مشهد ما بعد "العلقة".. عامان على الخروج من السجن

كنت طالبة في مدرسة حكومية، في مرحلة الابتدائية كنت متفوقة على باقي أقراني بكل سبل السلطة الممكنة، فحالنا المتيسر ماديا، وقرب سكنتي من المدرسة، وعلاقات أمي التي كانت تعمل مدرسة سابقًا وشخصيتها القوية مع المدرسين، إضافة لشعري الناعم وبشرتي البيضاء وملابسي الغالية النظيفة دائمًا وفوق كل هذا تفوقي الدراسي. كلها أسباب جعلتني بمعايير مجتمعنا من "صفوة" المدرسة الحكومية.

لكني أذكر "فاطمة" حتى اسمها لم يساعدها. ففي طفولتي كان اسم فاطمة اسمًا قديمًا يجلب السخرية لصاحبته. كانت فقيرة يتيمة الأم. تعيش مع زوجة أب. ملابسها دومًا غير نظيفة إلا يوم السبت، لكنها حتى يوم السبت في الساعة السابعة صباحا كانت دائمًا تبدو مرهقة ورمادية باهتة، خاصة إذا ما قارنتها بوجهي الأحمر وأظافري اللامعة وملابسي المكوية بعناية.

وكنت أقارنها كل مرة يقارنها مدرس ما بنا نحن "الصفوة" المحتلين للمقاعد الأمامية. كان الكل يلتفت لينظر لها في مكانها بالمقعد الأخير بركن الحائط وكأنها ترجو لو تستطيع أن تثقبه وتنفلت خارجه عن المكان والزمان.

لم أكن ألتفت مع الرؤوس، لا أضحك مع ضحكهم منها. بل على العكس كنت أشعر بالخجل من نفسي. خجل لكل هذه الفوارق بيننا. كنت أشعر بالكراهية أكثر تجاه المدرسين، ولم يفهم أحد منهم لماذا. لكني كنت صامتة. لم أفعل أي شيء. حتى يومها…

كان هناك مدرسة تُدعى "هناء" عرفت بعدها أن ما كانت تفعله ليس اسمه حزم وشدة كما دافعت عنها المديرة إنما هي سادية مقيتة تتلذذ بالألم والذل.

كانت "هناء" لا يتم توجيه أي توبيخ لها مهما فعلت، وكان الجميع مدرسين وعاملي نظافة وطلاب يتحاشونها، حتى أولياء الأمور. لم يكن الأمر سوى شفقة غبية وليس خوف كما كنت أظن وقتها. بعدها فهمت السبب. بعد ما فعلته يومها…

كانت "فاطمة" بليدة بطبيعة الحال، وقررت "هناء" في يوم، أن من سينقص مقدار خمس درجات في الامتحان الذي قررته سوف تقوم بمعاقبته ب"الفلقة". أما كل درجة ينقصها طالب أقل من خمس درجات فسيكمل الدرجات الناقصة بعصا على كفيه.

كانت أول مرة اسمع الكلمة "الفلقة" وأول مرة أشاهدها.

نقصت درجة واحدة في الامتحان، أنا وثلاثة فقط من "الصفوة"، لم يحصل أي طالب في الفصل على الدرجة النهائية.

ووجدت "هناء" نفسها في موقف صعب، كيف لها أن تضربنا نحن "الثلاثة" أنا وما لي من قوة، وثانية ابنة مدرسة زميلتها، وثالثة هي أمينة الفصل ومن أشهر طلاب المدرسة!

وعليه قررت أن تلغي العقاب عن كل من نقص درجة واحدة، هذا الاستثناء كان "مفصل" تفصيلا ليناسب مقاسنا نحن الثلاثة. عدت إلى مقعدي معهن. وجلسنا باقي الحصة "ساعة ونصف" نشاهد باقي الفصل كله، حوالي ثلاثين طالبا، يُضربون ويبكون أو يضحكون على بكاء الآخرين قبل أن يأتي دورهم.

انتهى الأمر إلى "فاطمة" وطفل صغير آخر لا أذكر اسمه، كلاهما وقف طول الحصة يبكي وكانت فاطمة ترتعد بشدة، لأن كليهما بانتظار "الفلقة".

حتى تلك اللحظة لا أستطيع أن أكتب التفاصيل، أذكر أنها أمرتها أن تذهب لترتدي شورتا تحت الچيب حتى لا تظهر عورتها. وأنها أخرجت لها الشورت من حقيبة يدها كأنها كانت مستعدة للمشهد.

أذكر بكاء الطفلة لا من حزن ولا خوف فقط، وليس من الذل والمهانة وحدهما. لكنها كانت كأنها تبكي وجودها نفسه. تبكي أمها التي ماتت، وزوجة أبيها التي تجعلها خادمة، وفقر أبيها الذي لم نره أبدا، تبكي أنها قد خلقت منسية وحيدة.

بعد أن انتهت هناء من ضرب فاطمة، بعدد من العصا الذي رأت أنه كافيا، طلبت منها أن تذهب للحمام لتغسل وجهها وتعدل من ملابسها ومظهرها، فعلت "فاطمة" دون أن تنبس بكلمة أو تتوقف عن البكاء... تحركت بصعوبة وبحركة عرجاء، وهنا سخرت "هناء" من عرجها وقالت لها أنها ستعتاد "الفلقة" لأنها كل شهر ستكررها حتى تحصل على الدرجة النهائية. خرجت فاطمة من الفصل والجميع صامت، ومرت لحظات والغضب مع الحزن يثوران في صدري. وفي تلك اللحظة نفسها قررت أن اكسر "صمتي" للأبد.

عادت فاطمة، لا تبكي ولا ترفع رأسها، ودموع محجرة في مقلتيها كصخرتين، وكانت الغرابة الصادمة لي، أن "هناء" ضربتها ضربات خفيفة بالعصا وهي تلين لها بالقول حينا وساخرة ضاحكة من حصولها على درجة واحدة، وتزيدها نكاتا والفصل يضحك بصوت عال، الفصل نفسه الذي ضرب كله منذ قليل- ما عدا أصحاب السلطة- واستمر الأمر دقائق حتى ضحكت "فاطمة" نفسها مغالبة دموعها. وحينها فقط أمرتها "هناء" أن تعود لمقعدها، كأن الأمر انتهى.

أذكر نظرة "فاطمة" لحظة دخولها "الفصل" عائدة من الحمام وهي ترمقنا نحن "الثلاثة" الجالسين على المقعد الأمامي الأوسط أمام "هناء" قبل أن تختفي في الركن المظلم في مقعدها الأخير. لم تكن نظرة غضب أو حسد، كانت نظرة "إعجاب". شعرت لحظتها بالخجل أكثر من نفسي، لأني خذلتها. لأني لا أستحق إعجابا.

تلك اللحظة التي يٌغرس فيها الألم والاستعباد والمذلة عميقا في النفوس وليس فقط على الجسد. هي لحظة ما بعد "العلقة" حينما يجلس المعذب أمام جلاده في "حوار" بعدما أمره أن يحسن من هندامه ويمسح عنه الدموع ويخفي علامات الألم. تلك اللحظة هي الأسوأ من لحظة الضرب نفسها.

بعد هذا المشهد، خرجت مندفعة من الفصل أبكي بغضب شديد متوجهة إلى المديرة، لا أدري ماذا قلت وإن كنت استطعت الكلام حتى أم لا. أذكر فقط خروجي غاضبة أبكي أكاد أصرخ. وأتذكر أن كل المدرسين والمديرة ظلوا يرددون: لكن هي لم تضربك! ألم تتراجع وجلستي في مقعدك! ما دخلك أنت!

وأخذوا يبررون سلوكها العنيف بأنها قد فقدت ابنا لها للتو، وهي ملكومة حزينة لا نستطيع أن نعاتبها. لم أهدأ. ولم أستكن لكل محاولات توددهم، بل زادتني حنقا واشمئزازا حتى من نفسي.

اصطحبت ثورتي ذاتها للبيت، وعادت أمي معي للمدرسة بعدها، مستخدمة كل سلطتها. حتى تم نقل المدرسة لفصل آخر.

كنت أجلس في مقعدي الأول أغوص به بخجل، وأسمع صوت الضربات قادمًا عابر الحائط من الفصل المجاور في حصة "ميس هناء".

حينما جلست مثلما جلست فاطمة مع هناء في نهاية مدة اعتقالي. كنت أراضي نفسي أني مجبورة كما كانت فاطمة يومها. وكنت أقول لنفسي على الأقل أحضر هناء أخرى لتجلس معكِ وليست نفس الهناءات اللاتي قابلتهن خلال عام وأربعة أشهر في السجن ومقار الاحتجاز المختلفة، لكن أليس كلهم واحد؟ هل حقا هناك اختلاف حقيقي بينهم؟

للحظات كان يهاتف فيها أحدا ما خارج المكتب، وكنت أنا أستعيد "العلقة". وتفاصيلها.

كان هذا قبل عامين من خروجي من هناك، لا زلت أذكر اللحظات الأولى وأنا أقف في الشارع دون قيود حديدية ولا قوات مكافحة الإرهاب ولا ضباط مباحث أمن الدولة الذين يظهر عليهم القلق والترقب الشديدان من خلف نظارتهم السوداء.

أذكر أني وقفت لثوان وسط جمع من المحامين الأصدقاء، أسحب نفسًا عميقا للداخل، وأنظر حولي وأخطو داخل السيارة الملاكي في المقعد الأمامي وأنا أستشعر لذة التفاصيل هذه، لذة أن أرفع قدمي وأدخل سيارة بقراري الخاص وأن أجلس في مقعد جلدي وأمامي زجاج نافذة وأني أستطيع أن أطلب منهم التوقف متى شئت وأن أترجل منها إلى ما شئت ووقتما شئت.

أن أتألم فأستطيع أن أحصل على دواء، أن أحتاج لدخول دورة المياه فأذهب دون إذن أو طرق على باب، أن استحم وقتما شئت وأحظى بخصوصيتي في الحمام بلا شبابيك مفتوحة في الشتاء البارد وألا أتلفت حولي محاذرة من شقوق الأبواب من عيون متلصصة وأنا عارية تحت صنبور مياه صغير في الحائط أتحمم منه، أن أطفئ النور، أن أفتح الباب، بل إن هناك مقبضًا للباب من الداخل.

ألا أسمع صوت الحديد مفاتيح وأقفال. ألا أترقب الخطوات وأستعد للعراك.

إن أرى وجه أمي، وأحضن أخي وأختي، أن يكف أبي عن البكاء كلما رآني.

أن أنام في فراشي، أن أملك المساحة لأفرد رجلي لآخرها، أن أشعر بالدفء، أن أشبع، أن أروي عطشي، أن أختار إذا أكلت أو شربت ما أردت.

أغرق في التفاصيل، ثم أتجرعها على بطء، وأركز في مذاقها، لأني بها أعرف أكثر حلاوة مذاق الحالي، فأستسيغ التفاصيل الصغيرة التي يخطفها منا الزمن.

الزمن الذي فقدت قدرتي على التعامل معه. منعتني عزة نفسي عن السؤال عن الساعة أو اليوم في فترة اختفائي التي طالت عشرة أيام فقط، مع اختلاف مواعيد التحقيق وتقطع النوم فقدت القدرة على العد، حاولت بالطرق التقليدية ذاتها، حفرت علامات على الحائط لكل يوم يمضي، لكن هناك فترة لم أعد أعرف فيها هل مضى يوم بالفعل أم أني نمت وصحيت في نفس اليوم أم مضى أكثر من يوم؟

ضل عني الوقت والعد. ضل عني تتبع الزمن إلى اليوم. حتى لما انتقلت للسجن لم يسمح لي أن أحمل ساعة يد، ولم أميز الوقت إلا في الساعة التاسعة صباحا وقت فتح الباب في الانفرادي، ثم الساعة الثامنة صباحا والساعة الرابعة عصرا وقت فتح وغلق الباب في العنبر العادي في وضع العزلة.

تلك التفاصيل الصغيرة بجانب أخرى كبيرة، كالقيد الذي ترك أثره في كاحلي، كألم ركبتي، كاضطراب مناعتي نتيجة للتلوث والإهمال الطبي، كاضطرابات الصدمة التي ينشطها أقل صوت أو رائحة. الرائحة النفاذة لدماء الحيض تذكرني بالحيض في السجن الانفرادي والباب يفتح مرة واحدة كل أربع وعشرين ساعة والدماء لا تتوقف عن النزول ساعة، ولا أملك حفاضات ولا أملك سوى أن أنزف على نفسي وتعبق الزنزانة المتر ونصف طولا وعرضا برائحة الدم الفاسد.

وصوت المفاتيح الحديدية التي كانت تفزعني لأجلس متأهبة للقادم، إن كان تفتيش مفاجئ عقابي أو محاولة جديدة "لجر الشكل"، حالة التأهب التي أقنع جسدي منذ عامين أن عليه أن يتخلى عنها، ويقنعني بمنطقية شديدة أن عليه أن يحافظ عليها لعلها تتكرر.

نصحني الكثير أن أكتب تجربتي قبل أن أنساها فور خروجي، إلا أني أعلم نفسي. الألم يتسرسب عميقا في جذورنا مع الذكريات، لا ننساه، أتركه يتسرسب كساعة رملية ببطء، نقطة نقطة، عميقا في جذوري، وأرويه مع الوقت بمحاولات الشفاء، وأصبر، الميزة الوحيدة التي أذكرها عن نفسي صراحة أني صبورة، خاصة على الألم. أصبر وأنتظر. أنتظر أن يثمر، كزهرة قرأت عنها في السجن، تسمى قلنسوة الراهب والبعض سماها قلنسوة الشيطان، وهي زهرة جميلة جدا وإن كانت شديدة السمية. راهب كانت أم شيطان، هذه نفسها زهور الألم النابعة في صدورنا من الذكرى. نشاهدها نتأملها ونعتني بها، فتكون دواخلنا حديقة من الزهور، الزهور التي إن لمستها قتلتك.

عامان على خروجي من السجن، نجوت من "الضرب" الذي لم أستحقه لأسباب غير عادلة. وبقي آخرون وأخريات، يعانون هناك ما أذكر بعضه هنا.

أمنيتي في العام الثاني لذكرى خروجي من الاعتقال... إن أنظر مرة ثانية إلى مرآة فأجدني . وعزائي الوحيد أني ما زلت قادرة على محاولات الانتصار. رغم كل الهزائم.

في العام الأولى لحريتي عددت المكاسب التي حققتها من وقت خروجي. في عامي الثاني في الحرية أعترف بالهزائم التي لحقتني من خلف اعتقالي. وأكبرها هزيمة، قلبي. إلا أن هزائم الفرد مهما كبرت تظل شخصية، ويرجو أن تكون مكاسبه جماعية.

أذكر جيدا أن أغلب المدرسين وقت واقعة "هناء" و "فاطمة" الأولى كانوا مذهولين من غضبي، تسائلوا: ثم لما أنت غاضبة هل كان الأفضل أن تضربك مثلا كالآخرين؟، وحينها أذكر جيدا أني صرخت: بل أن تتوقف عن ضرب الآخرين!

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة