“أنا زي أي مصري يشعر بالمسؤولية تجاه تراث بلده، شفت هدم مقابر المماليك والإزالات المتتالية، ما قدرتش أقف أتفرج. أنا مبسوط إني شفت شباب كتير زيي مشارك في فعالية مهمة زي دي، دعا ليها أثريون ومحبون للتراث ويسعون لتوثيقه قبل محوه تاريخيًا”.
سيد عبد الولي، وهو طالب بالإرشاد السياحى في كلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة، قدم سفرًا من الشرقية إلى القاهرة للمشاركة في فعالية “طالع إزالة” التي أطلقتها مبادرة “رسم مصر” التي يديرها مجموعة من الخبراء والمعنيين بالحفاظ على التراث، لتوثيق مقابر الأمام الشافعي المهددة بصدور قبل قرار إزالة، ضمن أعمال تطوير جنوب شرق القاهرة، التي أعلنت عنها الحكومة المصرية قبل سنتين، وتلقى موجة عنيفة من الرفض الشعبي.



طالع إزالة
قبل سنتين، بدأت الحكومة المصرية أعمال هدم في قلب القاهرة، بالمنطقة المسماة “صحراء المماليك”، طالت مقابر القرافة الواقعة عند سفح جبل المقطم، ضمن أعمال تطوير، لم تقنع كثير من المصريين، بينما أشعلت موجة غضب واسعة، تجلت ملامحها في الصور المتداولة -عبر منصات السوشيال ميديا- للمناطق التي صدر بحقها قرار “طالع إزالة”.
امتدت آثار هذه الموجة الغاضبة فجمعت مواطنين ومعنيين ومحبين للتراث على حد سواء، وارتقت حد الاستجوابات وطلبات الإحاطة تحت قبة البرلمان، ووصل بعضها إلى دعاوى قانونية في ساحات القضاء، وأخيرًا تنظيم مبادرات شعبية لتوثيق المنطقة المهددة بالمحو تاريخيًا، بالصور والفعاليات.

المعالم التراثية والقانون
تُعرف المعالم التراثية بأنها تلك المميزة التي لا ينطبق عليها تعريف الموقع الأثري وفق قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته، ولكنها تتسم بطرز معمارية متميزة وفريدة، أو تعود لحقبة تاريخية معينة، أو تلك التي كانت مسكنًا خاصًا لإحدى الشخصيات المهمة والتاريخية. وهي تخضع لعدد من القوانين الخاصة، مثل: القانون رقم 144 لسنة 2006، والقانون 119 لسنة 2008.
اقرأ أيضًا: المجلس الأطلسي: مصر تقتل تاريخ مدينة الموتى
ويحظر القانون رقم 144 لسنة 2006 الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية أو التي تعتبر مزارًا سياحيًا، وذلك مع عدم الإخلال بما يستحق قانونًا من تعويض.
كما يحذر هدم ما عدا ذلك أو الشروع في هدمه إلا بترخيص يصدر وفقًا لأحكام هذا القانون.
ويبلغ عدد المباني التراثية في مصر وفقًا للإحصائيات الرسمية، التي أعلن عنها “جهاز التنسيق الحضاري”، نحو 6500 مبنى في العديد من محافظات مصر مثل: القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، وبورسعيد، والمنيا وأسيوط وغيرها.
وتظهر عمليات هدم التراث الأخيرة والمتكررة مصر غير ملتزمة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها، كاتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية، والتي أقرت “أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافة العالمية”.



وكذا اتفاقية اليونسكو التي دخلت حيز التنفيذ في 24 أبريل 1972، والتي تقرر واجب كل دولة في حماية التراث الذي تمثله الممتلكات الثقافية الموجودة في أراضيها. وكذلك ما تضمنه إعلان اليونسكو العالمي لعام 2001 بشأن التنوع الثقافي، والذي تضمن الاعتراف بالتنوع الثقافي باعتباره “تراثا مشتركا للإنسانية” تُعد حمايته ضرورة أخلاقية ملموسة لا تنفصم عراها عن ضرورة احترام كرامة الكائن البشرى ذاته.
وما تضمنه أيضا إعلان اليونسكو لعام 2003 بشأن التدمير المتعمد للتراث الثقافي من الاعتراف بأهمية التراث الثقافي والالتزام بمكافحة تدميره المتعمد بأي صورة من الصور حتى يمكن نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة.
مشاركة بدافع المسؤولية
لعبت الصدفة دورها في معرفة “سيد عبد الولي”، بفعالية مبادرة “رسم مصر”، إذ كان كغيره يتابع باستياء عمليات الهدم التي وصلت ذروتها إلى مقابر وأضرحة لأسماء شهيرة وبارزة في تاريخنا الحديث في منطقة جبّانة المماليك، التي تعود إلى نهاية القرن الثامن الهجري.
“حبي للتراث في كل منطقة بمصر ، وشعوري بالمسؤولية، دفعوني لمحاولة التعبير عن رفضي لعمليات الهدم. ومن هنا، لقيت صفحة (رسم مصر) على فيسبوك، وعرفت عن جولة (طالع إزالة)، اللي شاركنا فيها يوم 2 سبتمبر الجاري، في منطقة مقابر الأمام الشافعي.. معندناش هدف غير حماية المناطق دي من الإهمال والهدم وإن كان بالتوثيق.. ده تراث إسلامي ومعماري متفرد لا يوجد مثله في مصر إلا القليل”؛ يقول “سيد” في حديثه لمنصة “فكر تاني”.


سبقت وكالة العنبريين، أو سوق العنبريين حيث كان يُسجن أرباب الجرائم في عهد الدولة الفاطمية، مقابر المماليك إلى الهدم، وهي منطقة مهمة تاريخيًا، طورتها دولة بني أيوب، ثم أدخل عليها الملك الناصر بن قلاوون تعديلات فأصبحت قيسارية العنبرين.
رسم مصر
قيسارية العنبرين وقرافة أو جبانة المماليك وغيرهما من المناطق التراثية المهددة بالإزالة لتشييد الكباري وشق الطرق إلى المدن الجديدة، كانت محل اهتمام القائمين على مبادرة “رسم مصر” التطوعية المجانية، وهي مبادرة مجانية تطوعية، تعمل ميدانيًا منذ قرابة خمس سنوات، نفذت عشرات الجولات التاريخية والفنية لتعريف الشباب بتاريخ وطنهم وفنونه، ومنها: سكة المحجر والحطابة، السيدة نفيسة ومسار آل البيت، التربة السلطانية، عرب آل يسار، جامعي السلطان حسن والرفاعي، وادي المستضعفين بالقرافة، وغيرها من الأماكن.
توثق هذه الزيارات من خلال التصوير ورسم لوحات تشكيلية تستلهم روح المكان وحكاياته، ثم تشارك المبادرة بهذه اللوحات في المعارض الجماعية. وقد فنانين (رسم مصر) بالعديد من الجولات التاريخية والفنية.
اقرأ أيضًا: التكلفة البشرية لـ”نيوم” و”العاصمة”.. إزالة ذكريات الناس في مصر والسعودية
تحدثنا مع الدكتور محمد حمدي، أستاذ الرسم والتصوير في كلية التربية الفنية جامعة حلوان وصاحب مبادرة “رسم مصر”، والذي قال: “المبادرة دائمًا ما تطلق دعوتها عبر الفيسبوك للنزول لرسم وتوثيق أضرحة الشخصيات الوطنية ذات الطرز المعمارية والتراكيب المتميزة، مثل أضرحة: شاعر السيف والقلم، ومحمود سامي البارودي، والأمير يوسف كمال مؤسس مدرسة كلية الفنون الجميلة، إلا أن أكبر تفاعل على أرض الواقع للمبادرة كان فى دعوة (طالع إزالة) لتوثيق مقابر الإمام الشافعي”.
وعن عبارة “طالع إزالة”، أضاف أستاذ الرسم والتصوير: “ليست من كتابة أو اختراع (رسم مصر)، العبارة كانت مكتوبة من قبل الجهات المسؤولة على أحد المباني المقرر إزالتها”، مؤكدًا أن المبادرة تستهدف بالأساس تعريف الشباب بتاريخ الوطن وفنونه، كما أنها ليست لها أي أهداف سياسية، وستستمر في إشاعة الجمال من خلال جولاتها الفنية والتاريخية بالقاهرة.
ومع ذلك، فقد أدهشه مشاركة الشباب في مبادرته بهذه الكثافة. يقول: “إنهم يحبون الحديث عن التاريخ ومولعين بالزيارات الميدانية لهذه الأماكن”.



ويرى الدكتور محمد ويشاركه كثير من المتخصصين من أساتذة التصميم العمراني أن نطاق مدافن القاهرة التاريخية نسيج عمراني متفرد، لا يصح قطعه بشق طرق أو كباري، فالمدن التراثية لا ينظر إليها بشكل جزئي، بل بنظرة شمولية وحضارية.
“رأيت الحزن حتى في أعين عمال الإزالة.. كانوا زعلانين وحاسين إنهم بيعملوا حاجة غلط”؛ تصف “مها” – اسم مستعار- طالبة فنون جميلة من القاهرة، مشاهد الجرافات وهي تزيل المقابر.
“أنا أرفض فكرة نقل الرفات من مستقراتها إلى أماكن صحراوية، وأرفض هدم التراث والذكريات التي تحيط بتلك الأماكن”؛ تضيف معبرة عن استيائها من الأخبار المتكررة عن الهدم، والتي دفعتها للمشاركة في مبادرة “رسم مصر”.
شاركت “مها” المبادرة في فعالية توثيق منطقة تربة السلطان، ثم زيارة مقابر الأمام الشافعي، وهي باعتبارها طالبة مهتمة بالفنون والمعمار تتابع أخبار الأماكن التراثية وتقدر قيمتها وتحتفي بالاهتمام بها ولو بأبسط الأشياء -كما تقول- رسمًا وتوثيقًا قبل الإزالة، التي لا تقتنع بجدواها وترى أن هناك حلول هندسية تتلافاها.
إلى أين يا صاحب “قنديل أم هاشم”
وقد أعربت نهى حقي، ابنة الكاتب الراحل يحيى حقي، عن حزنها الشديد لنقل رفات والدها من مرقده جوار مقابر السيدة نفيسة إلى مقبرة في مدينة العاشر من رمضان.
وقالت: “لم أستطع التصدي لمهمة نقل رفات والدي صاحب (قنديل أم هاشم) من المكان الذي عشقه في حياته، وأوصى أن يدفن به بعد مماته”.
اقرأ أيضًا: ربما لا نراها قريبًا.. جولة مصورة لمقابر القاهرة التاريخية
تضم هذه المنطقة معالم تراثية قيمة في تاريخنا الإسلامي، منها مقبرة الإمام ورش صاحب رواية “ورش لقراءة القرآن”، ومقابر شخصيات شهيرة في تاريخ الثقافة المصرية، كالشاعرين حافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي، والأديبين يحيى حقي وطه حسين، والفنان التشكيلي حامد ندا، وغيرهم.
وقد أزيلت المئات من مقابرها التاريخية تلك، التي يرجع عمر بعضها لأكثر من 1000 عام، بهدف توسعة طرق وإنشاء جسور علوية.
لم تكن “رسم مصر” وحيدة في التنديد بإزالة الجبّانات التاريخية في القاهرة، إذ أطلقت فاطمة كشك، المتخصصة في علم المصريات، أيضًا مبادرة “الناس والمكان”، للتوعية بأهمية التراث المصري وربط الناس بالأماكن التي يعيشون فيها، خاصة المناطق القديمة والأثرية.
وتستهدف “الناس والمكان” فئات مجتمعية بمناطق أثرية قديمة، مثل منطقة “سوق السلاح” التي عقدت المبادرة فيها ندوة لشرح أهمية المناطق الأثرية بها وزخارف المساجد.
إيمان عبد الواحد، وهي طالبة بكلية التجارة جامعة حلوان، واحدة ممن شاركن في الجولات المستمرة لمبادرة “رسم مصر”، قالت لـ “فكر تاني”: “نحن مجتمعات تعيش وتفخر بتراثها منذ الصغر، ونرفض أن تطمس الحداثة هويتنا المصرية”.
لا تمانع “إيمان” بناء المدن الجديدة والطرق التي ربما توفر بضع دقائق في الزحام، لكن ترفض بشدة أن يكون ذلك على حساب الهوية والأصالة. وهي تشعر بالقلق على مصر كلما رأت كيف تدفع الدول وتستثمر من أجل أن يصبح لها تاريخ، بينما هو يُهدم في بلادها.
وقد ناشدت منظمات حقوقية ونقابات مهنية وشخصيات عامة السلطات وقف ما اعتبرته تعديًا على مقابر القاهرة التي وصفتها بالتاريخية. وأعربت عن نيتها التقدم ببلاغ للنائب العام ضد وزراء السياحة والآثار والأوقاف ومحافظ القاهرة، للمطالبة بوقف التبديد والتدمير للمباني والمقابر بشرق القاهرة.
وفي أغسطس الماضي، أعلن أيمن ونس رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المميز بشرق القاهرة، أنه تقدم باستقالة مسببة من عمله، لعدم جدوى عمل اللجنة التي يرأسها، في ظل استمرار الحكومة في حملات إزالة المباني التاريخية، بحسب ما قال. ذلك قبل أن يسحب منشور الاستقالة من حسابه عبر “فيسبوك”.