“الحر حقُا .. لا تستعبده الحياة”

لو اتفقت معي على حقيقة أننا محدودو القدرة إمام الكثير من مكونات العالم الذي نعيش فيه، وحقيقة أننا لا نملك الكثير لفعله إزاء أشياء محورية في حياتنا مثل حوادث القدر ومرور الزمن وآثاره علينا – المتمثلة مثلًا في الشيخوخة – والاحتياج سواء المادي أو العاطفي، وأشياء نخضع لها أو تخضع لنا الآخرين مثل القوة والسلطة والمال، وأشياء نخشاها بشدة مثل الموت، أو رأي المجتمع أو المجهول وأشياء نطمع فيها أو يطمع فيها الآخرون مثل الملك والشهرة والتفوق.. إلخ.

لو اتفقنا على أن كل هذه الأشياء موجودة بالفعل، وأن تأثيرها علينا ظاهر ومحسوس بشكل لا يمكننا الجدال في كونه تأثير حقيقي، وأنه لا مجال – على الأقل حتى كتابة هذه السطور – للتخلص منها أو الادعاء بأن تأثيرها غير مهم، فيمكنني أن آخذ الموضوع خطوة للأمام وأقول – دون مبالغة – أن الخضوع لتأثير بعض تلك الأمور هو تأثير استعبادي، بمعنى أنها تسيطر على عقولنا وتشكل أفكارنا وتوجه تحركاتنا ومواقفنا كأننا عبيدها بشكل أو بآخر.

فالذي يحيا في خوف دائم من الموت، أو تلك التي تحاول بكل ما أوتيت من وسائل إخفاء حقيقة شيخوختها، والذي يبذل كل شيء في سبيل المال خوفًا من الفقر، والذي يدفن ضميره خوفًا من السجن، والذي يبذل كل ما يملك في سبيل رغبة تتملكه أو متعة يطمع في الوصول إليها ولا يشبع منها. كل أولئك يمكنني اعتبارهم مستعبدين عند تلك الأشياء التي يخشون منها أو يطمعون فيها، حتى لو قاموا في نفس الوقت باستعباد آخرين غيرهم لتحقيق مآربهم أو الهرب من مخاوفهم.

عندها ربما تتفق معي في القول بإن مقاومة تلك المخاوف أو المطامع وعدم الخضوع لها يوسع مساحة الحرية التي يتمتع بها الانسان، حيث أن من يحيا دون خوف يطارده ودون طمع يسوقه، فإنه هو الحر حقًا.

الحر حقًا.. لا تستعبده الحياة

فإن اتفقنا على ما سبق، أن هناك قوى أكبر من أن نستطيع هزيمتها، وأن التحرر من سيطرتها علينا هو ما تعنيه كلمة الحرية حقًا، فإذًا يمكنني أن أجادل أن الله، أو الكيان الأسمى، أو أياً كان ما تسميه به، هو أيضًا لا يمكن هزيمته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو وحده القادر على تجاوز أي قوة أخرى والتعالي عليها لأنه – بالتعريف – أعظم من أي قوة وسابق على أي قانون.

وبالتالي فإن العبودية له هي العبودية «الحقة» الوحيدة، وعندما تكون تلك العبودية اختيارية ناتجة من اختيار عقلاني حر فإن هذا الاختيار يفتح الباب للتحرر من الخضوع لأي قوة أخرى لا يمكننا هزيمتها، سواء كانت ملاصقة لحياتنا – مثل الموت أو المجتمع – أو عابرة فيها مثل السجن أو الفقر، فنحن لا يمكننا التخلص من الخوف من الموت أو الألم الذي يصاحبه موت أحبابنا، فهذا الخوف وهذا الألم جزء من طبيعتنا البشرية، ولكن الإيمان بالله يجعل الرعب المطلق من الموت – كونه نهاية وجودنا وإدراكنا – يتحول لطمأنينة وقبول كونه مجرد جزء من رحلة وجودنا التي صنعها الله، ولذلك فإن عبوديتي لله – الحى المستمر الأبدي – وإيماني به حررني من عبوديتي للموت التي كانت ناتجة عن خوفي المطلق منه بوصفه آخر الحياة.

كذلك ذلك الخوف القاتل من الفقر والطمع المرضي في التملك يتراجعان في قلوبنا عندما نؤمن بأن الرزق بيد الله أرحم الراحمين، كذلك ذلك الخوف من المجتمع وسجن «كلام الناس» يكاد يتلاشى عندما نرى الناس بنظرة الأخوة الإنسانية والشفقة الرحمانية والحب المبهج للحق ولقول الحق كما هو بلا انكسار أو اعوجاج خوفًا من مخالفة الحاكم الحق وهو الله، وكما أن ذلك الاندفاع المحموم نحو الرغبات والشهوات يتضاءل أمام الصلة المستمرة مع من هو مبدع كل جميل، كما أن الرغبة المستعرة في التملك والعلو بين الناس يطفئها التأمل في عظمة ملك الله وسعة قدراته أمام ضآلة كل ما يمكننا الحصول عليه في حياتنا القصيرة.

بالطبع الإيمان يزيد وينقص، ومخاوفنا وأطماعنا ورغباتنا لا يمكن التخلص منها بشكل كامل، بل لا يجب علينا أن نحاول التخلص منها بشكل كامل لأنها جزء من إنسانيتنا، ولكن عندما نضع الأشياء في حجمها الحقيقي فإننا نبدأ طريق حل أزمة وجودنا، لأننا نرى الحكمة في كل شيء مهما بدا غير مفهوم، ونرى الرحمة في كل شيء مهما بدا قاسيًا أو مؤلمًا، ونرى الحب في كل شيء مهما كان مكروهًا، ونرى الحياة في كل مكان مهما بدا ميتًا ومهجورًا.. لأننا نرى الله بقلوبنا، ونرى كل شيء أصغر منه.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة