هكذا هتفت تلك المجموعة التي بادرت بإلقاء التحية عليها ظنًا مني أن إلقاء السلام كافي لتحقيق السلام. لكن العداء كان سافرًا.
رأيته وسطهم. لم يكن يهتف مثلهم بنفس الحماس لكن كان العجز باديًا على وجهه. انكسار السنوات التي قضاها خلف القضبان جعلته شاحبًا عجوزًا رغم أن عمره لم يصل للأربعين بعد.
لم أستطع أن أوجه له الحديث. شعور خفي بالخيانة منعني من النظر إليه مباشرة. سنوات قضيناها معًا كانت تجثم على قلبي ومع ثقلها في وقتها لم تكن تماثل شيئًا مما أشعر به الآن كلما تذكرتها وتذكرت أنني سكتت عنها مجبرًا لكى لا تعود مرة أخرى.
"مش عاوزينك. مش عاوزينك".. هكذا استمر الهتاف. هتاف لم أعره اهتمامًا كأنه لا يعنيني. ولكنه كان يقبض قلبي ويحركه. ربما لو صمتوا قليلًا لاستعدت توازني. هكذا فكرت.. لكنني فكرت أيضًا أن الصمت أشد قسوة من هتافهم هذا. أن هتافهم يشي بغضبهم أو بغضب من يحركهم من خلف ستار لا يستره.
"إن الله لا يصلح عمل المفسدين". هكذا قلت له ببساطة وتلقائية وحماس عندما حدثني لأول مرة عن الإصلاحات التي يراها تتحقق والتي لابد من أن يكون لها ضحايا. حتى لو كنا أنا وهو من هؤلاء الضحايا. كانت الأساور الحديدية التي تربطنا معًا شاهدة على حديثنا هذا.
"إن الله لا يصلح عمل المفسدين". جملة تلخص كل شيء ولذلك صارت جملة ممنوعة في عرف دولتهم.
فالحزب النازي لا يمكن أن يقبل أن يصفه أحد ضحاياه بالفساد.
والأحزاب اللصوصقراطية أكثر تشددًا في مقاومتها لمكافحة الفساد من الأحزاب النازية. فعلى عكس الحزب النازي الذي يرى في الموت من أجل قضيته مجدًا ورفعة، ويرى الدمار الذي يلحق بصفوفه وصفوف مواطنيه ثمنًا لهذا المجد، لا ترى الأحزاب اللصوصقراطية المجد إلا في النهب المنظم أحيانًا والعشوائي في أحيان أخرى. وترى الحديث عن مكافحة الفساد اعتداء غير مقبول على سيادتها يجب مواجهته بكل قوة.
وعلى عكس الأحزاب النازية التي تجتهد في تطبيق شعاراتها على أرض الواقع مهما كان الثمن، لا تعبأ تلك الأحزاب بالشعارات التي ترفعها ولا بعدم تحققها، فالأمر لا يعدو كونه تلاعبات لفظية ركيكة لإضفاء شرعية ما على عملية النهب التي هي محور وجودها وتماسكها.
ولذلك لم يعني هتافهم لي الكثير.. لا يهم ما تلفظه ألسنتهم ما دامت الأوامر لم تصدر بعد من القيادة اللصوصية العليا بالفتك أو الصفح. لم يكن الأمر ليختلف كثيرًا عما لو كانوا يهتفون بالروح بالدم نفديك يا فلان. تصديق ذلك الهتاف ليس بأقل سخفًا من تصديق عكسه.
فالصدق - الذي يعني مطابقة المقال للحال - لا يعرف لهم طريقًا.
مع ذلك كان الأمر ضاغطًا على أعصابي.. حتى لو كانوا لصوصًا مأجورين تحركهم أوامر أسياد أكثر جبنًا من أن يواجهونني بأنفسهم فالأمر لا يخلو من مخاطرة ولا يخلو من تهديد.
ليتني رحلت عندما سنحت الفرصة. هكذا فكرت متذكرًا كم الفرص التي سنحت لي ورفضتها. لكن أليس هتافهم هذا فرصة جديدة تظهر نفسها لي؟ أليس من الذكاء انتهاز تلك الفرصة والرحيل للأبد هذه المرة؟ ليتني كنت المقصود بهذا الهتاف!
نظرت له نظرة أخرى. نظرة تأمل لا استنكار. يقف وسطهم. يتمتم مثلهم. أحب أن أتصور أنه لا يوافقهم على ما يقولونه ولكنه مضطر للتماهي معهم، من يدري، ربما هم أيضًا يتمتمون بما قيل لهم مجبرين على المشاركة في هذه المهزلة!
لا أعلم يقينًا.. لم يتحاشى نظراتي ولم اتحاشى نظراته! هل خوفًا من الشعور بالدونية أم خوفًا من مسئولنا بالحزب؟!