الفستان الأبيض.. الطرحة.. الزفة.. والزغاريد، أمور تحلم بها وتتخيلها فتيات كُثُر، وتنتظرن حتى يأتي اليوم المنشود، الذي يتحقق فيه جزء كبير من أنوثتهن.
ربما كانت تلك النظرة للزواج ويوم الزفاف معممة قديمًا في مجتمعنا أكثر من وقتنا الحاضر، حين كان الزواج وتكوين أسرة وبيت هو الغاية والهدف لكل فتاة وشاب، بهم يتحقق المرء ويكتمل شأنه وسط أقرانه، خاصةً لدى الفتيات، اللاتي نشأن على التأهيل ليصبحن ربات بيوت، خصوصًا في القرى والمناطق غير الحضرية التي كانت تتسم بعدم الاهتمام بتعليم معظم الفتيات، أو استسهال تركها الدراسة حين يأتيها "عَدَلها"، بل ورفض فكرة عمل المرأة من الأساس، بعكس عصرنا الذي يمتاز بمزيد من الانفتاح والوعي بحقوق المرأة.
قديمًا كان الزواج يقوم معظمه على زواج الأقارب وزواج الصالونات، وخصوصًا الأخير الذي يعد نمطًا ومسارًا تتشابه فيه احتياجات كل من يسلكه بشكل معروف بالضرورة، فالشاب يُقدم على الزواج من أي فتاة تتوفر فيها احتياجات الرجل في تلك الفترة، والتي يمكن حصر معظمها في أن تكون من بيت حسن السمعة، وأن تكون "شاطرة" في شغل البيت، وأن تكون مطيعة، وعلى قدر من الجمال، ولم يكن للفتاة - أو بالأحرى أهل الفتاة - طلبات في الرجل غير أن يكون قادرًا ماديًا على فتح بيت، وأن يكون حسن السلوك والسمعة، وأن يراعي ربنا في ابنتهم.
كلها طلبات تعد سطحية - أو دعنا نقول بديهية - لا مجال فيها لانجذاب فكري أو إعجاب بشخصية، وبالتالي لا تسمح بالمقارنات وإنما بـ"اللي يلحق"، وهو ما يسبب - في أحيان كثيرة- صدامات بين الطرفين بعد الزواج بسبب اختلاف الطباع، أو يفرض سيناريو أسوأ وهو السلطة المطلقة للرجل على المرأة والتبعية المطلقة من المرأة للرجل، باعتباره العائل الآمر الناهي صاحب القرار وحده.
ذلك الفكر خلق جيلًا من الزوجات هدفهن الأسمى هو الحفاظ على هذا الكيان المسمى "البيت" بكل السبل، باعتباره محقق كيانها كأنثى، ما فرض عليها سقف محدود من التطلعات في العلاقة بينها وبين الرجل، وبالتالي فرض عليها ضرورة تقديم تنازلات أحيانًا إن لم يراع الزوج ربنا فيها ويراع حقوقها، إعمالًا بالمقولة الموروثة "الست الشاطرة ماتخربش على نفسها وبيتها"، كما صوّر فكرة الطلاق على أنها عار يلحق بالمرأة؛ يوصمها أبد الدهر بلقب "مطلقة"، ذلك اللقب الذي كان يجعلها في نظر أهلها فاشلة وفي نظر المجتمع ناقصة، ويزيد الطين فوق رأسها بلّة إن كان لديها أبناء.
أضف إلى ذلك التفسير الخاطئ لبعض نصوص الدين كـ"واضربوهن"، والتفسير الخاطئ لبعض الأحكام الشرعية، والفكرة المعيبة عن قوامة الرجل، ما شكّل نمطًا في معظم البيوت، خلق استقرارًا ظاهريًا يتناسب طرديًا مع طول فترة الزواج، دون التفات –أو فرصة لمعرفة- ما يحدث وما تعانيه أو تتقبله المرأة تحت سقف هذا البيت، كون الزوجة "المحترمة" هي التي تحفظ أسرار بيتها.
أما عصرنا الحالي؛ يمتاز بالعديد من التغيرات التي تؤثر بشكل أصيل في عملية الزواج، منها الاختلاط في المدارس والجامعات والأعمال، ومنها التقبل المجتمعي لعمل المرأة أصلًا، ومنها انتشار فكرة الاستقلالية المادية والنفسية للمرأة، ومنها نتائج الحرب الضروس التي خاضتها - ومازالت تخوضها- المرأة لعقود للحصول على حقوقها قانونًا ودستورًا، بل وزيادة وعي المرأة بحقوقها أصلًا، وغيرها وغيرها من العوامل التي جعلت عملية الزواج في كثير من الحالات علاقة تكافؤية، يختار فيها الشريكان بعضهما البعض من وسط ألوف مؤلفة، اعتقادًا منهما بأنهما الشريكان المناسبان لبعضهما البعض، وعليه لم تعد المرأة المتعلمة العاملة تحت رحمة زوجها، وهو ما لا يدركه الرجال للأسف في كثير من الحالات، ويعتبرونها ندّية تستوجب كسر جناح الزوجة، ما يسبب صدامات وتصدّعات قد تتواصل على مدار أشهر أو سنوات، قبل وقوع القشة القاصمة على ظهر البعير.
بالطبع ما ذكرته ليس السبب الوحيد لعدم استقرار كثير من بيوت الزوجية في عصرنا الحالي، وارتفاع نسب الطلاق بين الشباب المتزوج حديثًا، بل هناك الكثير والكثير من الأسباب التي سأفرد لها المجال في مقال آخر، ولكن منها - على سبيل المثال لا الحصر- الزواج المبكر للطرفين، وعدم تحمل المسؤولية لدى كثير من الجيل الجديد، والزواج السريع غير المدروسة جوانبه، والزواج السهل الذي يتكفل به أهالي الطرفين، وغيرها.
وحتى لا يُفهم كلامي على نحو خاطئ؛ أنا لا أحمّل الأزواج في كل الحالات مسؤولية البيئة السامة، بل أحيانًا تقلب الزوجة حياة زوجها وأبنائها جحيمًا، كما أنني لا أقول إن ارتفاع نسب الطلاق في عصرنا أهون من الاستقرار الظاهري قديمًا، أو إن زواج الصالونات مشروع فاشل بالضرورة على طول الخط، بل هناك حالات استطاع فيها الزوج والزوجة بتفاهمهما إرساء حياة زوجية ناجحة، وتربية أبنائهما في بيئة صحية، ولكن كل ما أقوله - في رأيي - أن الزواج أيًا كانت طريقته فهو مشروع، يحتاج إلى رعاية ومجهود متبادل من الشريكين، وأن فضّ الشراكة أحيانًا يكون ضرورة. لأن ما الفائدة من الإبقاء على شركة خاسرة؟!