لطالما تساءلت كيف حدث وتغيرت هكذا؟ كيف انبثقنا أنا وإخوتي من قرية بسيطة في الفيوم عرفت بالعنف والتمييز بين مسيحيين والمسلمين، منتشر بها الكثير من متطرفي الجماعات الإسلامية، إلى عالم آخر خارج حدود القرية وجلباب أبي الذي كان يصر أن يرتديه إخوتي بدلًا عن الملابس الشبابية بنطال وقميص، كيف واجهتنا القرية ورفضتنا وأخذت على عاتقها تدمير ذواتنا وطمس ملامح الإنسانية التي كافحنا لغرسها في ذواتنا بأنفسنا؟
أتذكر كيف كان أبي في صغري يهتم بالأغاني وتسجيل اللحظات وتجميدها في صور ذات إطار ذهبي، و ذات يوم عاد أبي من عمله أنزل الصور عن الحائط والتي كانت صوره وهو يضع النجمة على كتفيه عند استلامه عمله في مغفر الشرطة التابع لوحدة الإنقاذ النهري، وصورة أخرى له أثناء تمرينات الغطس وهو داخل المياه حاملًا أنبوبة الأكسجين، وأخرى وهو خارج حاملًا زعانفه تحت إبطيه وصورنا ونحن رضع وصور أبويه. لم يسلم منه ألبوم صور مزين بورود صغيرة كانت تجمعها أمي وأختي، لا أعلم ماذا حدث له إلا عندما كبرت وأدركت مدى تأثير وتوغل الجماعات الإسلامية في حياتنا، وكيف أنه كان يتغير فيكره عمله في القرى السياحية على ضفاف بحيرة قارون كغطاس مما يجعله يختلط برواد الشواطئ من سياح بملابس كاشفة أكثر مما تستر؛ فكان يجبرنا على التحجب بارتداء الحجاب حتى في المنزل طالما يوجد ذكور في المنزل وهم إخوتي وهو نفسه.
كان أبي مشتت وتائه أدركت حيرته عندما كان يخالف السائد ويصر على تعليم البنات ويفتخر بنا أمام الجميع بتندر أنه الوحيد في الشارع الذي سمح لبناته أن يذهبن للمدرسة، لكني أعتقد أنه كان يشعر بالذنب لأنه انصاع للشيوخ ولم يسمح لأختي الكبرى بالذهاب إلى المدرسة وهي لم تحصل غير على شهادة محو أمية فيما بعد عندما كبرت. ومع إصراري على حفظ القرآن وتمجيد الشيوخ في صغري، وجدتني أتأثر بهم، وسرعان ما أجبرني أبي على ارتداء الحجاب منذ الصف الثالث الابتدائي، لطالما كان شعري طويلًا فكان يصرخ في إذا ما تركته دون لفه و تغطيته، كان أبي غاضباً منا نحن بناته ولكنه يصر أن ننال قسطًا من التعليم، مع استمرارنا في الدراسة وشحن إخوتي إلى العمل في أحياء القاهرة البسيطة في مخابز العيش وجد إخوتي كنزًا غير حياتنا 180 درجة، مما زاد من غضب أبي الكاره للتغيير لاسيما عندما يجده في أبنائه، وجد إخوتي مبتغاهم في القراءة، أليست هي مخدرات الفقراء والمعدمين؟ كانت ملاذهم الوحيد للهروب من رتابة وعنف العمل في حر أغسطس في مخبز فقير مكتظ بأقرانهم هاربي الريف للقمة العيش، انكبوا على القراءة بنهم وحماس وهو ما جعلهم يعودون في موسم المدارس محملين بحقائب بها ملابس قليلة رثة متسخة ببقايا دقيق وردة والكثير والكثير من الروايات الكلاسيكية والحديثة، السخيفة وعظيمة الأثر، كان رد فعل أبي غاضب حيث مزقها وأقسم أنه لو ادخلوا الكتب مرة أخرى إلى البيت ليطردهم منه، ونصحهم بقراءة المصحف بدلًا عن الكتب التي تتلف الرأس.
ولكن إخوتي لم يتوبوا، وكيف التوبة من القراءة وهي الشيء الوحيدة الذي يذكرهم بأدمتيهم! من هنا انتقل ولعنا بالخيال والفانتازيا التي تهبنا إياها القراءة، تبادلنا الكتب سرًا واكتشفنا مخابئ في البيت، كنا نستغرق في القراءة ليلًا عند نوم أبي أو في الحمام، كنا نخاف أن يكشفنا فتصادر الكتب ولا نراها مرة أخرى.
كنا نقرأ الكتب تباعًا من الأكبر للأصغر سنًا، أو من الأسرع للأبطأ في القراءة ونتجمع ونناقش ما قرأنا فيما يشبه الصالون الثقافي عند غياب ابي للعمل. ناقشنا مكتوبات كثيرة، رأينا عالم خارج حدود القرية وجلباب أبي. عشت كثيرًا في قريتي لم أجد من يعيرني كتابًا في الأدب أو قصاصة ورق صفراء كتب عليها شعرًا أو حتى يدخلني مكتبة تحوي ما ليس كتب دينية.
لم أكن أري كتب الخيال أو أي نوع كتب آخر غير كتب تفسير القرآن والأحاديث وأحكام الصلاة وغيرها من الموضوعات الدينية فقط.
أتساءل لو لم تتح الفرصة لإخوتي للعمل في القاهرة، هل كنت سأتغير هكذا؟ وأكون رانيا الفتاة ذات العشرين عامًا التي واجهت قريتها الإسلامية وتخلت عن زي الإسلام وتركت عاداتهم ونقابهم؟
القراءة هي منقذنا
لا قرآن أبي ولا الصلاة التي ضربني حتى أتمها خمس يومياً وأحيانًا ست عندما يجبرني على صلاة الضحى، ولا حتى الدعاء الذي انكببت عليه آناء الليل وأطراف النهار أن أخرج من القرية الظالم أهلها.
للقراءة ضوء ساطع أنار دروب طفولتي وشباب إخوتي، منحنا طوق النجاة من ظلمات القرية وعباءة أبي.