كأنها سطر بقى من تاريخ يمتد لآلاف السنين. شجرة للفن كلما حاول معول هدم انتزاع فرع لها نما آخر، حتى إذ أتاها الدور صرخت واستغاثت، وفي رقبتها طوق الإعدام ذاته؛ قرية “الفخارين” التي زارها الرئيس في العام 2021 وأمر بتطويرها، مهددة وعلى قائمة “طالع إزالة”.
“طالع إزالة”
“بلغتُ من العمر 55. أنا هنا في قرية الفخارين مذ كنت في الحادية عشرة، أصنع الطواجن والأبريم والأباريق والقلل”.
“عم إبراهيم” واحد من أهالي قرية الفخارين الأقدم في حي الفسطاط بقلب القاهرة. قضى فيها سنوات عمره كلها، وهو الآن ينتظر قرار هدم ورشته وانهيار صنعته.
بدأت أزمة قرية الفخارين بقرار إزالة شفاهي صادر بحق 3 أماكن: مركز “درب 1718″ للفنون المعاصرة، و”مدرسة عابدين للفخار”، و”شيخ الفخارين”.
دفع القرار الفنان التشكيلي معتز نصر الدين، مؤسس “درب 1718″، إلى إقامة دعوى قضائية أمام مجلس الدولة ضد قرار الإخلاء والإزالة التي أعلنت الحكومة أنها لداعي استكمال أعمال شق طريق وإقامة كوبري يربط بين منطقة الكورنيش ومتحف الحضارة.
واختصمت الدعوى التي حملت رقم 65501 لسنة 77 شق عاجل، كل من: رئيس الوزراء، ووزير التنمية المحلية، ومحافظ القاهرة، ورئيس حي مصر القديمة.
كما هدد أبناء عائلة الشيخ عابدين، التي كرست كل ما تملك من أجل تطوير صناعة الفخار على مدار ما يزيد عن مائة عام، باعتزال مهنتهم نهائيًا حال نُفذ قرار الهدم المزمع.
“منذ تم إبلاغنا بالأمر شفاهيًا من قبل الحي، وجميع العاملين في مدينة الفخارين يحاولون وقف هذا الاستنزاف للتراث والحرف التراثية الأشهر في مصر”؛ يقول أحد أبناء عائلة الشيخ عابدين -طلب عدم ذكر اسمه- والذي أكد أن استغاثتهم ليست وليدة اللحظة: “نحن و(درب 1718) لم نحصل على أي قرار رسمي بشأن الإزالات، لكننا متأكدين من وجود خطة قائمة بالفعل”.
وفق ابن عائلة الشيخ عابدين، يحاول المتضررون في “الفخارين” التفاوض مع الجهات الرسمية للمساعدة في وضع أيّ حلول وإيجاد بديل مناسب، دون هدم المدينة.
“لا نعلم لماذا الإصرار على الهدم في طريق لا توجد به مشاكل مرورية على عكس ما هو شائع”؛ يضيف المصدر.
تاريخ يمتد إلى العشرينيات
يرتبط تاريخ قرية “الفخارين” بعائلة الشيخ عابدين، الذي أسسها في العام 1920، وتسلمها من بعده أبناؤه محمود ثم أشرف ومحمد وصولًا إلى الجيل الرابع الحالي.
وكانت ورش الفخار في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي تقع خلف جامع عمرو بن العاص، وقامت محافظة القاهرة في 1962 بنقل 300 ورشة بعقود إيجار، إلى منطقة بطن البقرة في مصر القديمة مع تطويرها، قبل أن تتقلص ورشها إلى 70 ورشة، ثم إلى 30 وحدة لصناعة الفخار مع تأجير بعض الورش لأعمال الجير والكسارة.
اقرأ أيضًا: “طالع إزالة”.. مصريون إلى الشوارع بعيدًا عن السياسة
خضعت القرية للتجديد مرتين؛ في عام 2001 بمباني حديثة أنهت العشوائية التي أصابتها بمرور السنين، ثم بعد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي في العام 2021، حيث شيدت فيها أبنية صديقة للبيئة، وطُورت أفران حرق الفخار لمنع التلوث، مع تخصيص أرض القرية المقدرة مساحتها نحو 3 أفدنة كحق انتفاع، وهو النظام الساري حتى الآن.
وتصدر القرية منتجاتها إلى دول أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة والخليج العربي. بينما المناطق المهددة بالإزالة فيها الآن تقع على مساحات 165 و190 و250 مترًا، ومن بينها ورش “درب 1718″، التي تأسست العام 2008 لتقديم جميع أشكال الفنون والثقافة ضمن معارض ومهرجانات، كان لها دور بارز في تقديم فرق “الأندرجراوند” في بدايتها، ومنها “كاريوكي” وغيرها، إلى جانب أرشفة الأعمال الفنية، وإشراك مجتمع الفسطاط المحلي في برامج توعوية.
“محدش مقدر فننا”
“زمان مهنتنا كان لها قيمة كبيرة وكانت الدولة والمسؤولين بيقدروها، لكن دلوقتي سهل عليهم إزالة المدينة كلها بكل العاملين فيها وبكل تاريخها وتراثها، محدش بيفكر أنه يطورها لزيادة إنتاجها أو يعملوا لنا دعاية في التلفزيون. العالم بره يقدرنا ويستورد منا لكن في بلدنا محدش مقدر فننا”؛ يتأسى “عم إبراهيم” على الحال الذي آل إليه فنانو الفخار في مصر.
لمجتمع فناني الفخار في مصر نقابة مستقلة لصناع الفخار والخزف المصري، تأسست عام 2012، للحفاظ على المهنة من اندثارها، بعد وفاة شيوخ المهنة.
يقول رئيس النقابة أحمد محمد زكي: “نقابتنا تضم 102 عضو عامل، جميعهم يعملون بقرية الفخارين ببطن البقر بالفسطاط. بالإضافة إلى 152 مصنعًا في القاهرة والفيوم والوادي الجديد وأسوان وسمنود والغربية، لكننا نعاني الآن من نقص العمالة التي أوشكت على الانقراض، إضافة إلى مشكلة التسويق للخارج، الذي لا يجري إلا من خلال بعض المستثمرين الأجانب”.
لذا، ينظر “زكي” إلى الإزالات الصادرة بحق قرية “الفخارين” باعتبارها تهديدًا جديدًا خطيرًا لمنطقة مهمة يصفها بأنها ملتقى لإبداع الفنانين والحرفيين وواجهة مشرفة لفن مصري أصيل يعود تاريخه إلى عشرات السنين.
“هل الطرق أهم من الفنون؟”
وقد تقدم عضو مجلس النواب الدكتور فريد البياضي، في يوليو الماضي، بسؤال برلماني إلى رئيس مجلس النواب المستشار حنفي جبالي، موجهًا إلى كل من رئيس مجلس الوزراء، ووزيرا التنمية المحلية والثقافة، يطالبهم بالتدخل لوقف قرار إزالة مبنى “درب 1718”.
وتساءل النائب: “هل أصبح بناء الطرق والأحجار أهم من الفنون والأفكار؟”.
وتنضم مدينة الفخارين إلى قائمة المباني والمقابر ذات القيمة التراثية التي هُدمت في منطقة الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وسط حالة من الغضب بين الجمهور أو المهتمين بالآثار والثقافة.
ويحمي الدستور المصري الملكيات العامة والشخصية بالمواد 33 و34 و35 التي تلزم الدولة بحماية الملكية بأنواعها الثلاثة، الملكية العامة، والملكية الخاصة، والملكية التعاونية. وتنص على أن الملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقًا للقانون، وأن الملكية الخاصة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدمًا وفقًا للقانون.
ويقابل ذلك ما نصت عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في المواد: المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و14 من اتفاقية الحقوق المدنية السياسية، و14 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، و31 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، و15 من إعلان حقوق الإنسان في الإسلام.