على صفحتها المعنونة باسم "الطائفة اليهودية بالقاهرة" عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تداولت الطائفة صورًا لاحتفالية رأس السنة العبرية (العام 5784)، والتي أقيمت أول من أمس الخميس، في كنيس هليوبوليس بمصر الجديدة، للمرة الأولى منذ 70 عامًا داخل مصر. ما يحمل ربما دلالات محددة، تناولها بعض من المغردين في تعليقات على صفحات السوشيال ميديا.
فما بين مؤيد ومعارض، علّق المصريون على خبر الاحتفالية. فقال "محمد" مهنئًا: "مصر دولة قائمة على التعددية والدمج وضد التمييز والعنصرية والجهل، كل عام وأنتم بخير"، في إشارة لتقبله الفكرة. فيما تساءل "طه": "هل الطائفة اليهودية بمصر مرتبطة بأي شكل بالكيان المحتل للأراضي الفلسطينية؟ وهل تأتي هذه الأنشطة ضمن محاولة جديدة للتطبيع بين الشعب المصري والكيان الإسرائيلي؟، يجب أن نجيب على هذه الأسئلة للتمييز بين التطبيع مع كيان مرفوض شعبيًا وبين التسامح المطلوب مع حرية ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز". كما رفضت "ماجدة" الاحتفال، فقالت: "اليوم احتفال وغدًا نصبح فلسطين ثانية، وبعد غد تصبح رأس السنة العبرية إجازة رسمية".
أظهرت أيضًا المقاطع المصورة المنشورة تساؤلات ومطالبات أخرى بشأن الإعلان التفصيلي عن الأعداد الحقيقية لأتباع كل الديانات في مصر؛ حيث تظهر الصور المتداولة أعدادًا كبيرة من المحتفلين، بينما وفق منظمة غير حكومية يهودية محلية، هناك ما يتراوح بين 6 و10 من اليهود المصريين في مصر، جميعهم من النساء، يقيمون في القاهرة والإسكندرية.
تبدو التساؤلات المطروحة مشروعة إذا ما نظرنا إلى الرفض الشعبي الجارف لفكرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. بينما من ناحية أخرى، تمثل هذه التساءلات في جانب منها انتهاكًا لحقوق أقلية دينية مصرية، يربطها البعض خطأ بكيان آخر قائم على الديانة اليهودية.
70 عامًا من "اللا احتفال"
على أرض الواقع، يصعب على اليهود المصريين الاحتفال برأس السنة اليهودية منذ 70 عامًا. وهو ما يخالف الدستور المصري الذي ينص على أن "حرية العقيدة مطلقة"، ويعترف بالديانة اليهودية كجزء من الديانات الإبراهيمية الثلاث (الإسلام، المسيحية، اليهودية)؛ ما يترتب عليه الحقوق المدنية والدينية لليهود كافة، مثلهم مثل أي مواطنين مصريين آخرين، وأبرزها حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة.
فلماذا لم يستطع اليهود الاحتفال برأس السنة العبرية طوال تلك العقود؟
يجيب الباحث المختص في التاريخ الوسيط، أمجد عزت، بأن الاحتفال بعيد رأس السنة العبرية قد توقف منذ قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بطرد اليهود المصريين ومنع إقامة شعائرهم والاحتفال بأعيادهم في مصر. واستمر هذا الوضع حتى لم يتبق منهم سوى بضعة أفراد لا يتخطون أصابع اليدين، لا يكتمل بهم النصاب الشرعي للصلاة، وفقًا للشريعة اليهودية.
اقرأ أيضًا: المعلومة حق.. المبادرة المصرية تطلق خريطة الحريات الدينية في مصر
فوفق "عزت"، كان اليهود في السابق يجتمعون في المجامع لتلاوة صلواتهم الخاصة، وينفخون الشافاز -بوق مصنوع من قرون الكباش له دلالات خاصة في التلمود اليهودي- للإعلان عن بدء العام الجديد. ومن شروط إقامة تلك الصلوات وجود 10 رجال يتجاوزون الـ13 عامًا يتقدمونها، وأيضًا وجود المعلم القارئ للتوراة. ولأن جميع اليهود المتبقين في مصر من النساء، فقد توقفت تلك الصلوات منذ ذلك الحين، إضافة إلى عددهم القليل الذي لا يسمح بإقامتها بعد تراجع عدد أفراد الطائفة من نحو 80 ألفًا في أوائل القرن الحادي والعشرين إلى قرابة 8 سيدات أصغرهن تجاوزت الـ 60 عاما.
لا يوجد إحصاء رسمي دقيق عن عدد اليهود المصريين. لكن هناك أرقام تقديرية غير رسمية تشير إلى أنهم لا يتعدون الـ10 أشخاص. وهو الأمر الذي دفع كثير من المغردين للتساؤل حول توافد العشرات في احتفالية رأس السنة العبرية هذا العام. خاصة وأنه قد أثيرت شائعات في العام 2021، بأن ماجدة هارون، رئيس الطائفة اليهودية في مصر، صرحت في برنامج تلفزيوني بأن هناك أعداد غير معلنة من اليهود المصريين الذين تخفوا بهويات إسلامية منذ دولة عبد الناصر، كي يتمكنوا من البقاء في مصر. وهو ما نفته "هارون" نفسها في تصريحات صحفية سابقة، ما يشير إلى أنه ربما يكون هناك مدعوون غير مصريين في الاحتفالية.
مظاهر ذات دلالات
الأخبار المتداولة بشأن الاحتفالية ذكّرت الرأي العام المصري مرة أخرى بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة في السنوات الأخيرة لتجديد الآثار والمعابد اليهودية، وأعاد المغردون نشر تلك المعلومات كجزء من التدليل على أن النظام الحالي يولي اهتمامًا خاصًا بأتباع الديانة اليهودية، وربما يكون ذلك نوعًا من التطبيع المباشر مع الكيان الإسرائيلي.
ووفق تقرير الحرية الدينية للعام 2022، دخلت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بمصر في شراكة مع متحف ذكرى الهولوكوست بالولايات المتحدة لاستضافة أول ذكرى ليوم الهولوكوست في البلاد؛ وكان من بين الحضور رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وممثلين عن الجالية اليهودية.
كما كتب الصحفي والسياسي أسامة الغزالي حرب، في جريدة الأهرام المصرية، أن الهولوكوست كانت "واحدة من أكبر جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية، وأن النازيين قتلوا ما يقدر بستة ملايين يهودي".
ووفق معهد الشرق الأوسط لبحوث الإعلام، فإن الغزالي كان يرد على تصريح لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بأن إسرائيل ارتكبت "50 مجزرة و50 محرقة" ضد الفلسطينيين منذ العام 1947.
ولم تتوقف تدخلات السفارة الأمريكية عند هذا الحد؛ ففي نوفمبر 2022، افُتتح قسم من مقبرة القرّائين اليهودية في القاهرة، والتي جُددت من خلال منحة أمريكية قدرها 150 ألف دولار من السفارة، بالتعاون مع منظمة قطرة اللبن غير الحكومية، والمكرسة للحفاظ على الثقافة الخاصة بالجالية اليهودية في القاهرة.
اقرأ أيضًا: ردود أفعال متناقضة بين الدول العربية والغربية حول قرار “مكافحة الكراهية الدينية”
وجاء ذلك بعد اجتماعات عديدة خاضها ممثلو الحكومة الأمريكية مع ممثلين للأديان المختلفة في مصر ومسؤولين حكوميين بارزين، ناقشوا فيها عدة موضوعات، من أبرزها: الحفاظ على التراث والمواقع الثقافية اليهودية، والسلامة في دور العبادة؛ والوصول إلى أرشيفات الطوائف اليهودية لسكان الدولة اليهود والشتات اليهودي؛ واستخدام التسميات الدينية في بطاقات الهوية الوطنية.
ومنذ تولى الرئيس السيسي حكم البلاد، عبّر في أكثر من مناسبة عن ترحيبه بعودة "الجالية اليهودية" إلى مصر. ووعد بتدعيم هذا الاتجاه، مع بناء المعابد اليهودية والمساعدة بتقديم الخدمات ذات الصلة. كما أمر بترميم مقبرة البساتين اليهودية القديمة، التي كانت قد ساءت حالتها (تعد ثاني أقدم مقابر لليهود في العالم بعد مقبرة جبل الزيتون في القدس، وأنشئت في القرن التاسع الميلادي بأمر من أحمد بن طولون)، ما أثار ضجة حينها، وتساؤلات عديدة، وانقسمت الآراء حول اعتبار هذا الاهتمام محاولة للتقارب مع الولايات المتحدة أو تأكيدًا على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وآخرون رأوا أن ذلك يأتي في سياق حقوقي متسامح لشركاء الوطن والتاريخ.
أيضًا شاركت وزارة الآثار في ترميم كنيس "إلياهو هانبي"، وهو واحد من كنيسين متبقيين في الإسكندرية. كما شكلت وزارة الآثار لجنة "جرد وحصر وتسجيل الآثار اليهودية" في عام 2018، لتسجل عددًا من المقابر والمعابد اليهودية في القاهرة والإسكندرية وبعض مدن الدلتا، وتصبح بهذا خاضعة لقانون حماية الآثار.
وفي العام نفسه، أعلنت الحكومة تخصيص مليار و270 مليون جنيه لتجديد التراث اليهودي؛ ما اعتبره البعض إهدارًا للمال العام، فيما اتفق مهتمون بالتاريخ والتراث على أنه خطوة إيجابية نحو الحفاظ على ممتلكات مصر الأثرية والتراثية.
هل لليهود المصريين علاقة بكيان الاحتلال؟
قد يبدو الحديث عن العلاقة بين اليهود والمصريين مثار جدل كبير منذ قيام حرب فلسطين في العام 1948، حتى أن الاحتفال برأس السنة العبرية قد أعاد إلى الأذهان أحداثًا تاريخية وحروبًا شهدتها مصر. وألمح البعض إلى علاقة قد تربط الطائفة اليهودية في مصر بكيان الاحتلال.
محمد سيف الدولة، الكاتب السياسي ومؤسس حركة ضد الصهيونية، يرد على تلك التلميحات، قائلًا: "من الناحية النظرية هناك فرق بين اليهودية والصهيونية، فاليهودية ديانة سماوية، أما الصهيونية فعقيدة عنصرية استعمارية عدوانية وإرهابية، تنطلق من أن اليهود جميعًا يمثلون شعب قائم بذاته له وطن هو فلسطين في بعض الأقوال، أو كل الأرض الواقعة بين النيل والفرات في أقوال أخرى. لذا فإنه ليس كل يهودي صهيوني، وهناك في مصر وفي العالم يهود يرفضون الصهيونية ويرفعون شعار فلسطين محتلة".
ويضيف: "من ناحية أخرى لابد من الاعتراف بأن للحركة الصهيونية السيطرة الأكبر والأوسع بلا منازع على الجماعات اليهودية في العالم، بحيث قد يختلط الأمر عند الكثيرين في التفرقة بين اليهود والصهاينة. وبالانتقال إلى مصر، فلا شك أن هناك شخصيات يهودية من اليسار المصرى رفضت الصهيونية والهجرة فى الخمسينات أمثال شحاتة هارون. وقد تصورنا أن هذا موقف كل اليهود الحاليين في مصر إلى أن فوجئنا بحضور سفير الاحتلال عددًا من احتفالاتهم في المعبد اليهودي في وسط القاهرة".
اقرأ أيضًا: بعد واقعة حرق المصحف.. الأمم المتحدة تتبنى قرار لمكافحة الكراهية الدينية
ويعلق "سيف الدولة" على مسألة التدخلات الخارجية والتوجيهات الخاصة بشأن ترميم الآثار والمقابر اليهودية، قائلًا: "الوفود الأمريكية اليهودية وثيقة الصلة بكيان الاحتلال كثيرا ما تتواصل مع السلطات المصرية بخصوص ترميم مقابر اليهود ومعابدهم، في محاولة لتأكيد مسئولية الحركة الصهيونية عن كل يهود العالم بما فيهم اليهود في مصر. وهو تدخل مرفوض، لأن يهود مصر لا يخضعون إلا للدولة المصرية مثلهم مثل باقي المصريين من مسلمين ومسيحيين، وليس ليهود أمريكا أو كيان الاحتلال أي صلة أو سلطان عليهم. وللأسف فإن السلطات المصرية تولي ترحيبًا باهتمام تلك الكيانات بيهود مصر، بدلًا من الاعتراض، وهو أمر يرتبط بالدور المركزي الذي يقوم به الكيان الصهيوني في العشر سنوات الأخيرة كوسيط بين الإدارتين الأمريكية والمصرية، أو بمعنى آخر كان ذلك بوابة مصر لنيل الرضا والقبول الأمريكي".
في كتابه: (يهود مصر فى القرن العشرين.. كيف عاشوا، ولماذا خرجوا؟) يدافع محمد أبو الغار عن يهود مصر وصورتهم التاريخية التي شوهتها الأنظمة السابقة، وقد استفاض في شرح الموجات الثلاث المتعاقبة التي غادر فيها اليهود مصر، بداية من العام 1948 وحتى العام 1962. وقد جاءت الموجة الأولى بسبب نشاط المنظمات الصهيونية، وصعود تنظيمات مثل جماعة الإخوان المسلمين التي قامت بتفجير شركة الإعلانات الشرقية المملوكة ليهود مصريين، وتفجير حى اليهود وبعض من محال اليهود ومعابدهم وممتلكاتهم؛ فهاجر إلى الخارج 20 في المئة فقط من اليهود المصريين خلال السنوات العشر منذ عام 1946حتى عام 1956، وذهب أقل من نصفهم إلى فلسطين المحتلة. أما الموجة الثانية من الهجرة فكانت أقرب إلى الطرد. ففى عام 1956، طرد عبدالناصر اليهود ممن يحملون جنسيات أجنبية حتى وإن كانوا مصريين، إثر العدوان الثلاثي. بينما الموجة الثالثة جاءت نتيجة التأميم الذي أطاح بكثير منهم، وقد هاجر معظمهم إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية. ومن ثم، لم يهاجر إلى إسرائيل سوى اليهود الفقراء، ومن لم يحملوا جنسيات أوروبية.
وعليه؛ فقد حان الوقت لتغيير النظرة النمطية لليهود التي تربطهم بكيان مرفوض شعبيًا، ذلك لأنهم مصريون من الدرجة الأولى لهم كل الحقوق وعليهم الواجبات كافة.