لأول مرة منذ عدة سنوات أجلس أمام التلفزيون لأشاهد مباراة كرة قدم، كانت المباراة بين فريقي الأهلي والزمالك، خيم الغضب وخيبة الأمل على المباراة نظرًا لأن المشاهدين كانوا من مشجعي الزمالك، ورغم أن مستوى المباراة كان شديد الضعف بشكل عام تساءلت عن الفارق بين مستوى الفريقين خاصة عندما علمت أن الأهلي قد حسم الدوري بالفعل. فجاءت الإجابة أن مستوى الأهلي أعلى من الزمالك وباقي فرق الدوري بمراحل. ومع ذلك يظل جمهور الزمالك يتمنى أن يشاهد مباراة ينتصر فيها الزمالك على الأهلي، حتى لو كان ذلك في مباراة رمزية ولن تغير نتيجتها من الأمر من شيء. ومع ذلك لا يزال البعض يشتعل غضبًا لو تحدثت عن الفارق بين إدارة مؤسسة منظمة - كما هو شائع عن الأهلي - وإدارة مؤسسة عشوائية مثلما هو شائع عن الزمالك.
ذكرني ذلك الموقف بحال "مشجعين" الجيش الروسي الذين يتمنون انتصار الجيش الروسي في أوكرانيا - لا لشيء سوى مكايدة الغرب والولايات المتحدة تحديدًا! رغم علمهم بمدى الفساد الضارب في أنحاء الدولة الروسية البوتينية وجيشها العرمرم! ولك أن تتخيل أن حرب يقتل فيها ما يزيد عن 100 ألف إنسان تقوم وفقًا لإرادة عصبة من السياسيين يتلخص تاريخهم السياسي في قتل المعارضين لهم وتسميمهم وحبسهم بتهم ملفقة، وإدارة مجموعات من الجنود المرتزقة لنهب ثروات دول منكوبة بحكومات مشابهة مثل سوريا والعديد من الدول الأفريقية! ولك أن تتخيل أنه في عصر الأسلحة النووية لا يزال العديد منا يتعاملون مع الحروب وكأنها مباريات كرة قدم!
تحدثنا في المقال السابق عن بعض الأضرار الواقعة على البشرية بسبب استمرار ظاهرة "الجيوش" التي توجه أسلحتها ومعداتها ضد بعضها البعض، والتي أعتقد أن نهايتها سوف تكون علامة فاصلة في التاريخ البشري لن يظل ما بعده مثل ما قبله. وفي هذا المقال نناقش كيف يمكن أن تنتهي هذه الظاهرة يومًا ما.
إن شرعية وجود القوة المسلحة داخل أي أمة أو جماعة تأتي من ضرورتها كآلية للدفاع عن مصالح هذه الأمة أو الجماعة التي شكلتها، وعندما يصبح وجود هذه القوة خطر على مستقبل هذه الأمة أو الجماعة - بأن تتحول لقوة من المنتفعين والمرتزقة البيروقراطيين الذين يستغلون أسلحتهم في احتكار ثروات البلاد مثلما كان الحال في معظم دول العالم الثالث - ليبيا القذافي مثلًا - أو تتحول هذه القوة لجماعة من المهووسين بذواتهم مثلما حدث في العديد من أنحاء العالم - أمريكا الجنوبية مثلًا. عند هذه النقطة تتضاءل شرعية القوة المسلحة وقدرتها على حماية الأمة ليصبح من الضروري أن تحل محلها صيغة أخرى للحماية والدفاع، هذا ما يخبرنا به تاريخ اليابان مثلًا عندما ظهر الجيش الحديث بديلًا عن قوات الساموراي. فكيف يمكن أن يتكرر ذلك على مستوى الكرة الأرضية؟
لابد أولًا من الاعتراف بأنه في عالم مثالي، ستعيش البشرية في وئام كمجتمع واحد، خالية من الصراعات المسلحة، حيث يمكن حل النزاعات كلها بشكل سلمي مثلما يحدث داخل البلد الواحد، وحتى لو لجأ البعض في بلد ما إلى حمل السلاح ضد البعض الآخر حسمًا لصراع ما فإن القوة الأعلى تسليحًا وعتادًا لا تكون طرفًا في هذا الصراع، وتتولى قوة إنفاذ القانون مسئولية إحلال الأمن ووقف الاعتداءات بين الأطراف المتصارعة.
أي أنني أرى أنه في عالم مثالي سوف يكون هناك جيش موحد للبشرية لن يتدخل في حل الصراعات السياسية بين البشر بل يكون دوره حماية البشر جميعًا بلا استثناء وبلا تمييز. وهذا يتطلب أن يكون هناك دستور موحد للبشرية يعطي جميع البشر حقوقًا متماثلة بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو العرقية او الثقافية أو الدينية. عالم يحق فيه للإنسان أن ينتقل من أي مكان إلى أي مكان على وجه الأرض دون حواجز وحدود وجوازات سفر.
يقول صديقي تشات جي بي تي أنه "للحد من الحاجة للجيوش، فإنه من الضروري معالجة أسباب النزاع الجذرية. يشمل ذلك معالجة قضايا مثل الفقر والتفاوت وعدم الاستقرار السياسي والتوترات الدينية أو العرقية." ولكنني أعتقد أن إنهاء ظاهرة الجيوش يعد - في حد ذاته - أحد أهم خطوات حل مشاكل الفقر نظًرا للثروات الضخمة التي يستهلكها الإبقاء على الوضع الحالي من حالة التسليح في العالم.
بل أن انشاء جيش عالمي موحد سوف يؤدي إلى زيادة التفاهم والتآخي بين مختلف شعوب العالم التي سيؤدي فيها الجميع الخدمة بجانب بعضهم البعض دون اعتبارات للجنسية او اللغة ولن يصبح ذلك مستحيلًا مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التي ستمكن قريبًا جدًا أي شخص من التحدث بأي لغة يريد التحدث بها. كما أن تلك التقنيات سوف تمكن أيضًا جميع الحكومات من العمل بشكل متناغم - مثلما هو حال الحكومات المحلية داخل الدولة الواحدة - لتحقيق مصالح البشر بشكل عام.
ربما يتولى هذا الجيش الموحد مهمة غزو الفضاء واستغلال موارده أو إقامة مدن صناعية فوق أسطح المحيطات. من يدري؟ المهم أن هذه الظاهرة – ظاهرة الجيوش العسكرية المدججة بالأسلحة ضد بعضها البعض - سوف تنتهي يومًا ما وتعود الأرض ملكًا لجميع سكانها.