سؤال الهوية في الحوار الوطني

جاء مصطلح الهوية في اللغة العربية علي شقين، من كلمة هو أو هي التي تحمل كل الصفات التي تميز شخص عن غيره، وتضاف آداة التعريف «ال» إلى هو او هي لتصبح ” الهوية “، واذا كانت الهوية الشخصية تعرف شخصًا بشكله ولونه وصفاته وسلوكه وانتمائه وعرقه، فالهوية الوطنية أو القومية هنا تدل علي ميزات مشتركه يحملها مجموعة من الأفراد لهم نفس هذه الصفات في مجتمع واحد يجمعهم نفس التاريخ والحضارة والأزمات. ولأن الله لم يخلقنا متشابهين وإنما في حالة تغير دائمًا، لذلك لا يمكن الرهان على ثبات الهوية أبدًا ولكنها دائمًا متطورة تضم كل يوم سمات وصفات مع الوقت أكثر مما قبلها.

تعبر الهوية عن حقيقة الشيء المطلق المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره، و بالتالي الهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري المشترك بين سمات هذا الشعب الذي تميز حضارته عن غيره من باقي الحضارت والمجتمعات المحيطة، متأثرًا أيضًا بموقعه الطقسي وموقعه الجغرافي.

وعلي الرغم من أن أغلب التعريفات اتفقت على أن لا وجود لشعب دون هوية، فأن بعض الشعوب تتعثر في الوصول لهويتهم وخاصة أثناء الحروب والانقلابات او ان تكون المجتمعات نامية منخرطة فقط في تأمين مصادر تجعلها علي قيد الحياة. ولكل فرد في المجتمع رحلة بحث خاصة عن ماهيته الحقيقة ودورة في الوطن الواحد.

ولد سؤال الهوية المصرية من جوف العشرينات والثلاثينات، الوقت الذي كانت فيه مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، لذلك الشعور دائمًا بالهوية يأتي من جوف النكبات، وبعدها تمكن الحضارة وتبرز أثر لتجسيد الهوية الحقيقية للشعب، ولا جدال على أن الفن والثقافة هي منبع الحضارات، وتميز هوية أي حضارة عن الأخرى، و بالتالي مع ظهور تمثال نهضة مصر وغناء سيد درويش ونضال زعيم الأمة سعد زغلول و بدأ زمن التنوير وتحرير المرأة وإنشاء أول برلمان مصري عام 1924 م كان كافي لإجابة أي مصري وقتها عن هويته وعن قدراته في التعريف عن نفسه أمام الاحتلال والصراعات والأزمات، و بعدها قدم لنا أسامة أنور عكاشة شخصية مسلسل حسن أرابيسك صاحب الحرفة الذي تقابله صراعات التطور والمتشبث بحرفة والده اليدوية، ولكن التقدم كان قدم للمهنة تشكيلات جاهزة بلا روح وبلا بصمة فنية وكان يصارع من أجل مهنته و استمرارها، وقدم لنا أيضًا زيزينيا وليالي الحلمية، كلها أعمال فنية قدمت لنا هوية المواطن المصري وسماته في الوقت ذلك ومحاكاته أيضًا في الواقع في الوقت ذلك.

أعتقد أن سؤال الهوية كان أقدم من العشرينات إلى عصر ما قبل الميلادي، وإلا كيف وصلتنا الحضارة الفرعونية بأثارها وأهراماتها ومقابرها وسر التحنيط الذي يحير العالم كله ولم يكتشف بعد، ومع اكتشاف شامبيلون إلى حجر رشيد جعل للهوية المصرية ملامح تجعل الفرد يسأل من أين بدأ، كل هذه الحضارة هي  في الأصل (هوية)، ولكن كان بالتأكيد المصطلح في وقتها له أبعاد أخرى أو تعريف آخر تداركناه مع الوقت والتطور منذ بدء الحضارة المصرية إلى اليونانية والرومانية والاحتلال حتى وقتنا المعاصر، ولكن كانت الحضارة المصرية بثقافتها و تنوعها حتي الديني قادرة على الحفاظ علي هويتها وسط كل هذا العراك والتطور التراكمي لبصمات متكررة على هذا الوطن.

المعارك لا تأتي دائمًا في هيئة حروب وأفراد يحملون الأسلحة، لكنها ممكن تأتي في هيئة تشكيك في الهوية المصرية. منذ فترة ظهرت حركة الأفروسنتريك، تأسست الأفروسنتريك أو «الحركة المركزية الإفريقية» على يد الناشط الأميركي الإفريقي الأصل موليفي أسانتي في فترة الثمانينيات، من أجل تنمية الوعي حول الثقافة الإفريقية عبر التاريخ، وتسليط الضوء حول تلك الهوية وأهميتها لاسيما في الولايات المتحدة وأوروبا، وقد آثار الجدل شبكة النيتفليكس لتقديمها الفيلم الوثائقي كليوباترا وهي تظهر الملكة سوداء اللون بشعر مجعد، على غرار حقيقة شكل كليوباترا الذي جسدته آليات العلم الحديث عن طريق الذكاء الاصطناعي الذي جسد الملكة عن طريق شكل المومياء والتماثيل بشكلها الحقيقي وملامحها المصرية، ولم يتراجع المواطن المصري المعروف بذكائه وعلمه ودرايته بتاريخه وهويته المصرية، لذلك اتهم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في مصر المنصة العالمية بتشويه وتزوير المعطيات التاريخية الثابتة، واعتبر البعض أنها تحاول طمس الهوية الفرعونية المصرية.

إشعال نيران طمس الهوية الفرعونية حث الكثير من وسائل الإعلام على تنشيط ذاكرة المصريين بهويتهم المصرية وتاريخنا الذي درس على مر العصور لا لشعبنا المصري فقط لكن لكل العالم والحضارات الأخرى، فالحضارة المصرية وتاريخنا العريق الذي به اسرار تكتشف كل يوم و وأخرى لم تكتشف بعد تعتبر غنائم لبلاد كثيرة، وأيضًا علم له مريدين من كل العالم ما زالوا متأهبين لاكتشاف المزيد عنه مما يجعلنا ثقافتنا وحضارتنا مطمع لكل الأجناس.

الحوار الوطني افتتح أولى جلساته في المحور المجتمعي بالهوية المصرية، وافتتحه الدكتور أحمد زياد بحديثة عن العولمة وتأثيرها على الهوية في المجتمعات وتأثر الهوية المصرية بالدين وتفسيراته، وأن هذا السؤال طرح نفسه في المجتمع منذ أن ولج في إطار الحداثة المعاصرة. قال الفنان محمود حميدة عن الهوية المصرية إن غياب اللغة العربية عن التعليم الأساسي يمثل تهديد مجتمعي، وأنه يحرص دائمًا على التحدث باللغة العربية في لقائاته بالخارج، وكان هناك بصيص نور في كلمة ومخرجات للحوار في كلمة مصطفي محمد عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، بضرورة وضع آلية محددة عن كيفية تنفيذ الاستراتيجية الخاصة بالهوية الوطنية، حيث تكون رأس الحربة فيها وزارة الثقافة والمؤسسات التعليمية والدينية.

جاء دكتور حنا جريس بكلمات منقطة و باختصار مفيد وهي أكثر الكلمات التي أعجبت بها في الحوار، وقال في أولى نقاطه أن الهوية المصرية والتعريف بها هي احتياج، احتياج للانتماء وأن الفرد يحتاج أن ينتمي إلى وطن، وهي أمان نفسي واجتماعي، وبالتالي ما يخص الهوية الوطنية بقدر ما يتشكل الشرود داخل المجتمع بقدر ما يكون إيجابي أو سلبي. والنقطة الثانية هي أن الهوية الوطنية هي مفهوم حديث من القرن الـ19، وأن طوال الوقت المشكلة الحقيقة الوحيدة التي تقابل المواطن هي مشكله تعريفية تكمن في الجامعة.

و استكمل د.حنا جريس أن المشكلة هي مشكلة النخبة وليس الناس في تشكيل الهوية المصرية المراد تعليمها للأطفال في المدارس وحتى في الجامعة، المشكلة هي في مصنع التفكير في الأساس وتعليم الهوية في المدارس والجامعة، عندنا مشكلتين الربط بين المعرفة والأيدلوجيا في الجامعة والربط بين قضية الهوية والصراع السياسي، الاثنان أدخلونا في مسار تفتيتي، هويات مفتتة ومنقوصة يضطرنا إلى التنازل لبعض المراحل لضمان سياق سياسي معين.

وضع د.حنا جريس يديه على جذر المشكلة الحقيقي الذي نفتقده، وهو أننا ليس لدينا تعريف واضح يمكننا أن ندرسه لأطفالنا في المدارس والجامعات، أعتقد لذلك لجأ مصطفى محمد في توجيهه حديثة إلى وزراة الثقافة والمؤسسات التعليمية والدينية، لذلك أيضًا لم يطرح أكثر من ذلك في الحوار من مقترحات يمكنها الفصل أو الجزم في مسألة الهوية، لأنها مسألة معقدة ومتراكمة مع التراكم الثقافي والمجتمعي كل يوم.

كنت أرغب أن أرى في الحوار دكتور أو باحث جليل في علم الهوية المصرية يمكنه أن يعطينا مسودة أكبر من ذلك، يمكننا ان نبدأ منها في إعطاء المواطن المصري إجابة واضحة، كان يمكن للحوار أن يقدم أكثر من تعريفات يمكن الوصول إليها عن طريق بحث صغير على محركات البحث على الإنترنت، كان يمكن لوحدات أبحاث الأحزاب أن تقدم أوراق بحثية متعمقة أكثر من ذلك.

أنا أعلم أن مدة 4 دقائق لم تكن كافية للجميع، لكن أفادنا خلالها البعض والبعض الآخر أعطانا تعريفات بديهية معلومة، وفي النهاية ستظل الإجابة لكل شخص منا مختلفة عن الآخر باختلاف هويته من منظوره الخاص، لأن هنا على أرض الواقع تقع هوية كل مواطن في مصر حسب نشأته والمحافظة التي نشأ فيها، كما يقال بالعامية (إن المصري ليس له كتالوج)، يجمعنا نفس التاريخ والحضارة والثقافة لكن في نفس الوقت هي مختلفة في عين كل مواطن، سوف ترى هذا بوضوح عندما تقارن أهل السويس بأهل القاهره بأهل الصعيد ومقارنتهم بأهل بحري وأهل النوبة، كلنا تجمعنا مصر وهويتنا مصرية، ليس كل الدروس يمكنك أن تتعلمها في المدرسة وأن تحمل شنطة العلم على عاتقك، لكن هنا في الدنيا يمكنك أن تتعلم أكثرعن حكاوي بلدك ووقفاتها أمام العدو، وعن ثرواتها وثوراتها، عن فنونها الشعبية و فنونها التشكيلية، المخرج الحقيقي الوحيد لتعريف الهوية في نظري هي أن الهوية المصرية هي الجين الذي يجري في دماء المصريين باختلافهم حتى في طريقة حديثهم للغة العربية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة