يتردد في ذهني كثيرًا «يا بخت المواطن الأوروبي ولا الأمريكي»، صحيح أني لست الساذجة التي تعتقد أن حياتهم «بمبي» وأن بلادهم «جنة» حتى لأصحابها، لكن على الأقل عندهم حياة ووطن ودولة. على الأقل بلادهم ليست «جحيمًا».
كيف تستطيع أن تعرف ما تريده حقًا إذا لم تكن حُرًا؟
ومتى كنا أحرارًا في بلدنا؟
نحيا صراعات مخجلة، في الوقت الذي يتظاهر فيه البشر لدعم حقوق البيئة وزيادة مساحات الترفيه، مازلنا ندون خوفًا ونأمل أن يصنع فرقًا في تخفيف فولت الكهرباء الذي يصعق به رفاقنا وزملاء الحلم الآن في أقباء أمن الدولة. عذرًا أقصد الأمن الوطني.
يبدو أني مازلت - لسه على قديمه- ويبدو أيضا أنه لست أنا وحدي، بل الدولة كلها لسه على قديمه، ويبدو أن هذا القديم يسحبنا خطوة خطوة نحو عصور الظلام في أوروبا، وحين يحاول أن يقفز للأمام يهبط على حقبة النازية الأوروبية. وهكذا بقدمين غير متزنين يتأرجح بين دم ودم.
ربما يجب أن أنبه هنا أن هذه القطعة - لن ترتقي إلى مقال- مكتوبة تحت تأثير رؤية السفاح بشار الأسد يصافح رؤساء المنطقة في جامعة الدول العربية، وتحت تأثير اختفاء صديقي الذي تبادلنا منذ بضع أيام الرسائل والمجاملات الرقيقة معاذ الشرقاوي، وتحت تأثير الحرب المستمرة في السودان قتلًا وتدميرًا، وتحت تأثير قتل سيدة في العراق من أخواتها بعد اختطافها بسبب طمعهم في الميراث، وتحت تأثير القصف الصهيوني على الأراضي الفلسطينية وسقوط شهداء نساء وأطفال.
الممنوع مرغوب. تلك القاعدة ما خابت، حتى حينما تتحكم في رغبتك لسبب ديني أو اجتماعي أو أمني، تظل الرغبة موجودة ولو مدفونة في مستويات عميقة من عقلك الباطني لا تدركها أنت نفسك.
«حاسه ان السما أقرب»، قالت لي وهي تشاهد معي المدينة من كاميرا هاتفي، كانت تتكلم حرفيًا. لكن ظلت تتردد في خاطري حتى لحظة كتابة هذا المقال مجازيًا، «السما هنا أقرب».
لم نشهد موت ثورتنا فقط حينما ضل عنا الموت في سنوات الثورة الأولى، بل شهدنا موت مدائننا، وشعبنا، وثقافتنا، وفنونا، رأينا الأخضر يحال رمادي، ورأينا البحر ينحجب، والأسوار ترتفع ومدن ومناطق جديدة تبنى لهم.. ماتت أماكننا وضحكاتنا وأحلامنا.
رويدًا رويدًا رأينا الموت ينسل خفيفًا ثقيلًا على كل ما نحب ونشتهي، حتى أصاب أجسادنا فتداعت الأمراض علينا، وشهدنا الشمس تنطفئ في بيوت عطنة لم يعد يزورها ضي قمر ولا نور شمس، وتفرقت أسر وزادت مجاعة واشتعل غضب كان مدفونًا يظهر سلوكًا عدوانيًا وكنا نحن النساء أول من تحصلنا على نصيبنا من كل هذا بطبيعة الأحوال.
شابت رؤوس شباب، انحنت جبهات الأحلام، وتبعثر رُفات بقايانا، على نهر مهدد بالجفاف. جاء الموت بلادنا ولم يرحل حتى الآن، يمشي بيده يتحسس الأخضر فيُحال رمادي، ينظر لأثداء الشابات فتجف كالزبيب اليابس من بعد عنبٍ يافع، يدفع الشاب دفعة في ظهره فيرتخي العمودي منسحبًا للداخل.
ذبلت الشوارع كما ذبل الأناس، وعم الخراب الشعب الذي ثار، أما الذين تمسكوا بالظلم فقد نجوا في مدن جديدة مبنية كالقلاع، زهورها وردية وأشجارها عالية وبيوتهم واسعة والشمس زائرة لا تودع إلا إذا حل الليل أنيسًا لأهلها، على رؤوسهم ريش نعام، وفي بطونهم لحمه.
تلك الصورة التي أصف ليست نبع خيال، بل هي نبع الموت الذي الذي أراه قد أصاب شابة صبية حاولت أن تتعافى من اغتصاب دام أعوامًا فإذا بها مصلوبة على جدران الغاصب لا تموت سريعًا فتُرحم ولا يتحرر قيد فتستكي.
أسجل تلك المشاعر هنا لتبقى. أرى الفرق بين هنا وهناك وأحزن، أشاهد أناسًا تلمع عيونهم ويتبادلون القبلات والحب، يمارسون الرياضة ويتقاضون أجورًا عادلة ويتمتعون بحرياتهم كلها دينًا وجنسًا وسياسة وفنًا، وينتقدون الأوضاع ويسخرون من نظامهم وحكامهم ويريدون الأفضل، وأنا مازلت أخفض صوتي إذا تحدثت عن وضع وطني، وأحاول أن أعالج جرحًا صنعه قيد حديدي، وورمًا يظهر كلما بكيت في عنقي، واحتياجات لا تشبع للحب في وطني. ولسان يثقله القول والصمت معًا.
تصادقت مع مشاعر الحزن والخيبة في صديقة سودانية تقابلنا هنا على أرض غربية وحملنا معًا وطنًا جريحًا.. وسؤالًا لا ينفك يبحث عن جواب، لماذا؟
خيبتنا نبلعها.. وغضبنا نبصقه.