قبل نحو ثلاث سنوات طلبت مني ابنتي أن أنشئ لها حسابًا على تطبيق يدعى "تيك توك" والذي كنت قد سمعت عنه، إلا أنني لا أهتم كثيرًا بمواقع التواصل والمنصات المختلفة، ولم أكن أعلم أني سأدخل إلى عالم إحدى أكثر هذه المنصات إثارة للفضول والتعجب وفضحًا لما تجول به العقول والأنفس!
التطبيق الذي انطلق من الصين عام 2016 مستهدفًا المراهقين الذين يريدون عمل مقاطع فيديوهات صوتية وموسيقية قصيرة، تجاوز عدد مستخدميه المليار في الوقت الراهن –أكثر من 20 مليون مستخدم في مصر- واستطاع جذب الجنسين من جميع الفئات العمرية ومن أنحاء العالم كافة، سواء كانوا فقط مشاهدين أو صانعي محتوى.
مدة الفيديوهات القصيرة التي لا تتعدى الدقيقة كانت عامل الجذب الأكبر للأشخاص في متابعتهم لهذا التطبيق والتفاعل معه، ثم توالت الإغراءات بعد ذلك؛ فأنت يمكنك أن تجني أرباحًا من عدد المشاهدات لمقاطع الفيديو الخاصة بك، كما يمكن أن يشاهدك المستخدمون في بث مباشر (لايف) وتحصّل أموالًا من عدد المشاهدات، وليس هذا فقط ما ستجنيه؛ بل ستصبح معروفًا وسيتواصل معك الناس، إذن فمن هذا التطبيق أستطيع أن أظهر للناس في أي وقت ومن أي مكان، مستخدمًا فقط كاميرا الموبايل وأتحدث معهم أو أصور لهم أي شيء أريده وسأصبح مشهورًا وغنيًا.. فكيف لا يتهافت عليه العالم!.
فتح كل ذلك عوالم شاسعة مختلفة في التيك توك لا يمكن أن يحصيها أحد حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، منها العادي ومنها الجديد والمثير للإعجاب، ومنها المبتذل المستنكر ومنها غير المفهوم، فالعامل المحفز الذي ألقاه هذا التطبيق بين يدي الناس أماط اللثام عن جزء من فكرهم، وكشف جوانب من شخصياتهم وعقولهم ونفسياتهم تكفي لمئات من الأبحاث والدراسات، وهنا لا أتحدث عن صانعي المحتوى فقط.. بل وسيكلوجية المشاهد أيضًا.
ستجد على التيك توك صانعي محتوى يقومون بأشياء غريبة لا نفهمها ولا نعلم الجدوى منها، وليس هذا هو الغريب في الأمر فقط؛ فالسعي وراء المال وحمى الشهرة يدفع الناس لفعل كل ما هو شاذ للفت الانتباه، ولكن الصادم هو عدد المتابعين والمشاهدين لهذا النوع من المحتوى، والذي يتجاوز الملايين حول العالم!.
"استجابة القنوات الحسية الذاتية" أو "ASMR" واحد من أشهر أنواع المحتوى الذي لم نكن نعرف عنه شيئًا، واشتهر وانتشر بفضل التيك توك، هل رأيت فيديوهات لأشخاص لا يفعلون أي شيء سوى الهمس في المايكروفون أو النقر عليه برتابة بصوت خافت؟، هذا هو الـ"إيه إس إم آر"، وفي الوقت الذي يُعد مجتمعنا حديث عهد بهذه الأشياء، ونضرب كفا بكف عندما نراهم ونتمتم: "ماذا يفعل هؤلاء الحمقى؟!"، قامت جامعات أجنبية بعدد من الدراسات والأبحاث حول السبب في إقبال الناس على الاستماع لهذه الأصوات، وقالوا إن أصواتًا معينة كالهمس وصوت المضغ والنقر الهادئ وغيرها تعتبر محفزات للدماغ تؤدي إلى رد فعل من الجسم، وتتباين ردود أفعال المستمع بين الشعور بقشعريرة أو دغدغة خفيفة في الدماغ تجعله أكثر استرخاءً، وبين إيمان بعضهم بأن هذه الأصوات تخفف من ضغطهم وتوترهم ولها القدرة على معالجة الأرق ومحاربة الاكتئاب!.
عندما قرأت عن هذه المعلومة فهمت لماذا كنت أتوقف كثيرًا أمام فيديوهات الأكل وعدد مشاهديها وصانعيها، لا أقصد محتوى صنع وتحضير الطعام ولا دعاية تذوق الأكلات في المطاعم، بل أقصد الأشخاص الذين يقدمون محتوى عبارة عن أنهم فقط يأكلون، متعمدين إظهار صوت القضم والمضغ والبلع وجميع مسميات أصوات أصناف الطعام المختلفة كصوت القرمشة والتمزيق وغيرها، لم أفهم الجدوى وقتها ولكن الآن أعتقد أنه حقًا قد يكون عاملًا نفسيًا.
ما يثير الغرابة أيضًا هم الأشخاص الذين يصورون أنفسهم وهم لا يقومون بفعل أي شيء -بالمعنى الحرفي للكلمة-، فقط ثبتوا نحوهم الكاميرا في وضع البث أو التسجيل دون فعل أي شيء، إما جالسون طوال الوقت في وضع الصنم أو نائمون، وآلاف من المتابعين والمشاهدين للّاشيء!، أين المحتوى؟، لم أفهم هذاالنوع من الفيديوهات، ولكنني أنتظر حقًا أن يحاول المختصون دراسة مثل هذه المواضيع، في محاولة لفهم طبيعة تفكير صانع هذا المحتوى والمشاهد كذلك.
هذه الأمثلة تدفعني للبوح بوجهة نظري في هذه المنصات، بأن وسائل التواصل الاجتماعي ليست لعنة على الإطلاق، إنما نحن من نسيء استخدامها حقًا، هي مفتاح ذهبي صنع بالأساس ليفتح لنا الآفاق، ويمدنا بالأفكار ويعلمنا أشياءً جديدة، ويساعدنا على الانتشار ويواكبنا بالحداثة بيننا وبين شعوب أخرى، لكن أنواع المحتوى التي تعرضها هذه المنصات هي اختيارنا نحن كأفراد، فاختر –بعناية- ما تشاهده.. واختر -بمسؤولية- ما تعرضه للعالم.