأرقام الرسمية.
تقول “منى.أ” -57 عامًا- موظفة بالمحليات في مدينة الخرطوم، اضطرت لمغادرة السودان في أعقاب الحرب الدائرة حاليًا: “لم يتوقع أحد أن تطول مدة الإقامة بالقاهرة، ورغم قسوة الرحلة من الخرطوم إلى القاهرة التي انتقلت فيها أنا وابنتي من حافلة إلى حافلة نترقب طرقًا آمنة وصولًا إلى معبر أرقين، إلا أنني لم أضع في حساباتي تعثر أوضاعنا المعيشية هنا لهذا الحد”.
الحياة تحت وطأة الخوف
تدفع “منى” الآن ثمن استعجال الخروج من الخرطوم، كما تقول، لأنها في لحظة قرار النزوح فاضلت بين حياة ابنتها وحيازة مدخرات وسلع تموينية تعينها على المشوار الصعب، لدرجة أنها نسيت أوراق ثبوتية كشهادات المرحلة الجامعية والثانوية لهما.
تقول “منى” وكانت تمارس عملًا تجاريًا داخل منزلها بالخرطوم: “كنا نعيش في منزل فسيح، ووجدت نفسي في بضعة أيام أعيش في شقة بها مرتبتين فقط على الأرض.. أقصد أبواب المساعدات الخيرية فقط لأنني لا أقوى على العمل بعد أن بلغت عامي الخامس بعد الخمسين”.
تخشى “منى” تفاقم معاناتها في تدبير نفقات الإيجار، والطعام، والعلاج، بعد ارتفاع الأسعار بشكل لافت. تقول: “أحصل على مساعدات شهرية توازي 1500 جنيه، وسعيت أكثر من مرة لإلحاق ابنتي التي تدرس التمريض بالعمل في أحد المستشفيات، على أمل أن يتحسن دخل الأسرة”.
ومع ذلك، تظل المعاناة الأكبر – على حد قولها – في انقطاع أخبار زوجها الذي ابتلعته الحرب الدائرة حاليًا: “لا ندري إذا كان مفقودًا، أم فارق الحياة”.
يقول “الهادي أسعد” – 30 عامًا – المقيم بمنطقة فيصل: “الحياة في مصر أصبحت شاقة على النازحين، فالذين التحقوا بأعمال لمواجهة ظروف المعيشة فوجئوا بأجر يومي لا يتجاوز 120 جنيهًا، وهو ما يعني عدم القدرة على مواجهة الالتزامات اليومية في الطعام والشراب.. لا يخفى على أحد كيف يعاني السودانيون من ارتفاع إيجارات السكن، وبالتالي من ليس لديه مدخرات أو دعم من أقارب يعملون بالخارج، سيعاني كثيرًا لسداد التزاماته”.
في مجموعة عبر “فيسبوك” تحمل اسم سودانيين في مصر، يسخر “الهادي أسعد” من معاناة السودانيين النازحين إلى القاهرة، بقوله: “من قال إن العيشة في مصر رخيصة! معددًا التزامات السوداني المقيم مقابل أجور العمل الزهيدة”.
“مصر بلد آمنة، لكن الأمن وحده لا يفي بمتطلبات الحياة”؛ يضيف “أسعد”.
منصات التواصل لزيادة الدخل
يلجأ السودانيون إلى مجموعات “فيسبوك” المخصصة للمقيمين في القاهرة، لتسويق مشروعاتهم التي أنصب معظمها على “إعداد وجبات طعام سودانية”، رغبة في مجاراة الواقع الاقتصادي الراهن.
اقرأ أيضًا: عودة الدراسة.. أزمة تواجه ألاف الأسر السودانية النازحة إلى مصر
تقول مارينا عطا الله – إحدى السودانيات المقيمات في القاهرة، وربة أسرة مكونة من 3 أبناء، وصاحبة مشروع إعداد وجبات سودانية: “لجأنا إلى المجموعات الخاصة بالسودانيين لأنهم الفئة الأكثر قبولًا للطعام السوداني”، مشيرة إلى أن المصريين غير مقبلين على الوجبات السودانية، على عكس تعاطيهم مع الأطعمة السورية.
وتضيف: “رغم ارتفاع تكلفة المادة الخام، لكننا لا نجد طريقًا آخر للعمل بأجر مناسب في القاهرة، خاصة في ظل تزايد التزامات، ونفقات الأسرة السودانية، والتي تعرضت لمبالغات في العقارات سواء شراء، أو إيجار، وأوشكت مدخراتها على النفاذ”.
تشير “مارينا” إلى أن تجربتها بدأت من المنزل بإعداد وجبات يومية قليلة العدد، تحسبًا لعدم القدرة على تسويق منتجها، بما يعني خسارة محققة، لكنها مع الوقت، ومع تمكنها من إلحاق أبنائها بمدارس مصرية، كثفت من إنتاجها، حتى وجدت شريكًا سودانيًا، وأقاما معًا مطعمًا للمأكولات السودانية على نطاق أوسع.
“الشكوى من الظروف الاقتصادية الراهنة في مصر، وارتفاع تكاليف المعيشة ليست حلًا، وليس أمام السودانيين سوى البحث عن بدائل جيدة لمواجهة صعوبات الحياة”؛ تضيف “مارينا”.
واندلعت الحرب السوادنية في أبريل الماضي بين قوات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دوقلو – الشهير بـ”حميدتي” – وقوات الجيش برئاسة عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة -والرئيس الفعلي للبلاد حاليًا- وهي لم تتوقف إلى الآن، رغم ما خلفته من ضحايا ودمار اقتصادي وإنساني بالغ المدى.