“ونحلو بإيه”.. غلاء الأسعار يُفقِد عروسة المولد فرحتها

“صُدمت من الأسعار واكتشفت أن ما معي من مال لا يكفي شراء نصف الكمية التي اعتدت على شرائها.. كنت وضعت ميزانية من 400 إلى 500 جنيه لشراء تشكيلة من حلوى المولد، وتخيلت أنه يمكنني شراء عروسة وحصان لأحفادي الاثنين.. لكن كل ما استطعت جلبه هو بعض السمسمية والفولية والحمصية، وابتعدت تمامًا عن كل ما فيه مكسرات سواء بندق أو لوز أو عين الجمل.. دي حاجات ناس أغنياء”.

“سعاد”، ستينية، تقطن بوادي حوف في جنوب القاهرة، التقتها منصة “فكر تاني” أثناء رحلة شراء حلوى المولد. عادة ورثتها كما ملايين آخرين، بغض النظر عن اختلافهم الديني. “ده طقس شعبي بنحبه كلنا، وحاجة بتفرح الكبار والصغار.. بس السنة دي ما أعتقدش إننا عارفين نفرح زي زمان”.

تتباين الأسعار بالمحال التجارية والمنافذ، حيث يصل سعر القطعة الواحدة من قرص الفولية والسمسمية والحمصية إلى 24 جنيهًا، وقطعة ملبن البندق 10 جنيهات، وملبن الفسدق 12 جنيهًا. كما تتراوح أسعار الكيلو من الملبن السادة والألوان بين 100 و180 جنيهًا. والعُلبة كاملة ببعض المحال تتخطى الألف جنيه، وتصل أحيانًا إلى 4000 جنيه. 

هذا الوضع يبدل حال المحتفلين بالمولد في السنوات الأخيرة. بينما يُعزى ارتفاع أسعار حلوى المولد في مصر هذا العام على وجه الخصوص إلى ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من سكر وسمسم وغيرها.

المعروف أثرًا عن حلوى المولد أنها بدأت في مصر، وأن الفاطميين هم من أدخلوها إلى البلاد، وعنهم توارثها المصريون إلى اليوم. يقول المؤرخ المصري أبو العباس تقي الدين المقريزي في كتابه “كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”: “وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر” وغيرها من الأعياد التي ترتبط إما بالمذهب الشيعي أو بالحاكم.  

سوق الحلوى بمنطقة باب البحر (أرشيفية)

أشهر مناطق بيع حلوى المولد

يستقل “حسين” وهو أب لثلاثة أبناء، الأتوبيس العام الذي شهدت تعريفة تذكرته زيادات متتالية أوصلتها إلى 7.5 جنيه للرحلة الواحدة. يخوض هذا “المشوار” من السيدة زينب حيث مقر عمله إلى شارع “بين الحارات” كل مولد نبوي “علشان أفرح الأولاد”، كما يقول، ولأن السوق هناك “أوفر” في أسعار منتجاته.

يبعد شارع بين الحارات الذي يقع بسوق باب البحر عدة أمتار عن ميدان رمسيس ويمتد حتى باب الشعرية، ويمتلئ على جانبيه بقطع الحلوى بمختلف أشكالها وألوانها، وعرائس المولد بأسعار تعتبر أقل أو في متناول الطبقة المتوسطة. 

هنا، العمال صناع سعادة منهمكون في الشوارع يزينون مجسمات أحصنة “الحلاوة” وعرائس المولد، يضعون الأشرطة الملونة والزينة ويحجزونها للبيع، ومن الداخل تنطلق روائح صهر السكر إلى الخارج، معلنة في كل لحظة عن ميلاد قطعة جديدة من الحلوى، تنتظر زبونها. 

للحصان والعروسة في تراث حلوى المولد في مصر دلالات كثيرة وروايات متعددة، فيقول البعض إن العروس تحمل دلالة لموكب الخليفة الفاطمي وزوجته في شوارع القاهرة حين تنطلق احتفالات المولد النبوي، والبعض يقول إنها دلالة على تشجيع الفاطميين زواج المصريين في ليلة المولد احتفالًا بالنبي.

“رغم أن هذا المكان رخيص بالنسبة لبرا إلا أني مش قادر اشتري زي الأول.. أنا عندي بنت تزوجت من سنة، ولسه فيه اتنين توأم بيدرسوا في المرحلة الابتدائية وهيبدأوا في 30 سبتمبر الجاري، محتاجين طبعًا مصاريف كتير.. كتب خارجية وصل الكتاب الواحد 250 جنيه ده غير الأدوات المكتبية والمصروفات والزي المدرسي والأكل والشرب.. الزي لوحده واصل لألف جنيه.. حلاوة المولد هتفرحنا كلنا.. بس بالأسعار دي ازاي هنفرح؟”.

المولد والدراسة

تحل ذكرى المولد النبوي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو الشهر الثالث من التقويم الهجري الإسلامي. والذي يوافق هذا العام يوم السابع والعشرين من شهر سبتمبر الجاري.

بالإضافة إلى ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، فإن تزامن المولد النبوي مع الاستعدادات لاستقبال العام الدراسي الجديد، يُسهم في تحجيم كثير من الأسر المصرية لمشترياتها من الحلوى، في ظل تركيز الإنفاق على الأدوات المكتبية والمصروفات المدرسية.

تقول “أم شهد”، في حديثها لمنصة “فكر تاني”: “أعمل موظفة بإحدى الشركات براتب لا يتعدى 4000 جنيه وزوجي كذلك راتبه أكثر بجنيهات قليلة.. كيف لعلبة حلوى أن تكون بثمن ماهية مواطن؟”. 

يدهشها الوضع الحالي في ارتفاع أسعار معظم المنتجات سواء غذائية أو معيشية ومدرسية. تضيف: “علينا دفع فاتورة كهرباء تتعدى 400 جنيه، وفاتورة غاز تصل إلى 120 جنيهًا، وفاتورة مياه حوالي 150 جنيه، هذا بالإضافة إلى فاتورة التليفون الأرضي والإنترنت التي تصل إلى 200 جنيه. مصادر البهجة والترفيه لم تعد في استطاعتنا رغم حاجتنا إليها”.

40 % زيادة في الأسعار

داخل إحدى شوادر بيع الحلوى في منطقة السيدة زينب، أحد أكثر المناطق الحيوية في القاهرة، خاصةً في المناسبات الدينية، تقول “أم أحمد” ربة منزل وأم لطفلين: “لم أشتر سوى نصف كيلو حلوى مشكل فقط.. سأحضر مكونات الحلوى لعمل عينات منها في المنزل عوضًا عن الشراء”.

هناك زيادة بنحو 40% تقريبًا في أسعار حلوى المولد عن العام الماضي، وفقًا لـ حسن الفندي رئيس شعبة السكر والحلوى بغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات. والذي أرجع ذلك إلى الظروف الاقتصادية المُعلنة التي تمر بها البلاد، وتراجع سعر الجنيه المصري أمام الدولار، وهو ما أثر على جميع السلع وليس الحلويات فقط.

وقد خفضت مصر سعر صرف الجنيه، منذ مارس 2022، ثلاث مرات؛ من متوسط 15.7 جنيه أمام الدولار الواحد، ليستقر حاليًا عند 30.9 جنيه كسعر رسمي.

يُفضل البعض شراء حلاوة المولد على شكل قطع، يشكل العلبة الخاصة به بنفسه، كحيلة لمقاومة تفاوت الأسعار بين محل وآخر. ويؤكد مدحت الفيومي، رئيس شعبة الحلويات بغرفة الدقهلية التجارية، أن أسعار حلوى المولد في مصر، تزيد بنسبة 50% مقارنةً بالعام الماضي، في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام التي تصنع منها.

تعاني “أم شهد” من مرض السكري الوراثي والروماتيزم، الأمر الذي يعني أن الأسرة مُكبلة بتوفير جزء ثابت من دخلها سيصرف شهريًا على علاجها، الذي تحتاج حالتها الصحية لأدوية دورية وطعام بطبيعة خاصة. كل تلك الأسباب أدت إلى شرائها كمية بسيطة.

ركود السوق

هذه المعاناة يؤكدها “الحاج علي” تاجر بإحدى محلات الجملة بشارع بين الحارات، يشتكي الزيادة بنسبة ملحوظة في الخامات عن العام الماضي “فيه ناس كتير قررت عمل حلاوة المولد في البيت فتأتي لشراء مكوناتها من هنا.. ورغم إن الأسعار بالشكل ده فهنا فيه توفير كمان على المواطن؛ لإن كله في الشارع ده مصانع وتصب في المحلات التي تبيع بالقطعة.. وقبل المولد بحوالي 5 أيام سنبيع نحن بالقطعة أيضًا، وأغلبية الناس إلى الآن تشتري أكثر شيء السمسمية والفولية حيث الكيلو بـ 100 جنيه”.

وبمحل آخر بالقرب من مسجد الفتح برمسيس، يقول التاجر لمنصة “فكر تاني”: الناس مهما ارتفع سعر حلاوة المولد هيفضلوا يشتروها.. ممكن تنخفض الكمية لكن لا ينقطع شراءها، هذه عادة توارثناها من الفاطميين وورثوها لأجدادنا ونحن سنورثها لأبناءنا.. لدينا هنا قسمين من حلوى المولد فيوجد القسم الشعبي والقسم الفاخر، كما أن عرائس المولد تبدأ أسعارها من 120 جنيه وحتى 220 جنيه والإقبال ضعيف عليها إلى الآن”.

“أجرة عمل الصنايعي تصل إلى ألف جنيه في اليوم والعامل 300 جنيه، وإذا استمرت الأسعار في الارتفاع؛ فسيضطر معظمنا الخروج من دائرة المنتجين لحلوى المولد خلال المواسم القادمة”.

وبجولة سريعة إلى إحدى المناطق الراقية بشارع الحجاز بمصر الجديدة، التقينا مدير فرع بمحل حلويات شهير – رفض ذكر اسمه – وصف إقبال المواطنين على شراء حلوى المولد خلال هذه الفترة بـ “الضعيف”، مقارنةً بالأعوام الماضية، وذلك بسبب شراء مستلزمات المدارس التي تأتي على رأس أولويات العديد من الأسر، ويأمل في أن يتزايد الإقبال خلال الأيام القادمة مع اقتراب يوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.

تأثير ارتفاع التضخم

ارتفع معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في أغسطس الماضي إلى أعلى مستوى على الإطلاق عند 37.2%، وعلى أساس سنوي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 71.9%. مثلما أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وقال البنك المركزي المصري إن التضخم الأساسي بلغ 40.4% في أغسطس على أساس سنوي، مقابل 40.7% في يوليو.

وعلى إثر ذلك، قرر أصحاب مصانع حلويات الخروج من دائرة المنتجين لحلوى المولد هذا الموسم، خشية عدم تصريف منتجاتهم بعد ارتفاع أسعار الخامات، وزيادة تكاليف التشغيل. ومعظم مصانع الحلوى الصغيرة تتعامل مع تجار الخامات (سكر، دقيق، نشاء، عسل جلوكوز، مكسرات) بنظام الأجل، على أن يكون السداد عقب نهاية الموسم؛ ما ترتب عليه خروج مصانع كثيرة من دائرة الإنتاج خلال هذا الموسم.

1 تعليق

  1. مقال رائع كالعادة للمبدعة فاطمة الزهراء
    مبقاش في مجال للحزن على ارتفاع الأسعار والحياة العادية إللي كنا عايشنها بقى أمر واقع بنحاول نتعايش معاه لحد ما تتحسن ظروف البلد وربنا يصبرنا جميعاً

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة