أن تتورط في حب تاجر مخدرات

دائمًا ما يقدم لنا صناع السينما والتلفزيون شخصية الشرير الذي يمثل الشر المطلق، بينما الواقع منفصل تمامًا عن ذلك، لأن سيكولوجية الإنسان عمومًا هي شيء شديد التعقيد، لا تستطيع أن تقدمها بهذه البساطة والسهولة. الإنسان لا يمكن أن ينحصر في الأبيض والأسود، إنما هو ألوان كثيرة لا تعد ولا تحصى، لذلك تقديم الخير والشر بهذه الطريقة هو استسهال ليس إلا.

يقدم لنا المخرج والمؤلف داوود عبدالسيد في فيلم “أرض الخوف” تجربة مختلفة تمامًا، عن شخصيات شديدة التعقيد، تشبه الإنسان، تشبهنا نحن، شخصيات يمتزج فيها الخير بالشر فلا تستطيع فصلهما عن بعض.

يحكي الفيلم عن يحيى ضابط الشرطة الذي يكلفه المسؤولون بمهمة سموها “أرض الخوف“، وهي أن يدخل يحيى إلى عالم تجار المخدرات ويكون تاجرًا حقيقيًا، وزمن المهمة غير محدود وغير معلوم، يعيش يحيى لسنين تاجر مخدرات ليكتشف في النهاية أن من أسند إليه المهمة مات، فلا يبقى لديه خيار سوى أن يعيش تاجر مخدرات.

يبني داوود شخصيته الرئيسية في هذا الفيلم “أحمد زكي” على ثلاث أبعاد: آدم ويحيى المنقبادي، ويحيى أبو دبورة، وكل منها تعبر عن عالمها الخاص، فآدم يحكي لنا البعد الوجودي والديني ورحلة آدم في أرض الخوف وخروجه من الجنة، وأبو دبورة يحكي لنا البعد السياسي وإزدهار صناعة المخدرات في عصر الرئيس محمد انور السادات، ويحيى الذي يأتي من الحياة ليموت في أرض الخوف، حيث أن أتصاله أنقطع من أول المهمة، فلا جوابات تصل ولا أحد يرى ما يفعله، حتى أن اللواء مأمون الذي كلفه بالمهمة مات ومات معه يحيى.

  تجد نفسك تائهًا بين كل هؤلاء، فتتورط عاطفيًا معهم تارة وتكرههم تارةً أخرى، أو تُحمٌّل أبو دبورة وحده جرائم هذا الاضطراب، لأنه شماعة مثالية للغاية، لكن عليك أن تجيب عن هذه الأسئلة أولًا:

مؤكد أن يحيى أبو دبورة هو من قتل بسيوني أبو صباع، لكن من اغتصب فريدة؟

 مؤكد أن أبو دبورة قتل المعلم إبراهيم الحوت ورجب ولكن من كاد أن يقتل موسى؟

متلازمة حب المعلم هدهد.

لم أتمنى أبدًا أن أكون يحيى لكنني أحببته وتعاطفت معه وتعلقت به، دائمًا ما تمنيت أن أكون المعلم هدهد، صحيح أن المعلم هدهد تاجر مخدرات لكن ذو قلب رحيم وعقل حكيم وإيمان راسخ، يعرف تمامًا قيمة النفس ويتحدث عنها كقديس ويسميها باسمها فيقول: “نفس” ولا يقل روح أو حياة، عندما قتل أحد صبيانه لأنه كان مخبرًا للبوليس قال بإدراك العارف: “قتل النفس أصعب شيء، لكن أوقات لازم نقتل“.

كلمة “نفس” لها معنى خاص عند المعلم هدهد يطلقها على من هم في رقبته، على ذويه، عندما كان يحكي حكايته لرجب فيقول “صبياني وصبيان صبياني ميقلوش عن ألف نفس“، بينما حين هدده قال “اللي هيتعدى عليا هحرق روحه”.

هنا مربط الفرس تمامًا، هنا زمام شخصية هدهد، المعلم هدهد بالأساس هو عائل، يعول أكثر من ألف نفس،  لا يطمح لمجد شخصي، لا يطمح أساسًا، هو شخص راض تماما عن ما وصل إليه، مجرد موزع مخدرات، ليس طامعًا محبًا للمال ولا يقتل دونه، إنما هو راض قنوع بمكانه الصغير حيث كان يستطيع أن يصبح إمبراطورًا  لتجارة الصنف أو يأخذ توكيل مثل المعلم إبراهيم الحوت.

 في مشهد اجتماع تجار المخدرات لمناقشة توزيع الهيروين في السوق المصري يرد المعلم هدهد على عرض رجب المغري “اللي بيكسب 500٪” فيقول:

لامؤاخذة يا رجب بيه في حاجات انت مش واخد بالك منها، أنا ابتديت وأنا صبي، عيل صغير عندي 10 سنين كنت بلعب كورة شراب لامؤاخذة وعيني علي مدخل الحارة، وبعدين بقيت أوصل البضاعة جوه الباطنية، وبعدين طلعت من الباطنية وبقيت أوصل البضاعة الجمالية والحسينية والدرب الأحمر، كنت بوصل تربة الحشيش بشلن كنت بحطها في رغيف عيش بتعريفه في وسط خمس ترغفة، وأرجع لأمي أديها الأربع ترغفة وأكل أنا الرغيف اللي كان فيه الحشيش مع قرص طعمية، مش عاوز أطول عليك، اشتغلت بعد كده موزع علي خفيف، كنت بشتري كام وقية وأقطعهم لحد ما بقيت معلم كبير، صبياني وصبيان صبياني ميقلوش عن ألف نفس، إنما أنت بقي يا رجب بيه نزلت علينا بالبراشوت، عمرك ما هتعرف مين زباينك لأنك فوق، لا هتقابلهم ولا هتعرفهم، عرفت الفرق؟ انت تقدر تسمم الناس، لكن أنا مقدرش“.

هنا تجد نفسك تقع في حب تاجر مخدرات، ولو لم تحبه لن تستطيع أن تكرهه، ولا ينتهي الأمر عند ذلك، بل يعطينا المعلم هدهد سببًا آخر لحبه في مشهده الاخير والأعظم في رأيي عندما تأكد من يحيى أنه هو الذي قتل  إبراهيم الحوت ورجب فقال:

أنت لازم تموت علشان احنا نعيش، وده ملوش دعوة بالعواطف، بس أنا مش هقتلك مش عارف ليه،  يمكن لأني مش معصوم من الغلط، ربنا وحده سبحانه وتعالى اللي معصوم من الغلط، والغلط إني حبيتك، نصيحة يا أبو دبورة، سيب مصر واهرب، محدش هيرحمك، وأنا لو شفت وشك تاني هقتلك“.

لم يقتل المعلم هدهد يحيى أبو دبورة رغم أن الحكمة كانت تقتضي ذلك، لأن حسبة قلبه غلبت حسبة عقله، بينما في فيلم “The Godfather” قتل مايكل كورلويوني أخيه وزوج اخته عندما  اقتضت الضرورة ذلك، رغم صلة الدم والنسب. لذلك نحب المعلم هدهد.

اقرأ أيضاً: السقا مات.. فلسفة الموت والحياة

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة