" هل يصبح البيزو الأرجنتيني قريبا شيئا من الماضي في ظل تدهور سعر الصرف أمام العملات الأجنبية وتحديدًا الدولار؟"، يُطرح السؤال وبقوة داخل المشهد العام بالأرجنتين، الدولة التي يعاني سكانها من أزمة اقصادية طاحنة. تقول التقارير الصحفية الأجنبية الواردة من أمريكا اللاتينية، أنه إذا فاز خافيير مايلي، المرشح الأوفر حظاً في الحملة الانتخابية للرئاسة، بالانتخابات المقرر إجراؤها في أكتوبر القادم، فإنه من المرشح أن يتم إلغاء عملة البلاد واستبدالها بالدولار الأميركي
وكانت السلطات المالية الأرجنتينية، خفضت، منتصف الشهر الماضي، قيمة العملة المحلية (بيزو) بنحو 20 في المئة تحسبا لتقلبات سوق الصرف على خلفية نتائج مفاجئة حققها السياسي اليميني المتطرف خافيير ميلي في اقتراع تمهيدي للانتخابات الرئاسية جرى أغسطس الماضي
وأظهرت أرقام المصرف المركزي الأرجنتيني تداول البيزو عند 365,50 للدولار، مقارنة مع 298,50 قبلها بأيام قليلة.
وفي حين يُعتقد أن الأرجنتينيين يمتلكون كميات كبيرة من الدولارات أكبر من أي مكان خارج الولايات المتحدة، ويعتبر اكتنازها أسلوب حياتهم، وتعد هذه الخطوة جزءًا من خطة العلاج بالصدمة التي وضعها الليبراليون اليمينيون والتي تهدف إلى تغيير الآفاق الاقتصادية للأرجنتين، تشير استطلاعات الرأي إلى أن 60% من الأرجنتينيين يعارضون فكرة الدولرة حتى لا تمنح البنك المركزي الأميركي، أو بنك الاحتياطي الفيدرالي، صلاحيات أكبر مما ينبغي في الاقتصاد الأرجنتيني
فقدان الثقة في المؤسسات المالية
يلعب الدولار دورًا كبيرًا في الاقتصاد الأرجنتيني، لدرجة أن الفكرة بالنسبة للبعض تبدو وكأنها نتيجة مفروغ منها، فتقليديا، لا يهتم الأرجنتينيون كثيرا بعملتهم الخاصة، ويفضلون تحويل البيزو الفائض لديهم إلى دولارات في أقرب وقت ممكن، لا يثقون كثيراً بالمؤسسات المالية أيضاً، لذا يلجأون إلى ما يعرف محلياً باسم "بنك كولشون" ـ أي حشو دولاراتهم تحت الفراش.
وبحسب تقرير صحيفة bbc البريطانية، تكثر القصص المتناقلة عن أشخاص يحتفظون بأموالهم مدفونة في الحديقة، أو مخبأة في الجدران أو حتى مخبأة في أنظمة التدفئة - مع عواقب وخيمة في بعض الأحيان إذا حدثت موجة برد غير متوقعة ولم يتم استرداد الأموال قبل أن تتصاعد في الدخان.
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عندما أفسدت فترات التضخم المفرط اقتصاد البلاد، وتشير التقديرات إلى أنه خلال الثمانينيات وحدها، شهد الأرجنتينيون من الطبقة المتوسطة تقلص قوتهم الشرائية بنسبة 30٪، فخلال تلك الفترة، أدت ارتفاعات الأسعار غير المنضبطة إلى تآكل قيمة الأجور، وتقليص المدخرات.
وبسبب ذلك، كان أمام الأرجنتينيين طريقين، إما شراء البضائع بكميات كبيرة أو شراء الدولار الأمريكي، لأن أيًا من هاتين الطريقتين ستحتفظ بقيمة ما يملكون بشكل أفضل من حزمة الراتب الأصلية، والآن تواجه الأرجنتين مشكلة تكاليف المعيشة مرة أخرى، حيث بلغ معدل التضخم السنوي 115%، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع مذهل في عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر، من حوالي ربع السكان في عام 2017 إلى أكثر من 40% الآن.
جهود حكومية بلا فائدة
وبالطبع قد تعتقد المتابعون، أنه لا توجد حكومة تحترم نفسها تريد أن يستمر هذا الوضع إلى الأبد، وبالطبع ستكون على حق، ولكن الكارثة الحقيقية، هي أن تدرك الحكومة الأزمة ثم تتخذ إجراءات خاطئة، وحينها ستكون النتائج كارثية، فقد كانت هناك محاولات عديدة لاستعادة ثقة الأرجنتين في عملتها ـ إما من خلال تعزيز قيمتها أو مجرد خنق المعروض من الدولارات، لكنهم جميعا فشلوا في نهاية المطاف.

البيزو الأرجنتيني
وفي محاولة منها لتجاوز الأزمة، في عام 1991، طرحت الحكومة ما أسمته خطة التحويل وكانت هذه الخطة بمثابة ربط قيمة البيزو بالدولار بنسبة واحد إلى واحد، وكانت الحكومات السابقة قد غذت التضخم من خلال طباعة النقود، ولكن هذه المرة، صدر مرسوم بأن كل بيزو يتم إصداره سيكون مدعومًا بدولار واحد في خزائن البنك المركزي، وكانت الفكرة هي أنه من خلال إخبار الناس أن بإمكانهم مبادلة البيزو بالدولار في أي وقت، فإنهم سيقررون في النهاية أنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك، ولفترة من الوقت، قامت بالمهمة، ولكن كان لها آثار جانبية أخرى أدت في النهاية إلى انهيار اقتصادي كارثي في الفترة 2001-2002.
تبعية سياسات اقتصادية أجنبية
وإن كان هناك جرائم لا تسقط بالتقادم، فبيجب أن يكون منها الاستسلام للسياسات الاقتصادية الأجنبية وزيادة الديون، وهى حقيقة أثبتتها التجربة الأرجنتينية، قامت الأرجنتين بشكل أساسي بالاستعانة بمصادر خارجية لسياستها الاقتصادية لواشنطن، من خلال حبس نفسها في نظام العملة الذي لم يمنحها أي مرونة، وذلك بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
كما سمحت الأرجنتين أيضًا لدينها العام بالخروج عن نطاق السيطرة، وفي الوقت نفسه، كان الارتباط بالدولار يعني أنه يعاني من صعود وهبوط الاقتصاد الأمريكي، وفي العقدين اللذين أعقبا تلك الأزمة، كانت الأرجنتين تعيش حالة من الفوضى في ظل حكومات يسارية حمائية، وكان حلهم لمشكلة مصداقية البيزو يتلخص ببساطة في زيادة صعوبة شراء الدولار.
سعر صرف الدولار
اليوم، يوجد ما يصل إلى اثني عشر سعر صرف مختلفًا، اعتمادًا على من يريد الوصول إلى العملة الأمريكية ولماذا، وبالنسبة للسعر الرسمي، تحتاج إلى 287 بيزو لشراء دولار، ولكن لا يمكنك شراء سوى 200 دولار شهريًا وعليك دفع ضرائب عقابية على المعاملة، وبعد ذلك، يصبح الأمر غريبًا بشكل متزايد، فهناك سعر دولار كولدبلاي (374 بيزو للدولار)، والذي تم إنشاؤه خصيصًا لفرق الروك الأجنبية التي تزور البلاد، وهناك سعر مالبيك (340 للدولار)، المصمم لتعزيز صادرات النبيذ والمنتجات الزراعية الأخرى.
ورغم هذا، فإن جوع عامة الناس إلى الدولارات ما زال مستمراً، في حين يقبل الجميع، من سائقي سيارات الأجرة إلى أصحاب المطاعم، بكل سرور العملة الأميركية كوسيلة للسداد في مقابل السلع والخدمات، وكل هذا يجعل الدولرة تبدو مرغوبة، وربما حتى حتمية، ولكن لم يكن من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو، فقد واجهت البرازيل، الجارة والمنافسة القوية للأرجنتين، الكثير من نفس المشاكل ولكنها اختارت طريقاً مختلفاً.
التجربة البرازيلية
استلهمت البرازيل ما حدث في الأرجنتين في عام 1993 عندما أطلقت الخطة الحقيقية، حيث ربطت عملتها بالدولار، ولكن من خلال إظهار القدرة البرازيلية الأبدية على ثني القواعد، فقد منحوا أنفسهم بعض المساحة للمناورة، وسمحوا لقيمة الريال بالتقلب، ضمن حدود، في مقابل الدولار، وساعدت عوامل اقتصادية وثقافية أخرى البرازيل، لذا فإنها لم تتطور قط إلى نفس القدر من عدم الثقة في البنوك والرغبة في الدولار.
وفي البرازيل، لن يقبل أي صاحب متجر أو صاحب مطعم للوجبات الخفيفة الدولارات كوسيلة للدفع، بغض النظر عن المبلغ الذي تطالب به، وفي الوقت الحاضر، أصبح كلا البلدين بعيدين عن سعر الصرف 1:1 الذي اعتمداه في التسعينيات، ولكن شراء دولار واحد في البرازيل في أيامنا هذه لا يتطلب سوى أقل من خمسة ريالات، ومن المؤكد أنها لن تكون الدولة الأولى في أمريكا الجنوبية التي تقوم بذلك - فقد وصلت الإكوادور إلى هناك في عام 2000 ودفعت التضخم إلى الانخفاض نتيجة لذلك، وقد يكون تحقيقها أسهل من الفكرة التي طرحها مؤخراً الرئيسان الأرجنتيني والبرازيلي، وهي إنشاء عملة مشتركة بين البلدين، وربما يطلق عليها اسم "سور" أو حتى "جاوتشو".