مراجعات سجين سابق.. الساعات المعكوسة

في الحياة نلاحق الوقت، نحاول أن نروضه ونستأنسه، ونحاول أن نجاري ونلاحق أعمارنا لتتناسب مع طموحاتنا وأحلامنا، وحتى إن لم نستطع مجاراة الزمن يكفي أن لا نجعله يمر من أمامنا ويتخطانا من دون أن ننال منه ما يجعلنا قادرين في نهاية حياتنا أن نستمع إلى أغنية My Way بابتسامة رضا عريضة لأننا لا نملك من الندم إلا القليل.

ولكن بعض التجارب في الحياة تجبرنا قسرًا على فقدان إحساسنا الفطري بقيمة الزمن، ففي السجن عدوك الأول والأخطر هو الوقت، تسابق نفسك لاستنزافه والقضاء عليه وفعل أي شيء لانقضائه، حتى وإن كنا نعلم أن هذا الوقت يمضي من أعمارنا ولكن لا نمانع أن يمضي بل نسعى إلى ذلك بكل طاقتنا.

ونبدأ بالقراءة حتى تنتهي الكتب، نقرأ حتى مناقصات الجرائد وصفحات الوفيات وقسم المناسبات والتهنئة السعيدة بخطبة العروسين ولا أعلم ما أهمية تهنئة عروسين في عصرنا الحالي في جريدة قومية؟!

ثم نبدأ في التأمل وإدراك مسلمات كانت غائبة عن نظرنا، إما تحت تأثير الغرور أو النشوة أو الاندفاع أو الإفراط في المخدرات أو كل ما سبق.

ولكنك تدرك أنك لست إله. هو خبر صادم جدًا وتعيس ولكنه واقعي، للأسف عندها تعي أن إرادتك الحرة كانت وهم، وأنك غير قادر على تغيير العالم، ومهما كانت إمكانيتك ومهاراتك لن تستطيع أن توقف البؤس، وأن ألوان العالم لن تفتح فجوة في الأسوار. وأن نبشك في الجدار سوف يصيبك مع الوقت بألم في مفاصل أصابعك ولن يتأثر الجدار، وتدرك هيبة الحديد وقوته وجبروته وخسته.

ثم تقيم مواقفك السابقة وتعيد صياغة أفكارك، ثم تكتشف بعد كل هذا أن الوقت لم يمضِ وأن عقوبتك مستمرة، وأن مجهولية المدة تعني أنها رياضيًا لا نهائية، فتعود للتأمل والتفكير وتصنع أسئلة للإجابة عليها، ثم تحسن إجاباتك الفلسفية، ثم لا ينقضي الوقت.

ثم وبدون مقدمات تنتهي عقوبتك وتخرج إلى الحياة بشعور حاد وإحساس بكر كأنك ولدت اليوم، فكل شيء له مذاق أول مرة. تعيد اكتشاف وصياغة الأحاسيس وتستمتع بشعور المرة الأولى، وتشعر أن هذه هبة ومنحة. فما الذي كان قادرًا على إعطائي شعوري بأول قبلة مرة أخرى؟ أول لمسة أو تذوق لكل شيء حتى الطعام الساخن والماء المجمد، كأنك الانسان الأول يكتشف رفاهة الحياة ومتعتها.

ولكن وسط هذه السعادة تنظر إلى ساعتك البيولوجية والإدراكية فتكتشف أن عقاربها تلف للخلف. لم تعد تدرك أهمية لحاقك بالزمن والسيطرة عليه، وما زالت لديك عادة انقضاء الوقت حتى وإن كنت تعلم أنه ينقضي من عمرك، تحاول أن تدرب عقلك على أهمية الأولويات وأن خدعه المستمرة في خلق أسئلة للإجابة عليها لتمضية الوقت لم تعد ذات قيمة، فالحياة تمضي ولا عائد من استهلاك الساعات في إيجاد إجابة على سؤال مثل: هل تغريد العصافير بهجة وسعادة وفرح أم من الممكن أن يكون نحيب وصراخ؟

يجب أن أقنع عقلي أن الواقع أنه سواء كان تغريدها نحيب أو غناء هذا لم يمنع «أم عبده» في موقف السيدة عائشة من قليهم في الزيت وبيعهم الخمسة بعشر جنيهات، وأني لست أفضل حالًا من العصافير المسكينة، ولن يكفيني تغريدي وأحلامي وطموحاتي من الفرار من مصير يشبه مصير عصافير أم عبده.

يجب علينا أن ندرك انعكاس الترس والإدراك إن كان نصف المشوار كما يقولون ولكنه أهونه، يجب أن نحارب الوقت ونحارب أنفسنا الجديدة، أن ننحت أرواحنا بإصرار أن تعود لأننا لا نملك إلا أن نعود.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة